العراق جرح نازف وأرض مستباحة

في عام ( 129هـ ) ظهر أبو مسلم الخراساني في خراسان، ويعد أهم دعاة الدولة العباسية وواضع لبناتها الأولى، وعندما سقطت خراسان توجهت جيوش الدعوة نحو العراق، وبعد سقوطها قدمت الأسرة العباسية من الحميمة بالأردن إلى الكوفة، وأعلنت قيام الدولة العباسية، لم ينتظر مروان بن محمد أن يغزوه العباسيون فقدم إليهم في العراق، وعند الكوفة وقعت المعركة الحاسمة بين جيشي الأسرتين المدنيتين القرشيتين، وعندما هزم مروان في العراق سقطت كافة الأقاليم العربية الأخرى بيد العباسيين.

العراق حلبة صراع و مسرح تنازع قديماً و حديثاً

العراق هو مفتاح السلام والحرب في المنطقة العربية منذ القدم، وعلى أرضه تقع غالباً الصراعات والنزاعات بين القوى الإقليمية، في البدء سقط العراق بيد العرب، الذي كان بمثابة حامية للدولة الساسانية، وبسقوطه سقطت وعندما تحاربت الأطراف القرشية في حروب الجمل والنهروان كان العراق ساحتها، وعندما ثار الحسين بن علي على سلطة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، كان العراق مسرحاً للثورة وأحداثها، وعندما قرر الخليفة السفاح قتل وزيره أبو سلمة الخلال، كلف أبو مسلم بقتله، فبعث له من خراسان من يغتاله في عقر داره في الكوفة.

وبالاطلاع السريع على التاريخ العربي يمكن القول أن العراق كان دائما إقليم الثورات والحروب وتصفية الحسابات، من ثورات العلويين والخوارج إلى ثورة الزنج وغيرها الكثير، فالعراق كان دائماً إقليماً مضطرباً لا يهدأ، جرح نازف طوال مئات السنوات لم يشهد عقود راحة واستقرار سوى فترات محدودة في تاريخه.

ما هي أسباب الفوضى العراقية و الاضطرابات؟

موقعه الجغرافي والاقتصادي الهام ، واختلاف أجندة بيئته السياسية:

إن هذا التاريخ المليء بالأحداث العاتية والتي لا تكاد تنتهي خلف أمراض مزمنة وخطيرة عانى منها العراقيون حتى يومنا هذا، حسن العلوي الكاتب العراقي المعروف يقول في كتابه “دولة الاستعارة القومية” أن المعارضة العراقية لم يكن لها أي مشروع وطني حقيقي.

كان الشيوعيون يستوردون شيوعيتهم من الاتحاد السوفييتي، وكان الإسلاميون يستوردون إسلاميتهم من انتاج الثقافتين الإيرانية والمصرية ( ولاية الفقيه – الإخوان المسلمين) ، ولم يخرج اي مشروع سياسي أو نهضوي عراقي يعبر عن البيئة العراقية حتى هذا اليوم.

حكومة البعث و إدخال العراق بحروبٍ شتى تسببت في ضياعه:

حكومة البعث بقيادة صدام حسين لم تكن افضل حالا ، فقد ادخلت البلاد في آتون حروب مدمرة وعابثة ، فقد حارب ايران بحجة صد خطر الثورة الاسلامية الايرانية ، ودفاعا عن البوابة الشرقية للامة العربية ، ليقوم بعدها بغزو احد الدول العربية التي كان يدعي انه كان يدافع عنها ، وينسحب من كافة الاراضي الايرانية التي كانت في قبضته بعد انتهاء الحرب، ويتراجع عن كافة الاهداف التي رفعها اثناء حربه مع ايران، ولتسقط كل شعارات الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة ، وتقف معظم دول المنطقة ضده في جبهة واحدة في حرب تحرير الكويت.

بعد سقوط حزب البعث عام ( 2003)، جاء الإسلاميون الشيعة الذين حكموا البلاد منذ ذلك التاريخ، بناءً على خلفيات دينية متشددة، وممارسات سياسية واجتماعية وفكرية رافضة تماماً لمفهوم الدولة المدنية الحديثة، فكان أن فشلت في بناء الدولة، التي غدت مبنية على المحاصصة الطائفية والعرقية، وغدت الأحزاب الدينية وأجنحتها المسلحة ومراكز قواها متحكمة بالدولة، بعيداً عن سيطرة السلطات العامة، مما أدى إلى شيوع شامل للفساد والفوضى، والضعف الشديد في سلطة الدولة، بمستوى لم يعرفه العراقيون من قبل.

فشل مشاريع النهضة العربية في انتشال العراق مما هو فيه:

لقد كان في فشل مشاريع النهضة العربية آثار واسعة النطاق على الحياة السياسة والفكرية في المنطقة العربية والعراق على وجه الخصوص، خاصة بعد الهزيمة الرهيبة عام ( 1967)، حيث كانت المشاريع المستعارة التي تحدث عنها العلوي قد سقطت تماماً ولم يعد هناك أي مجال لإنتاج مشروع نهضوي وطني، لا سيما بعد سقوط النظام الملكي وتولي القوى والأحزاب السياسية الشمولية السلطة.

عندما سقط صدام حسين التقى به السياسي العراقي الراحل أحمد الجلبي وآخرين، سأله صدام لماذا تعاونت مع الأمريكان لإسقاط حكم البعث، فأجابه بأنه يريد انشاء نظام ديمقراطي في العراق.

مفهوم الأحزاب السياسية الخاطئ  للسلطة بأنها غاية و ليست وسيلة:

إن مفهوم السلطة لدى الأحزاب الدينية التي حكمت العراق كان متضخماً جداً، فالسلطة تعني كل شيء والاستيلاء عليها هدف ليس بعده شيء، في تناقض تام مع مفهوم السلطة في المجتمعات المتقدمة التي تعد فيها وسيلة لإدارة الدولة، والمناصب العامة مجرد وظائف عمومية مؤقتة ومقيدة السلطات.

فقدان الثقة و تحول العراق إلى تنظيمات رسمية و غير رسمية:

عندما جاء الحكام الجدد لم يخلعوا ثوب المعارضة، ولم يتخلصوا من عقدة خوفهم من حدوث انقلاب على حكمهم، ولم يثقوا في الدولة التي يحكمونها، فعمدوا الى تأسيس أجهزة موازية للأجهزة الرسمية، فلكل حزب جهازه الأمني الخاص به، ولكل حزب قواته العسكرية والاستخباراتية الخاصة، وقوات الحشد الشعبي مقابل الجيش العراقي الرسمي، ولأن ثقافتهم الدينية تخلوا من عقيدة الولاء للدولة، حتى لو كانوا هم من يسيطرون عليها فقد أفسحوا الطريق أمام الجار الشرقي ليتدخل في بلادهم ويبني نفوذاً هائلاً، لم يشهده العراق من قبل ساهم فيما يعانيه العراق اليوم من ضعف وهشاشة.

الحوادث التاريخية و تأثيرها على حاضر العراق:

الفرس القدماء الذين كانوا يطلق عليهم ( الموالي)، عانوا أيام الأمويين من التمييز ضدهم لصالح العرب، فانضموا إلى الدعوة العباسية على أمل أن ينالوا مكانة مرموقة بعد تأسيسها، الخلفاء العباسيون الأوائل كانوا أقوياء، منحوا الفرس سلطات ومواقع قيادية إلا أنهم لم يكونوا أقوى من سلطة الخلافة، المنصور قتل أبو مسلم والرشيد قتل البرامكة، والمأمون قتل وزيره ذي الرياستين، إلا أنه بعد أنه دب الضعف في دولة العباسيين استولت قوى سياسية وعسكرية أصولها من الفرس والترك على السلطة، وغدت سلطة الخليفة العباسي اسمية لعقود طويلة، ولم تعد الدولة العباسية الى سابق قوتها وازدهارها أبداً.

في تاريخ العراق الحديث قامت حكومات عراقية قوية حافظت على سلطة الدولة وسيادتها على اراضيها ، وكان اخطر ما قامت به هو شن حكومة البعث حرب مدمرة وطويلة ضد حكومة الامام الخميني في ايران عام 1980 ، بهدف منعها من مد نفوذها الى العراق والمنطقة العربية.

عدم تمتع العراق بالاستقلال و السيادة على قراراته:

بعد سقوط حكومة البعث القوية وبسبب سياسات ادارة الاحتلال الأمريكي، تمكنت إيران من مد نفوذها في العراق وعملت على ممارسة نفس لعبتها، حيث القوى السياسية التي تمتلك أجنحة عسكرية وأمنية مستقلة موالية لها في مقابل دولة هشة كما في لبنان واليمن، فمعضلة العراق اليوم ليس في كونه جزء من محور ما ، فمن حق العراق أن ينضم إلى أي محور يشاء، كأي دولة مستقلة إلا أنه من المفترض أن يكون ذلك في إطار سيادة حقيقة واستقلال ودولة قوية.

العراق يدخله الرئيس ترامب ويخرج منه وكأنه يدخل برجه في نيويورك!. والجنرال الراحل قاسم سليماني ينتقل من وإلى بغداد وكأنه يتنقل بين أحياء طهران!

يستقر العراق حين يكون حراً في تقرير مصيره

القيادات العراقية الحالية لم تتخلص من عقدة كونها معارضة، وأنهم اليوم يقودون دولة وشعباً لا حركات ثورية وأن ثورتهم انتهت بسقوط البعث ووصولهم إلى السلطة، وأن العلاقة بين الحركة والدول الخارجية تختلف عن العلاقة بين دولة ودولة.

اليوم ظهر على الساحة تيار وطني عراقي يطالب بدولة عراقية حقيقية ذات سيادة، تمارس دورها  الطبيعي تجاه شعبها، وتعمل من أجل مصالحه، وتبدأ بتنمية البلاد وإعماره بعد عقود من الحروب وإلا مات، فإن انضم العراق لأي محور على الساحة العربية أو الدولية فإنه ينضم من منطلق سيادته واستقلاله، لا أن يكون بلداً مستباحاً وتابعاً وكياناً هزيلاً.

سيبقى العراق جرح نازف حتى يدرك العراقيون مصدر نيران الفتن التي تفرقهم

إن العراق اليوم يعج بالقوى السياسية ذات الأجنحة المسلحة التي حولت سلطة الدولة إلى اسم بلا رسم وظهرت فيه القوى الإرهابية التي ترى فيه مغنماً وفرصة  لممارسة كافة أشكال إرهابها وتحويل أيدولوجياتها المدمرة الى حقيقة على الأرض، وفي أرجاءه تتنازع القوى الإقليمية والدولية فكل منها يضرب الآخر على أرضه فتقتل الطائرات الأمريكية الجنرال الإيراني سليماني بالقرب من مطار بغداد، وترد القوات الإيرانية بقصف قواعد عراقية، وسيبقى العراق جرح نازف وأرض مستباحة حتى يدرك العراقيون أن لا مكان لأبو مسلم الخراساني ولا لغيره في العراق الجديد.

فيديو مقال العراق جرح نازف وأرض مستباحة

أضف تعليقك هنا