الفنان الأدائي المعاصر”بيغماليون زمن العولمة”

أي وعي فني نعاين تمثلاته اليوم بعيدا عن المطثة واللوح المسندي، وأي بشارة استيطيقية يزفها الفنان المعاصر وشما على جسده الخاص، فلا المرسم هو ذات الفضاء الذي عهدنا تفاصيله المكانية ومكوناته من فرش وألوان ولوحات تركن هنا وهناك، ولا هو ذات الحامل القماشي الذي يستزف لحم الفنان وعظامه في تمثل مادي لمخياله الفني.

نص دعوته يُكتب بلغة العلم فلا يدينُ فيها بموروث ولا تقليد

إنّ نص دعوته يُكتب بلغة العلم، فلا يدينُ فيها بموروث ولا تقليد، يعيش تغايرات عصره التقنية وينهل منها ما يُوسّع إمكاناته التخيلية، لصياغة تجربة جمالية يكون جسده الخاص الحامل والموضوع، يخلع على إثرها جسده القديم، ليحل في أجساد أخرى، بغير الحلل التي اكتسبها قصرا لا اختيارا.

الفنان المعاصر الذي يقوم مقام “بيغماليون”

إنّ الفنان المعاصر يقوم مقام “بيغماليون1 “Pygmalion في بحثه عن صفة الكمال نحتا على كتلة العاجية، و”بيغماليون” الذي سارع إلى خلق بديل أنثوي دون نقيصة ولا عيوب وبلا مرجع، كونه يستسقي جماله من ذاته دون الأجساد الأخرى، إنما جعل منحوتته الأنثوية أشبه بنهر “نركسوس2”Narcissus، يرى فيه جماله المفقود وبه يستعيض عن كل نقيصة أو شائبة تشوبه، يُصحّح تفاصيلها من صميم ذاته ويتمثل ما يرى أنّه يفوق مستوى الجمال.

زواج “بيغماليون” بمنحوتته  “جالاتيا

بيدا أن زواج “بيغماليون”  بمنحوتته  “جالاتيا”  Galatea  الذي  باركته  الآلهة، إنما  هو  دليل  تماهي  “أنابيغماليون” وفناءه مع ما صنعته يداه من حسن وبهاء، مع نموذج أنثوي كان مرفوضا عنده بسمات عصره، مُتمنّعا عنه، وعلى اعتبار أنّ “لأنا موجودة دوما في مجال الآخر3” على قول “جاك لاكان4″Jacques Lacan، فإنّ وجودها فيه مشروط بكماله وتوافقه مع تطلعات الفنان في شخص “بيغماليون”، وكذلك الحال في التجارب الأدائية المعاصرة التي وإن تقاطعت مع رؤية بيغماليون في بحثه عن الجمال المطلق، إلا أنها أرفقت مفهوم الجمال عندها بتيمة العلم لا بمثالية “قانون بوليكلات5″ او إفتنانا بشخص  “جالاتيا” أو “باندورا6“.

حرص الفنان المعاصر على بناء جسده الخاص كما تُبنى العمارة

dc5eb99d1b8990f8fb2a56a7d34812f6227c60e3r1-578-800v2_uhq.jpg (578×800)
الصورة رقم 01: بيغماليون وجالاتيا

بناء على ما سبق، حرص الفنان المعاصر على بناء جسده الخاص كما تبنى العمارة، عبر استثمار كل الإمكانات التكنولوجية والميكاترونية، مدفوعا بفكرة انتهاء الجسد الإنساني حتى صار باليا وقديما، ما يستوجب تدارك جميع تمفصلاته وتهيئته بما يتوافق مع الطفرة العلمية الراهنة. بهذا المنطق، تلوح لنا تجربة الفنان “ستولارك7″  Stelarc نموذجا حقيقيا لهذا الوعي الذاتي بضرورة تهيئة الجسد وإعادة هيكلته تناغما مع الطفرة العلمية الراهنة.

كيف يتم تهيئة ذلك الجسد وتشكيله؟

حيث يعمد الفنان الإسباني إلى إضافة أُذن سبرانية ثالثة، تُثبّت على ذراعه جراحيا، عبر التعويل على المشارط والمضابع لإحداث الفتحات وتهيئة الكتلة اللحمية لتقبل الزوائد والهجائن.

يتم إثر ذلك، وصل الأذن بسماعة مقرونة بخاصية “الويفاي” Wifi، حيث تُمكّنه التقنية من وصل جهازه السبراني بالأنترنات، لتمنح جميع المتلقين على الشبكة العنكبوتية فرصة سماع ومتابعة جميع  ما يقوم  به الفنان  طوال  الأيام  السبع  من  الأسبوع . لقد  حوّل  الفنان  الحيز الصغير من الأذن  لمساحة علائقية كونية كبرى، تُلغي المسافات وتجمع الكل باختلاف تواجدهم في الزمان والمكان عند مجال الصوت، فالرهان على المعطى الصوتي في تجربته الأدائية هو إقصاء مؤقت للصورة، مقابل التعويل على ما هو أثيري، يستفز الحاسة السمعية للمتلقي دون بقية الحواس ويدفعه إلى زاوية بعينها في عرضة الأدائي.

original.jpg (2361×3543)
الصورة رقم 02: ستولارك، أذن ثالثة، 2008

ما عُدّ قبيحاً في الوعي العام، يتحول في المجال الفني المعاصر لميزة جمالية

لقد تحولت الزوائد الجسدية لمكمل استيطيقي في التجارب الأدائية المعاصرة، إلغاء لما استأنسنا به من ردود السلب والرفض تجاه تلك الزوائد و”أحدب نوترودام8” لـ”فيكتور ايغو9” مثال صريح يلخص الرفض الذاتي لما هو دخيل على كتلة الجسد، بل حتى مشاركة المجموعة في تعميق ذلك الشعور وتعظيمه بالنفور والعزلة والإقصاء. فما عُدّ قبيحا في الوعي العام، يتحول في المجال الفني المعاصر لميزة جمالية، تُعزّز خصوصيتي التفوق والامتلاء ورفع الشعور بالتميز الذي استشعره كذلك “كوازيمودو10″ Quasimodo في نهاية المطاف ووعيه الخالص بالقيمة الجمالية التي يحملها على كتفيه.

في ذات السياق التحولي تتقاطع تجربة “ستولارك” مع مواطنته الفنانة “مون ريباس

في ذات السياق التحولي، تتقاطع تجربة “ستولارك” مع مواطنته الفنانة “مون ريباس11Moon Ribas في ذات البحث التقني وان اختلفت المقاصد والأبعاد التعبيرية، حيث تعمد الفنانة في مستوى قدميها إلى تثبيت جهاز استشعاري، يكاد يكون ملحوظا بالعين المجردة. يتمتع الجهاز بقدرة عالية على رصد الزلازل الأرضية في العالم بداية من 1,0 على “سلم راشتر” بعد ربطه بتطبيق على النات يُعنى بالكشف والإخبار عن وقوع أي رجة أرضية. من الوهلة الأولى، يبدو وكأنّ الفنانة استعارت من “ستولارك” نفس السياق التشاركي أداء وأسلوبا في التعاطي مع الوسائط التقنية الراهنة، غير أنّ “مون ريباس” وحتى تمنح حدثها الأدائي بعده الخاص وتتلافى التماهي مع شخص وأسلوب “ستولارك، سارعت إلى ربطه بمجالها الكروغرافي، حيث ينطلق العرض الركحي أمام المتلقين بتثبيت الجسد وجعله في وضعية سكون وجمود.

يبقى الحال على ما هو عليه إلى حدود ورود إنذار صوتي من الجهاز الاستشعاري، مُعلنا عن حدوث رجة أرضية، لتنطلق الفنانة في عرضها الراقص الذي ترتفع أنساقه بارتفاع درجة الزلزال وقوته. بالتالي، في صورة عدم تلقي أي إشعار بذلك، ينتهي العرض كما بدأ، أي بذات الجمود والسكينة. إننا نشهد في خضم هاته التجارب الأدائية، نموذجا نوعيا للجسد الإنساني، بروح كونية يتشارك الجميع في رصده تحولاته ومعايشة مخاضه الأدائي، يطّلعون بفضل تلك الزوائد والإمتلاءات الجسدية إما على حياة خاصة هي محل اهتمام الجميع في أي نقطة من العالم، أو يستشعرون عبرها هول الحدث (الزلزال) وعنفه، حيث يتحول الركح المسرحي لأرضية كونية تتشكل عليها بداية كل كارثة طبيعية في أي نقطة من الأرض.

earthquakes.jpeg (500×333)
الصورة رقم 03: مون ريباس،  Waiting for Earthquakes، 2013

بذات اللكنة العلمية وتدثرها الكوني يطّلع علينا الفنان “نايل هاربيسون12”

بذات اللكنة العلمية وتدثرها الكوني، يطّلع علينا الفنان “نايل هاربيسون12”Neil  Harbisson بأقنومه التحولي، ليضيف عينا سبرانية ثالثة في مستوى الرأس وعند مقدمة الوجه، تتولى تحويل اللون إلى شفرات صوتية منغمة، فمعاناة الفنان من “عمى الألوان” مثّل الدافع الأساسي للركون إلى الأجهزة الميكاترونية، لتلافي مواطن النقص وتداركه وتحويله لطاقة محفزة لإدراك الأشياء لونيا عبر الصوت المنغم. فالبياض والسواد الذي يتمثل أمام بصر الفنان، يتحول بفضل عينه الالكترونية إلى حقل لوني بتمثلات صوتية، ترتفع إيقاعاتها وتنخفض باختلاف اللون  وكنهه، وحيث  يتمثل  الفنان   كـ”سيكلوب13″  Cyclops  أسطوري، بعين  واحدة،  يرىالأشياء وألوانها بمنطق الصوت وتردداته، يتجاوز معوقاته البصرية نحو تبصر الأشياء واستنطاق  تمثلاتها  الأثيرية، التي تجاوزت  حدود  إدراك اللون نحو الأشعة الحمراء وما فوق البنفسجية.

إنّ ما تراه العين المجردة، يصير بعين “هاربيسون” مقطوعة موسيقية، تُؤلف شتاتها اللوني وتتلو ترانيمها تجانسا ووحدة، لتُتلى مسامعها على المجموعة حتى تمكنهم من “التعبير عن أن أنفسهم بصورة مبتكرة بالموسيقى عبر الألوان14″، إذ لم تعد هويته فقط، بل غدت هوية كونية تجمع الجميع، يشاركهم الحدث الجمالي فيشاركونه، بغض النظر عن أجناسهم وأعراقهم ولغتهم. هي عولمة فنية تستقطب الكل في اللامكان، حيث تغيب اللغة المنطوقة باختلاف مشاربها العرقية واللونية والجغرافية، ليتحول معجم الصوت مُشرّعا وحيدا وكونيا للمفردات العلائقية التي تجمع الجميع عند نقطة اللون المنغم.

الصورة رقم03: صورة ذاتية للفنان نايل هاربيسون، 2017

أنا” الفنان تتمثل كنواة بيولوجية تحاول جاهدة التكيف مع المناخات العلمية والنظم التكنولوجية في تدثرها الجسدي

   هكذا تلوح اذن الهوية في التجارب الأدائية المعاصرة، كيانا غير مستقل عن التغايرات والمؤثرات الخارجية التي تحيط بالفنان، بل هي حقيقة كونية تتسارع في نموها وتشكلها الجرياني، فـ”أنا” الفنان تتمثل كنواة بيولوجية تحاول جاهدة التكيف مع المناخات العلمية والنظم التكنولوجية في تدثرها الجسدي، تميل بشدة إلى التقنع القائم على تعزيز فكرة الاحتمالية صلبها، احتمالية أن تبلغ مالا يدركه العقل ولا يتقبله الآخر بنظمه الاجتماعية والثقافية المتوارثة، تتويجا بالتالي لهذا الغيري الممزوج والمركب.

الهوامش:

  • بيجماليون Pygmalion : يمثل في المثيولوجيا الإغريقية و الرومانية نحاتا عظيما يكره النساء، فصنع تمثالا من العاج يمثل امرأة جميلة، أحبها حبا عظيما، فدأب على تزيًنها باللباس واللؤلؤ، فدعا إلهة الحب فينوس لتحي التمثال من فرط حبه لها، فأحيته، فسميًت “جاليتا” التي أنجب منها  بيغماليون ” بافوس” التي  أسست مدينة بافوس في قبرص.
  • نركسوس أو نرجسأو  نرسيس Narcisse: اشتهرت قصته عندما اتخذها ” سيموند فرويد” موضوعا لإحدى نظرياته السيكولوجية، أو ما يعرف بالتحليل النفسي. وخرج من هذه الأسطورة العقدة النرجسية. وتمثل أسطورة نركسوس نمطًا من أنماط البشر الذي عاش وما يزال يعيش حتي الآن، وهو الشخص الذي يعجب بنفسه ويعتز بها لدرجة تنسيه إعجاب الآخرين به، وتنسيه أيضًا حبه وإعجابه بالآخرين، والذي يؤدي في النهاية إلي انسلاخ الشخص رجلًا كان أو امرأة عن المجتمع الذي يعيش فيه، ويكون نهايته حينئذ الموت أو الفناء.
  • رفعت سلام، أنا- آخر مختارات شعرية، ص27، مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، الكويت، 2011.
  • جاك لاكان Jacques Lacan (1901-1981): محلل نفسي فرنسي، اشتهر بقراءته التفسيرية ” لسيموند فرويد “، ومساهمته في التعريف بالتحليل النفسي الفرويدي في فرنسا في ثلاثينات القرن العشرين، وبالتغيًر العميق الذي أحدثه في مفاهيم التحليل النفسي ومناهجه.
  • قانون بوليكلات le canon de Polyclète:قانون أنشأه النحات اليوناني بوليكلات (5ق.م-4ق.م) في القرن الخامس قبل الميلاد، حدد فيه مقاييس ونسبا لا يمكن دونها أن يكون الإنسان جميلا.
  • بندوراPanadore : بالإغريقية معناه المرأة التي منحت كل شيء. هي أول امرأة يونانية وجدت على الأرض طبقا للعقيدة اليونانية. خلقت بأمر من زيوس، وتم خلقها حسب الأسطورة من الماء والتراب ومنحت العديد من المزايا مثل الجمال والإقناع وعزف الموسيقى.
  • ستولارك Stelarc (1946-): فنان استرالي، واسمه الفعلي “ستيليوس أراكاديو” Stelios Aracadiou. اختص في العروض الأدائية التي قد من خلالها طرحه “البيوميكانيكي” عبر الجمع بين جسده البيولوجي وبعض المكونات الالكترونية والروبوتية.
  • أحدب نوتردام: رواية رومنسية فرنسية من تأليف “فيكتور ايغو” وحيث تدور أغلب أحداث الرواية قرب كاتدرائية نوتردام بباريس Notre-Dame de Paris .
  • فيكتور ايغو Victor Marie Hugo (1802-1885): شاعر وأديب وروائي فرنسي.يعد من أبرز أدباء فرنسا في الحقبة الرومنسية.من أبرز أعماله البؤساء les misérables وأحدب روتردام Notre-Dame de Paris .
  • كوازيمودوQuasimodo: هو بطل الرواية الأحدب اللقيط قبيح المنظر حيث ظل أحدب نوتردام قابعا خلف جدران الكاتدرائية، منعزلا عن العالم، عاجزا عن أي اتصال خارجي، كرمز لعاهة تبعده عن العالم، وكإتهام لمجتمع يعزل العاهة ويخفيها، سيد غيث، أشهر روايات الأدب العالمي الخالدة، ص246 أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي، 2017.
  • مون ريباس Moon Ribas (1985-): فنانة إسبانية طليعية وناشطة سايبورغ. تشتهر بتطوير وزرع أجهزة استشعار زلزالية على الإنترنت في قدميها مما يسمح لها أن تشعر بالزلزال من خلال الاهتزازات.
  • نايل هاربيسون Neil Harbisson (1982-):رسام وموسيقي وملحن بريطاني.وُلِد الفنان نيل هاربيسون وهو يعاني من عمى ألوان كامل. وضع من أجل تجاوز معضلته الخلقية جهازاً موصّلاً إلى رأسه يعمل على تحويل اللون إلى تردداتٍ مسموعة. فبدلاً من رؤية عالم رمادي، يستطيع هاربيسون سماع سيمفونيةٍ من الألوان.
  • سيكلوب Cyclpos (بالانجليزية):مسوخ من جنس العمالقة، ذو عين واحدة وسط الجبهة.هم في الميثولوجيا الإغريقية عمال مهرة يصنعون الصواعق وأسلحة الآلهة ويحققون الأعمال الكبيرة والضخمة.
  • فاروق جويدة، نايل هاربيسون… أول انسان سايبورغ …يسمع ألوان دبي ويعزفها، مجلة العين الإخبارية، بتاريخ 15/02/2016.

المراجع العربية:

أم الزين بنشيخة المسكيني ، الفن يخرج عن طوره أو مفهوم الرائع في الجماليات المعاصرة من كانط الى دريدا، جداول للنشر والتوزيع، لبنان، 2011.

بعلي حفناوي، الترجمة وجماليات التلقي- المبادلات الفكرية والثقافية، المبادلات الفكرية والثقافية، ص 81، دروب ثقافية للنشر والتوزيع دار اليازوري العلمية، عمان، 2017.

فاروق جويدة، نايل هاربيسون… أول انسان سايبورغ …يسمع ألوان دبي ويعزفها، مجلة العين الإخبارية، بتاريخ 15/02/2016.

فيكتور ايغو، ترجمة رمضان لاوند، أحدب نوتردام، دار العلم للملايين، بيروت، 2007.

رفعت سلام، أنا- آخر مختارات شعرية، ص27، مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، الكويت، 2011.

فيديو مقال الفنان الأدائي المعاصر”بيغماليون زمن العولمة”

 

 

 

أضف تعليقك هنا