كيف نفكّر حضارياً؟

بقلم: الدكتور محمود المنير

الحضارة فى مفهومها العام هي كل ما ينتجه عقل الإنسان من فنون وعلوم وآداب وفلسفة وتشريع، والقدرة على الاستفادة من هذه الحصيلة ، والحضارة civilization هى كلمة فرنسية ، كان أول من استخدمها الاقتصادي الفرنسي آن – روبرت – جاك تورغو، وذلك فى العام 1752، كما نشرها بعد مضى أربع سنوات فيكتور ريكويتى، مركيز ميرابو .(1).

تعريف الحضارة

ويعرف ابن خلدون الحضارة بأنها هي “التفنن في الترف واٍجادة أحواله والانهماك في الصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه كالطبخ واللباس والمباني والأفرشة والأثاث المنزلية ،أما البوادي فإنها لا تحتاج إليه “.(2)

وعند مالك بن نبي الحضارة هي ” نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، ومن هذا المنطلق فإن معنى التحضر هو أن يتعلم الإنسان كيف يعيش في جماعة، وأن يدرك شبكة العلاقات الاجتماعية في تنظيم الحياة الإنسانية من أجل وظيفتها التاريخية، كما أنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تنتج لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره” (3).

أما التفكير  فالمقصود به التفكير العلمي و هو ” نشاط مقصود ، وليس نشاطاً تلقائيا ؛ فهو يستهدف حل المشكلات التى تعترض طريقنا ، ودراسة الظواهر المختلفة وفهمها من أجل تفسيرها واستنباط القوانين والنظريات التي تحكمها .

وهو نشاط منظم؛ وليس مفككاً ؛ ومعنى التنظيم هنا هو عدم ترك الأفكار  تسير حرة طليقة ، وإنما ترتب بطريقة محددة ، ومنظمة عن وعي يبحث في الأسباب ، ويلاحظ التراكم ، ويراعي الشمول ويعتمد على التجريب ويصل إلى اليقين “.  (4)

لماذا نفكّر حضارياً؟

وبعد هذا التحرير والتفكيك الموجز لمصطلح الحضارة والتفكير ، يأتى الحديث عن السؤال الكبير ، لماذا نفكر حضارياً ؟ ذلك لأن أمتنا طال غيابها عن الشهود الحضاري فلقد ألقت بنا الحضارة بنا بعيداً عن موكبها الواسع الفسيح ، وأصبحنا خارج فضائها فضاقت علينا الدنيا بما رحبت ، نبحث عن مقعد أو مشهد أو موطئ قدم فلا نجد !!

وإذا أردنا أن نعود للمشهد الحضاري مجدداً فإن أول ما ينبغي علينا أن نفعله هو التفكير في الأسباب التي أدت بنا إلى هذا النفق المظلم ، وسبل الخروج منه ، لكن ذلك ليس اليسير  فهناك العديد من التراكمات والأخطاء التى تحول دون رؤية ناضجة لتحليل هذا الواقع أو التفكير السليم لرسم المسارات الصحيحة للنهضة وامتلاك الأدوات الكافية لمعرفة الإجابة الوافية على أهم سؤالين : كيف تقدموا ؟ ولماذا تأخرنا ؟

كيف تقدموا؟

يجيب البروفيسور” نيال فرغسون “(5) مؤلف كتاب ” كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب؟ ” عن السؤال الأول فيقول : “أن ما ميز الغرب عن بقية أنحاء العالم ، وبالتالى القوى المحركة للقوة العالمية . كان ستة تطويرات جديدة ومتميزة في النظم وما رافقها من أفكار وسلوكيات تتمثل فيما يلى :

  1. المنافسة .
  2. العلوم.
  3. حقوق الملكية الفكرية.
  4. الطب .
  5. المجتمع الاستهلاكي.
  6. أخلاقيات العمل “.(6)

ومن يتابع مؤشر الصعود الحضاري في الغرب يجد أن هذه التطبيقات الستة سمحت لأقلية من البشر كان تعيش لعهود طويلة في كهوف الظلام في الطرف الغربي من أوراسيا بالهيمنة على العالم لمدة 500 سنة تقريباً.

ومع ذلك ورغم ما أنجزته الحضارة الغربية من إنجازات واختراعات وما أحرزته من تقدم  إلا أنها لاتخلو ، بطبيعة الحال ، من العيوب . حيث استنفدت هذه الحضارة حصتها من الآثام التاريخية ، بدءاً بوحشية الاستعمار واستنزاف ثروات الأمم الأخرى إلى ابتذال المجتمع الاستهلاكي ، والفساد والانحطاط الأخلاقى غير المسبوق، يضاف إلى ذلك أن إغراقها فى المادية أدى إلى كل أنواع العواقب الوخيمة التى تعيشها البشرية الآن . لذا يجدر بنا إذا أردنا أن ننهض حضاريا أن نفكر فى  كيفية امتلاك أسباب الحضارة التى تنقذ البشرية من ويلات ما تعيشه فيه في ظل هذه الرأسمالية المتوحشة وأن نهذب هذه التطبيقات الستة وغيرها والتى هى فى حقيقتها مستمدة من جوهر الدين الإسلامي الحنيف بنزعته العالمية ، و الانسانية القائمة على العدالة والمساوة واحترام حقوق الإنسان ، وعمارة الأرض وفق مقتضيات الاستخلاف القائم على التدافع وليس الصراع أو الصدام أوالاستقواء أو الانحطاط .

دعائم الحضارة الستة

وفى إطار هذه المنهجية لاعادة التفكير وصياغة المفاهيم والتصورات والقيم التي ينبغى أن نؤسس عليها العودة الحميدة لتحقيق الشهود الحضاري للأمة يحسن بنا أن نقف على مفاهيم وتعريفات هذه التطبيقات الستة كما فهما الغرب لنعرف كيف صاغ حضارته بما فيها من إنجازات وعيوب واختلالات . ثم نصحح المسار ونطابقه على المنهج الاسلامي الحنيف.

  • المنافسة : عن طريق اللامركزية فى الحياة السياسة والاقتصادية وهو ما أدى إلى انطلاق نهضة الدول الغربية وفق النظرية الرأسمالية .
  • العلوم : عن طريق دراسة وفهم العالم الطبيعى وبالتالى تغييره ، وهو الأمر الذى أعطى الغرب ( من بين أمور أخرى ) تفوقاً عسكرياً سابقاً على بقية أنحاء العالم مما أعطاه فرصة الهيمنة والاستقواء .
  • حقوق الملكية الفكرية : أى حكم القانون بوصفه وسيلة المالكين الشخصيين لحل النزاعات فيما بينهم بطريقة سلمية ، وهو الأمر الذى شكل قاعدة لأكثر صيغ الحكومات ثباتاً.
  • الطب : ذلك القسم من العلوم الذى سمح بإدخال تحسينات على الصحة وتوقعات طول الأعمار ، وهى الأمور التى بدأت في المجتمعات الغربية فزادت من معدلات الانتاج وجودة الحياة ثم امتدت تدريجياً إلى المستعمرات التابعة لها .
  • المجتمع الاستهلاكي : يقصد به نمط الحياة المادية الذى يؤدى في انتاج الألبسة والسلع الاستهلاكية الأخرى وشراؤها دوراً اقتصادياً محورياً ، ومن دونه ما كانت الثورة الصناعية التى كانت أحد أكبر أسباب نهضة الغرب أن تستمر .
  • أخلاقيات العمل : يقصد بها هيكلية الأخلاق ونمط الأنشطة المستقاة من الدين ( المسيحية البروتستانية ) والتى شكلت اللحمة اللازمة للمجتمع الحركي المعرض دائماً لعدم الاستقرار والمتعلقة بالحقوق والواجبات الخاصة بالعمال وأصحاب رؤوس الأموال .

ولا ننس قبل ذلك وبعده أن سر التفوق الغربي كان فى الثورة الصناعة بوصفها ” موجة من الأدوات ” حيث سهلت الزيادة الكبيرة فى انتاجية الأرض والعمالة والرأسمال ( وهى التى تسمى عناصر الإنتاج ).

على هذه الدعائم الست قامت نهضة الغرب ، وبالعودة إلى سؤالنا المركزى ، كيف نفكر حضارياً ؟ للإجابة على هذه السؤال لابد أن نعرف أولا ما هى معوقات الإقلاع الحضاري ، وفى ذلك يقول مالك بن نبي : ” فنحن مضطرون أحياناً إلى أن نفكر في هذا النقص الذي أصاب الإنسان، فقعد به عن ملاحقة توقيت التاريخ وأن نفكر في سد هذا النقص ” (7) .

منطلقات التفكير الحضاري

وفيما يلي نشير فى نقاط إلى المنطلقات التى ينبغى أن يقوم عليها تفكيرنا الحضارى ونحن نعيد أمتنا إلى مكانتها في الدورة الحضارية :

  • التفكير المتأني والعميق و تسليط الضوء على أسباب تراجعنا حضارياً أو بالأحرى معوقاته الأساسية بالدراسة و التحليل و ذلك لتشخيص الداء و هذا يتطلب استراتيجية مدروسة تمكننا من الانتقال من المرحلة الحالية  لتدارك جوانب القصور لنخطو الخطوة الأولى على هذا المسار وصولا إلى المنحنى الصاعد للحضارة.
  • القيام بدراسة تحليلية نقدية لأهداف وإنجازات أمتنا الإسلامية، بهدف معرفة أسباب فشل هذه المحاولات من أجل القيام بدراسة تعتمد على التحليل التفصيلي المنطقي ثم تقديم هذه الدراسات والأفكار كخلاصة يمكن الاستفادة منها في علاج مشكلات الواقع.
  • التفكير الإبداعي فى إيجاد أليات جديدة للاصلاح و التغيير وعدم الجمود على إقتناء وتقليد وسائل وآليات تطور الحضارات الأخرى حيث تتلخص أسباب انهيار أي حضارة إما بسبب حتمية تبدل وسائل الإنتاج، أو ضعف القوة الخلاقة وبالتالي يتراجع الأكثرية عن دعم الأقلية المسيطرة وهو ما نجم عنه الانشقاقات و الانقسامات وضياع الوحدة.
  • اعتماد الإسلام كمقوم أساسى لإحياء الحضارة الإسلامية عبر تراثها الصحيح فلا يزال قائماً حتى اللحظة لكن لم يتم تفعيله في سلوكيتنا كما كان فى صدر الخلافة الراشدة وما تبعها من أجيال حققت الريادة لهذه الأمة وجعلتها تقود البشرية فى موكب الحضارة عبر التاريخ .
  • لابد أن ندرك أن تراجع الحضارة العربية الإسلامية جاء نتيجة أسباب خارجية وداخلية من أهمها الاستعمار أو الحملات الصليبية، وأن الاحتكاك مع الغرب هو الذى كشف النقاب عن مدى تخلفنا مقارنة بالغرب، و هو ناجم بالأصل عن أسباب داخلية منها : الجمود والاستبداد السياسى والانحراف عن الأخلاق وبعد رجال الدين عن جوهر الدين الاسلامي .
  • فهم واقعنا المسكون بالقابلية للاستعمار التي تشكل أكبر المشكلات الرئيسية التي أدت إلى الانحدار الحضارى للأمة والتي يٌرجعها “مالك بن نبى” بحد ذاتها إلى عدة أسباب منها الأفكار الميتة والمميتة التي خلفها الاستعمار (8) بقوله أن : “الأفكار الميتة نتاج إرثنا الاجتماعي تولّد قابلية الاستعمار”، و” الأفكار المميتة مستعارة من الغرب تولّد الاستعمار” (9) وعدم استخدام المسلم ما تحت يده من وسائل استخداما مؤثراً وبذل أقصى الجهد ليرفع من مستوى حياته مما نتج عنه شلل النشاط الحضاري.
  • أن ندرك أن استنهاض الحضارة العربية والاسلامية مجدداً لن يتحقق إلا بإطلاق العقل المسلم فى فضاءات التفكير المنضبط من خلال تحصيل العلم الحديث وتطوير التعليم من أجل الوصول إلى مقومات حضارية راسخة تضمن استمرارها، ومن أهمها البعد التقليد لكل ما يرد لنا من ثقافات وافدة أو العيش أسارى بين دهاليز التراث القديم دون تنقيحه والإفادة بما يناسب قيمنا وعصرنا .
  • إطلاق ملكات التفكير والنظر الاجتهادي من قيود الجمود والتقليد، وتوسيع دائرة الحراك الفكري على أوسع مدى واحترام التخصص وتقديم أهل الخبرة والرسوخ فى كل علم ،ذلك أن تشجيع الاجتهاد وتحريك العقول، وتوسيع دائرة الرأي والتشاور والتفكير والتحاور مع الذات ومع الآخر هو الذي يحرك حالة الجمود التى تعيشها الأمة ، ويطلق طاقاتها المعطلة ويثير فاعليتها، ويشحذ همتها، ويذهب بغثائها ويثبت صوابها وينقلها من موقع التلقي والتقليد إلى موقع المساهمة والشهود الحضاري.
  • ترسيخ القيم الإسلامية الأساسية التي لا يمكن أن تقوم الحضارات أو تدوم بدون المحافظة عليها، مثل: الحرية والعدالة، والاستقامة والحفاظ على كرامة الانسان،والشهادة : أي حضور الإنسان بوصفه شاهداً على مسرح الحياة وما تشهده من تدافع بين الحق والباطل، و العدل والظلم، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والنور والظلام.
  • التوعية بالمسؤولية المشتركة فى مشروع نهضة الأمة حيث يمثل المشروع الحضاري مسؤولية عظيمة لا يمكن أن تنوب جماعة عن الأمة فيه، وإنما تقوم بها جميع شرائح وأطياف ومؤسسات المجتمع في جميع التخصصات، فمن الاشكالات التي تعيق استنئاف مسيرة الأمة حضارياً، أن الذين يفكرون من النخبة في أوضاع العالم الإسلامي وأزمته الحضارية من المسلمين، لا دور لهم في تحمل مسؤولية الإصلاح، فأدوارهم تنتهي عند الجلوس فى مقاعد المتفرجين لمتابعة ما يدور على مسرح الأحداث وحلبة الصراع بيننا وبين الغرب وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب ولا بعيد، وذلك بسبب عدم الشعور بالمسؤولية والخلل في منظومة القيم لديهم، فالإنسان الذي يحمل قيما إنسانية رفيعة،لا يمكن أن يتخلى عن مسؤوليته العامة في إنقاذ سفينة مجتمعه من الغرق أو استعادة نهضة أمته .
  • جعل التفكير لصيقا بالواقع، بحيث يتحمل المفكر مسؤولية التفكير والعمل من أجل الإصلاح والنهوض الحضاري بالأمة، مما يجعله دقيقا في التشخيص، متجنباً الوقوع في الخطأ، شاعراً بالمسؤولية يتحملها ويضحي من أجل القيام ببواجبه تجاه أمته ودينه ، يقدم المعالجات العملية المبدعة للقضايا الشائكة، متدبراً وحذراً من قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } ( الصف : 2 ـ 3 ) .

المصادر

  • كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب ، نيال فرغسون ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، لبنان ، الطبعة الثانية 2014، ص 37.
  • مقدمة ابن خلدون ، دار يعرب 2004، ، ج2، ص72 .
  • مالك بن نبي ، مشكلات الحضارة، دار الكتاب المصري ،بيروت 2012، ص12.
  • فصول في التفكير الموضوعي ، د. عبد الكريم بكار ،دار القلم ، دمشق ، الطبعة السادسة 2010، ص 41- 44 بتصرف .
  • نيال فرغسون ، واحد من أشهر المؤرخين البريطانيين ، يشغل منصب أستاذ التاريخ في جامعة هارفرد، وأستاذ في معهد وليام زيغلر في معهد هارفرد لإدارة الأعمال ، ويعد من كبار الباحثين في جامعة أكسفورد ، وفي معهد هوفر التابع لجامعة ستافورد ، كتب وقدم خمسة مسلسلات وثائقية لاقت ناجحاً هائلا وصدر له عدد كبير من المؤلفات .
  • كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب ،المصدر السابق ، ص51.
  • مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الكتاب المصري ،بيروت 2012، ص9.
  • مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، دار الكتاب المصري ،بيروت 2012، ص88.
  • المصدر السابق ، ص89.

بقلم: د. محمود المنير 

مدير مركز أفق المستقبل للاستشارات – الكويت

أضف تعليقك هنا