العلاقات المغربية الفرنسية إبان الثورة الفرنسية الكُبرى (1789م):

بقلم: محمد بوداس/ أشعار محمد بوداس

عرف المغرب خلال تاريخه المُمْتد تباينات على مستوى فاعلياته في أحداث المتوسط، فالمغرب المُرابطي والمُوحدي ليس كالمغرب الوطاسي، فكلما كانت الدولة المركزية قوية داخليا إلا وانطبق ذلك على المستوى الخارجي، أي أن للدولة فعالية أكبر على المستوى الخارجي، ولا يخفى على أن المغرب بموقِعه الجُغرافي الاستراتيجي  كان ولايزال بِمثابة المعبر الرئيسي لتأثيرات القارة الإفريقية في نظيرتها الأوربية مما جعل المغرب يتأثر ويؤثر في مجريات  العالم المتوسطي.[1]

السياسة المغربية الخارجية

لكن هذه العلاقات لم تكن متشابهة في سيرورة أحداثها، فقد تميزت كل فترة بخصوصيات، فكلما تغير الوضع الداخلي للمغرب إلا ورافقه تغيير على مستوى علاقته الخارجية، فالسياسة المغربية الخارجية حكمتها مجموعة من الظريفات، الأمر نفسه  ينطبق على الضفة الشمالية للمتوسط، فكلما استقر الوضع الداخلي إلا ورافقه تغيير علي المستوى الخارجي.

التوازن السياسي بين المغرب وأوروبا

إذن فإذا كان المغرب قد حافظ على نوع من التوازن  في علاقته مع أوربا في بعض الفترات، فهذا لا يمكن إسقاطه على كافة الفترات التاريخية، فبحلول القرن الثامن عشر بدأت تظهر الهوة[2]، فبدأ الغرب الأوربي يشعر بالتفوق، إذ ذاك على كافة الجوانب (عسكريا، اقتصاديا، فكريا) هذا التفوق الذي تأتى من خلال تراكم مجموعة من الأفكار والاكتشافات التي عرفتها أوروبا منذ عصر النهضة ،حيث تراكمت المعارف وأدت بأوروبا للتقدم، حيث صارت أوربا نحو ” الانفتاح الكوني”، ليأتي القرن التاسع عشر على حد تعبير المؤرخ “رينيه ريموند”:” القرن التاسع عشر قرن التحولات العظمى، فقد أينع فيه وعظم غرسان يعودان إلى القرن الثامن عشر.

الثورة الفرنسية والثورة الصناعية بإنجلترا

وهما الثورة الفرنسية والثورة الصناعية بإنجلترا. وبفضلهما استطاعت أوروبا تجاوز المجتمعات البشرية الأخرى، فلأول مرة في التاريخ البشري أصبحت أوروبا في موقع المركز بين الحضارات الإنسانية، ووجدت الشعوب الأخرى نفسها مضطرة إلى إعادة ترتيب أوضاعها حسب هذا المعطى. ولأول مرة أيضا منذ ظهور الحضارة على وجه البسيطة تحولت أوروبا من قارة تستقبل موجات الهجرة إلى قارة تصدر البشر والتقنية والأفكار.[3]

كان العالم الإسلامي خلال القرن الثامن عشر يسير في درب التخلف والانحطاط، والمغرب هو الأخر لم يسلم من الركود الفكري، الأمر الذي سيكون له تأثير بليغ على مستوى العلاقات الخارجية المغربية.

العلاقات المغربية الأوربية

كانت العلاقات المغربية الأوربية متجذرة في التاريخ، فالموقع الجغرافي أهم شاهد على ذلك، فأوروبا ربطت مع المغرب علاقات تجارية ودبلوماسية…منذ القدم، أما العلاقات المغربية الفرنسية فيمكن إرجاعها حسب ما جاء في كتاب “المغرب والثورة الفرنسية” لعبد الحفيظ حمان، إلي القرن السادس عشر وبالتحديد إلي سنة 1533، فقد أرسل ملك فرنسا فرانسوا الأول أول سفير فرنسي إلي المغرب (فاس) برئاسة بيير دو بيتون [4] ومنذ ذاك التاريخ والسفارات  في تبادل مستمر بين البلدين.

أسباب الثورة الفرنسية

والأمر ينطبق كذلك على فترة ما قبيْل الثورة وبعد انفجار الثورة الفرنسية التي تعددت أسبابها من ما هو اجتماعي، سياسي، اقتصادي وفكري الذي يعتبر من أهم هذه الأسباب في نظرنا؛ فقد اجتاحت أوروبا زوْبعة فكرية أُطلِق عليها “عصر الانوار”. يقول إيمانويل كانط: “أما بالنسبة للتنوير، فلا شيء مطلوب غير الحرية بمعناها الاكثر براءة، أي تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين…

الزوبعة الفكرية الناتِجة عن أعمال عظماء الفكر الأوروبي

إن الاستخدام العام لعقلنا لا بد أن يكون حرا في جميع الحالات وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالتنوير إلى البشر”[5]هذه الزوبعة الفكرية الناتِجة عن أعمال عظماء الفكر الأوروبي مثل الألماني إيمانويل كانط مؤسس الفلسفة النقدية والمثالية الألمانية، التي سنجد لها مكان عند مفكرين آخرين فيما بعد. كما جاء فكر جون لوك مناديا بالحرية والمساواة، يقول جون لوك معرفا الدولة: “ويبدو لي أن الدولة جماعة من الناس تكونت لغرض وحيد هو المحافظة على خيراتهم المدنية وتنميتها. وأنا أقصد بالخيرات المدنية: الحياة والحرية وسلامة البدن وحمايته من الألم، وامتلاك الأموال الخارجية مثل الأرض والنقود والمنقولات إلخ[6]، وقد هذه الأفكار أثرت على كافة مفكري أوروبا فيما بعد والثلاثي الفرنسي الذين ساهوا فكريا في الثورة (مونتسكيو، فولتير، روسو ) ليسوا استثناء.

التغييرات بعد الثورة الفرنسية

لقد جاءت الثورة الفرنسية لتغير عدة مجريات في العالم المتوسطي، فالفكر الثوري الفرنسي لم يكن ليتم كبحه داخل الرقعة الجغرافية لفرنسا، وإنما استطاع تجاوز الحدود فقد تسلل إلى أغلب بنيات المجتمعات أنداك، فبالرغم من الاختلافات الثقافية والدينية من مجتمع لآخر إلا أن أفكار الثورة استطاعت إذابة  كل الحدود جاعلتا من نفسها محط تأمل ونظر، وكان المغرب من أوائل البلدان التي اطلعت على خبر الثورة. وهنا السؤال: كيف استطاع المغرب أنداك تلقي خبر وقوع الثورة، فهل يمكن اعتبار الموقع الجغرافي هو من فرض ذلك؟ أم أن حجم الحدث ( الثورة الفرنسية) جعل الكل يرغب في الاطلاع عليها؟ وإن كان ذلك، فبأي مصدر تحقق ذلك؛ هل هو خارجي؟ أم داخلي؟ أم كليهما؟

استطاع المغرب المحافظة على نوع من التوازن فيما يخص علاقته الخارجية مع الدول الأوربية عامة وفرنسا خاصة ، فرغم النوايا الاستعمارية التي ميزت الدول الأوربية، والتي كانت سببا في وقوع مجموعة من الاحتكاكات العسكرية (واد المخازن 1578م مثلا) إلا أن هذه الظروف لم تمنع من إنشاء علاقات دبلوماسية.

البعثة الدبلوماسية التي أرسلها المغرب

فقد قام المغرب في فترة ما قبيل الثورة بإرسال بعثة دبلوماسية، هذه البعثة التي أرسلت أيام السلطان محمد بن عبد الله1757م-1790م ، وقد تـرأسها السفير المغربي محمد الزوين وهو ابن باشا إقليم تامسنا عبد الله بن محمد الرحماني [7]، حيث أُرسِل في بعثة إلي كل من مدريد ونابولي والباب العالي [8]،وقد عاد إلى المغرب في عام 1790م [9] حيث استقبله خليفة السلطان آنذاك المولى سليمان في مراكش كما جاء في قول الضعيف الرباطي “…وفي يوم الإثنين الثامن عشر من الشهر  المذكور(شوال) نزل في مرسى الرباط…واعتنقه مولانا سليمان وبكى معه على ابيه السلطان رحمه الله وعزاه…وكان خبر الموت قد وصل لبلاد العثماني بعد عشرين يوما من وفاة السلطان رحمه الله[10].

تفحص هذا القول يُبين لنا أن محمد الزوين كان في مهمة دبلوماسية إلي الباب العالي وأروبا، وقد تم إرساله أيام السلطان محمد بن عبد الله الذي وافته المنية عند وصول الزوين إلى المغرب ليتولى  ابن  السلطان الراحل اليزيد 1790م-1792م عرش الحكم، الذي لم يكن في علاقة طيبة مع والده أثناء فترة حكمه، حسب ما جاء عند عبد الحفيظ حمان في كتابه “المغرب والثورة الفرنسية”.[11]

إذن فهل يمكن أن تكون وفاة السلطان الذي أَرسل السفير محمد الزوين السبب الذي سيقلل مين قيمة أخبار البعثة (محمد الزوين)، أم أن حجم الحدث (الثورة الفرنسية) سيجعل من ذلك ضربا من الخيال، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة ، من الضروري أن نقوم بنظرة إلى مُسْتَقِبل السفير في مدينة سلا، وهو نائب السلطان أنداك وأخوه، وهو المولى سليمان السلطان المستقبلي لبلاد المغرب، فهذا الأخير كما تذكر المدونات التاريخية كان شخصية مثقفة وهو عالم من محبي المعرفة والاطلاع على أخبار الشعوب والمجتمعات،

مهمة السفير محمد الزوين

هذه الميزات ستجعل مهمة السفير ذات شأن عظيم، نظرا لأنها بمثابة نقطة الاطلاع عن تفاصيل هذا الحدث (الثورة الفرنسية)، كما أن وفاة السلطان  المغربي سيدي محمد بن عبد الله لم تقلل من أخبار مهمة السفير المغربي محمد الزوين، فبالرغم من التعارض الذي كان بين سيدي محمد بن عبد الله وابنه المولى اليزيد، إلا أن المهمة التي قام بها الزوين ظلت بمثابة نقطة وصل لأجل الاطلاع على أحوال أوربا ما قبيل الثورة، فمن المعروف أن البعثات الدبلوماسية هي منبع الاطلاع على أحوال البلدان وأخبار المجتمعات.

إن ما يؤكد صحة الاهتمام المغربي بالشؤن الفرنسية ما قُبيْل الثورة هو تدشين السلطان المولى اليزيد  في السنة الموالية لحكمه أي عام 1791م للعلم الفرنسي الجديد ذي الألوان الثلاثة [12]، وبعد ذلك قام بنفسه باطلاع القنصل الفرنسي بذلك[13]

الأوساط السياسية المغربية

تُؤكد الأحداث المذكُورة على أن الأوساط  السياسية (النخبة) المغربية كانت على اطلاع على ما يقع في فرنسا، وذلك في إطار العلاقات الخارجية المغربية الفرنسية التي تواصلت من خلال البعثات الدبلوماسية التي قام بها كلا البلدين، وكذلك التمثيلات الخارجية لكُل بلد، لكن إذا كان المغرب قد اطلع على أحداث الثورة، فلماذا لا نجد صداها في مؤلفات المؤرخين المغاربة الذين عاصروا الحدث، مثل الزياني والضعيف الرباطي.

فالزياني عُرِف على أنه أبرز مؤرخي الفترة، فقد أحاط العالم الاسلامي في كتابه “الترجمانة الكبرى” لكن حدث الثورة لاوجود له بالمرة عند هذا المؤرخ، أما الرباطي فقد سار على نفس منوال الزياني. من المُفيد  قبل البحث عن أسباب تجاهل هؤلاء المُؤرخين لحدث الثورة أن نذكر المهام  التي زاولوها، فالزياني هذا كان من رجال الدولة، فقد شغل منصب الكاتب الأول في عهد محمد بن عبد الله [14]، وموقع منصبه سيسهل مهمة الاطلاع على حدث الثورة الذي يعتبر من  أهم أحداث العصور الحديثة لكنه لم يذكرها في كتاباته بالمرة.

لقد ذهب عبد الحفيظ حمان إلى اعتبار المؤرخين المغاربة خلال تلك الفترة (الزياني، الرباطي…) لم يكونوا جاهلين لحدث الثورة، وإنما المهام التي شغلها بعضهم مثل الزياني وابن عثمان في المخزن المغربي جعلتهم يتجنبا في كتاباتهما كل ما لا يحبذه جهاز الدولة[15].

أهمية العامل الديني في المغرب

كان للمغرب ارتباط بِمحيطه منذ القديم، فقد  شكل العامل الديني أهم العوامِل التي وطدت ارتباطه بباقي المجتمعات التي تدين بنفس المعتقد، والشرق الإسلامي أهم هذه المجتمعات التي كان المغرب في تواصل مُستمر معها. والسؤال المطروح هنا: ما علاقة ارتباط بلاد المغرب بالمشرق الإسلامي بحدث الثورة الفرنسية؟ وما هو دور الدولة العثمانية باعتبارها كانت مسيطرة على الشرق الإسلامي في إطلاع المغرب على خبر انفجار الثورة الفرنسية ؟ وإن كان لها دور في ذلك فبأي طريقة ؟ وما هي نظرتهم تجاه الثورة من خلال اطلاعِهم المغرب على انفجارها (الثورة الفرنسية)؟ وهل سعوا إلى تحريض المغرب على هذا الحدث أم أنهم اكتفوا بتوصيل الخبر فقط؟ 

موقع الدولة العثمانية

 قبل الاجابة على هذه التساؤلات  يجب  أن نبين موقع الدولة العثمانية من أحداث العالم المتوسطي في فترة ما قبيل الثورة الفرنسية، فقد كانوا أحد أبرز الفاعلين في أحداث المجال المذكور سلفا، وذلك من خلال المجال الذين سيطروا عليه هذا أولا ، وكذلك العلاقات العثمانية الأوروبية آنذاك ثانيا، فبالرغم من أن الدولة العثمانية بدأت تتصدع أركانها إلا أنها ظلت لها كلمتها في أحداث المتوسط. أما فيما يخص دور العثمانيين في اطلاع المغرب على الثورة دون شك أن لهم دور بليغ في ذلك سيما وأن محمد الزوين (سفير مغربي) عندما أرسل إلى أوروبا قام بزيارة الباب العالي في اسطنبول وهو سليم الثالث، وأمر آخر، وهو أن الأفكار التي أتت بها الثورة جعلت الدولة العثمانية تراقبها عن كثب،  فقد كانت الدولة العثمانية تعج بالقوميات، وتحرير القوميات أحد أبرز مبادئ الثورة، وكذلك موقفهم من الملكيات…

خوف النخبة العثمانية من مبادئ الثورة الفرنسية

 أرسل السلطان سليم الثالث إلى السلطان المولى سليمان رسالة عام 1799 م تحمل خطابا حادا حول الثوار؛ يصفهم بالخونة “هم الطائفة الخائنون”[16]، وهذا القول يُؤكد مدى خوف النخبة العثمانية من مبادئ الثورة الفرنسية، مما جعلهم يروِجون لخطاب معادي للثورة خصوصا بعد إعدام الملك لويس السادس عشر، حيث كان لهم ردود فعل قوية.

فقد كتب السفير العثماني في باريس واصفا الوضعية السياسية الفرنسية بعد إعدام لويس 16 ما يلي “بما أن الفرنسيين قد فقدوا ملكهم… صارت أغلب المناصب بأيدي رعاع الشعب، وهم ليسوا أكثر من عصابة من الثوار ، أو بالتركي (مجموعة من الكلاب)، وأنه من غير الممكن أن ننتظر الأمانة والصداقة من أمثال هؤلاء الناس”[17]. وأمام هذا الموقف العثماني الحاد من الثورة الفرنسية، سيعملون على تحريض المغرب وتحذيره من خطورة هكذا أفكار؛ تحرير القوميات…اسقاط الملكيات التقليديات كما حدث في النمسا على سبيل المثال…

من خلال ما سبق ذكره  يمكن استخلاص أن المغرب كانت له علاقات في جوانب مُختلفة مع أوربا (دبلوماسيا…تجاريا)، كما أنه اطلع على خبر حدوث الثورة الفرنسية عام 1789م. كما سيتفاعل بشكل جدي وحازم مع مُخرجات الثورة الفرنسية خاصة مرحلة

نايليون بُونبارت التي عمل المغرب خلالها على تقليص علاقته بفرنسا ومُحاولة الانفتاح أكثر على إنجلترا…


المصادر والمراجع

[1] عبد الحفيظ حمان، المغرب والثورة الفرنسية، منشورات زمن، م النجاح الجديدة – الدار البيضاء 2002 م، ص. 13.

[2] المرجع نفسه، نفس الصفحة.

[3] محمد الحداد، “لماذا يظل خير الدين معاصرا لنا؟”، ضمن ندوة: خير الدين التونسي، المنظمة بتاريخ 4 ماي 2010م، قرطاج: المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، ط1، 2011م،ص. 92.

[4]عبد الحفيظ حمان، المرجع مذكور، ص. 13.

[5]  إيمانويل كانط، ما هو التنوير ؟، ترجمة يوسف الصديق، مجلة الكرمل، العدد 13، السنة 1984، ص. 61.

[6] جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمن بدوي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1988.

[7]  حمان، المغرب والثورة الفرنسية، ص. 25.

[8] المرجع نفسه، نفس الصفحة.

[9] نفسه، نفس الصفحة.

[10]نفسه، نفس الصفحة.

[11] نفسه، نفس الصفحة.

[12] نفسه، ص.26.

[13]  نفسه، نفس الصفحة.

[14]  نفسه ص.27.

[15]  نفسه، نفس الصفحة.

[16]حمان، المغرب والثورة الفرنسية، ص. 29.

[17] المرجع نفسه، نفس الصفحة.  

بقلم: محمد بوداس/ أشعار محمد بوداس

 

أضف تعليقك هنا