كراهية الآخر الغربي

عشت شكلا ً من كراهية الآخر الغربي منذ نعومة أظفاري في أسرة تنظر للأجنبي (الغربي ) بنظرة من الريبة والشك .. وتتحدث عن أمجاد من حاربوه كونه كافرا ً , وناصروا العثماني ( التركي ) كونه مسلما ً .. ولم أكن أدرك في حينها إن القضية أكبر من ذلك وأكثر شمولا ً .. قبل معرفتي نهاية العالم لــ فوكوياما , وصدام الحضارات لــ هنتغتون .

وتأملت طرفا ً , ولكن من زاوية أخرى , هذا الجانب من الصراع حين درستنا أستاذتنا الجليلة المرحومة الدكتورة سهير القلماوي (نظرية الرواية ) في أثناء السنة التمهيدية للماجستير عام 1978 وكانت التطبيقات على رواية الصراع الحضاري من المنظور العربي ، ولم أكن أدري , أول الأمر إن الصراع يمكن أن يتلفع بأساليب وطرائق متعددة .. ربما يصل إلى حد العنف , وينطوي على قدر كبير من الكراهية .. على مستوى الفكر والفن والأدب.

الصراع الحضاري الغربي في الروايات

تفاوتت وجهتا نظر الصراع و بحسب الزاوية التي تصدر عنها كل حضارة .. بمعنى إن هناك صراعا ً حضاريا ً غربيا ً ضد الحضارة العربية الإسلامية , وصراع الحضارة العربية ضد الحضارة الغربية .. فعلى سبيل المثال في ( الكوميديا الإلهية ) يضع الأديب الإيطالي دانتي رموزا ً إسلامية كبيرة الأهمية والقيمة في جحيمه .. الأمر الذي يؤكد حدة الكراهية ومدى قساوتها .. دون الأخذ بعين الاعتبار إن هذه الشخصيات الرسول محمد ( ص ) والإمام علي ( ع ) من الرموز التي لا يمكن التقليل من قيمتها إنسانيا ً فضلا ً عن التقليل منها إسلاميا ً.

الصراع في رواية الغريب

ويتجلى الصراع جليا ً في رواية ( الغريب ) الروائي الفرنسي .. البير كامو الأديب الوجودي .. والوجودية كما هو معروف تدعو إلى تحرر الإنسان.. ولكن اللاوعي يتحكم – هنا – إلى حد كبير في سلوك الإنسان .. وإذا كان دانتي قد عبر عن كراهيته بقدر كبير من الوعي بمعنى إنه كان قاصدا ً لذلك ومخططا ً له ..فإن البير كامو عبر عن كراهيته بالوعي واللاوعي معا ً عن كراهيته على طريقة الإقصاء الحضاري التي تذكرنا بصدام الحضارات كما أرساها لاحقا ً المفكر الأمريكي هنتغتون .

إن ( ميرسو ) بطل رواية ( الغريب ) لكامو يقتل المواطن العربي الجزائري لأن الأخير يحمل سكينا ً , وبمجرد أن تلمع السكين في الشمس وتنعكس على عيني (ميرسو ) يبادر فورا ً إلى مسدسه ويقتل الجزائري !! لأن السكين والشمس يرمزان للسيف العربي والحضارة العربية .. هنا .. تكمن المشكلة .. اللاوعي هو الذي حرك كوامن الإقصاء والكراهية الحادة .. إلى درجة العنف .. القتل.

تَعرُّض الروايات العربية للصراع الحضاري بين الشرق والغرب

وفي الأدب العربي الحديث تعرضت روايات عديدة للصراع الحضاري بين الشرق والغرب , لعل أقدمها ( أديب ) لــ طه حسين .., ثم ( عصفور من الشرق ) لــ توفيق الحكيم , و(قنديل أم هاشم ) لــ يحيى حقي , و ( الحي اللاتيني ) لــ سهيل إدريس ورائعة الطيب الصالح ( موسم الهجرة إلى الشمال ) .. ومن ثم ثلاثية ..أحمد الفقيه التي كتبت بلغة شعرية ساحرة .

رواية الطيب الصالح

كان في رواية الطيب الصالح دوال عديدة .. كانت ولادته سنة 1898 الوقت الذي بدأت فيه القوات البريطانية تجتاح السودان .. وحين ذهب الى لندن كانت لندن خارجة من الحرب .. ولذلك تم تقسيم الأجيال من وجهة نظري بحسب هذه الحرب ..، وتبين أن الأجيال السابقة للحرب واللاحقة لها لم تكن تعرف أو تفكر إلا بالسلام وتنشد التصالح .. هكذا تبدو في أوربيين يعيشون في بلاد العرب أو عرب يذهبون الى أوروبا .. وحتى رواية الطيب الصالح لأنها نتاج ما بعد الحرب فان رؤية كاتبها التصالح مع الآخر وليس الاصطدام معه .. في حين كان بطل روايته ( مصطفى سعيد ) وهو من جيل الحرب جيل صِدامي لا يعرف الا تصفية الآخر والانتقام منه .. وكذا جين مورس الأوروبية التي ترى في هذا العربي ( عطيل ) ولابد من تصفيته !!

ونظرا ً لظني واعتقادي ان المجتمع السوداني مجتمع يتنفس الصوفية والتصوف وكأني بالطيب الصالح يستبطن الآية القرآنية ( يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر ٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ) بمعنى أن (التعارف ) هو البؤرة المركزية التي تحدد طبيعة العلاقة بين الحضارات ، وليس صِدام الحضارات كما يذهب الى ذلك هنتغتون ..

وكان مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال يحمل في أعماقه جرثومة الصِدام الكبرى .. كان العالم الغربي – بريطانيا – قد غزت السودان ..وذهب هو ليغزو العالم الغربي بطريقته الخاصة .. ومن الطريف في هذا السياق ان مصطفى سعيد يمثل الحضارة العربية وهو ذكر وكانت جين مورس تمثل الحضارة الغربية وهي أنثى !! ومن المعروف ان جميع ممثلي الصراع الحضاري في الرواية العربية هم ذكور ذهبوا للدراسة في أوروبا وكان يقابلهم في الصراع أنثى !!

رواية موسم الهجرة للشمال

ومن الطريف أنني لاحظت جانبا ً صوفيا ً في رواية موسم الهجرة للشمال ينجلي في شخصيته ( جد الراوي ) الذي كان يحمل رائحة فريدة هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع !! .. وان الجد يعرف السر. كما ان رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم تنحوا المنحى نفسه ، فلقد أهدى روايته الى السيدة زينب هكذا الى حاميتي الطاهرة السيدة زينب.

ولكن بعد سنوات عديدة تأملت ( قنديل أم هاشم ) فوجدتها غارقة في الصوفية ، حتى كان عنوان الدراسة : الولي طبيب والمقام عيادة !! وقد نشرت في مجلة الناقد اللندنية.

فكرة الرواية

وتحكي فكرة الولي ان هناك انسانا ً تجد فكرة « الولي » وكراماته الخارقة ذيوعاً وانتشاراً في المجتمعات الزراعية، وفي الشرائح الاجتماعية المنحدرة منها الى المدن. ويكشف الإيمان بالولي وبكراماته عن تصور فكري واجتماعي يحكم علاقة الانسان بالمطلق من ناحية، وبالواقع من ناحية أخرى، وبكيفية إحداث التغير في الواقع الاجتماعي من ناحية ثالثة. وتحكي فكرة « الولي » أنَّ هناك انساناً ما رجلاً أو امرأة امتلك بفعل تقواه قدرات خارقة وكرامات متعددة، تتناقلها الأجيال، وتتضخم صفاتها في الوجدان الشعبي، وتصبح للولي عادة قيمة كبرى بعد وفاته، ويتحول قبره الى ضريح يؤمه الزائرون، يتبركون بالمكان، وينتظرون منه تحقيق المعجزة في تلبية دعواتهم، ويتحول المكان أي قبر الولي الى مركز له قيمة و قدسية، ويصبح مركزاً لجذب اجتماعي وفكري وثقافي .

التقاليد والطقوس الدينية

وترافق فكرة الايمان بالولي تقاليد وطقوس ذات ملامح دينية، يقدسها المجتمع، ويتباهى الكبار والصغار في تقديسها وحمايتها، لدرجة يعد من يخرج عليها مارقاً على الدين وقيمه، وهذا يعني أنّ « الولي » سواء أكان انساناً حياً، أو مكاناً تؤمه الناس بالزيارة والتقديس، انما يشتمل على فكرة خلعها المجتمع عليه لأنَّ المجتمع يجد فيه منقذاً ومخلصاً، يساعده على تحقيق أحلامه التي عجز عن تأديتها في الواقع.

الولاية

إنّ « الولاية » فكرة تتجسد في الانسان الفرد، ومن ثم يتحول قبره الى مكان تتجسد فيه روح الفكرة التي يؤمها الناس، وفكرة « الولاية » بحد ذاتها من صنع المجتمعات التي تبحث عن المطلق القادر على صنع المعجزات الخارقة، ولما كانت المجتمعات الزراعية متدينة بطبعها، فقد خلعت على بعض الأفراد المتميزين بالتقوى والإيمان، فكرة الولاية، وأضفت عليه كرامات أخذت تنمو وتتبلور وتتطور بفعل شوق الوجدان الاجتماعي إلى المعجزة.

من أين جاءت فكرة الولاية؟

إن « الولاية » فكرةً، وانساناً، ومكاناً، تنبئ عن تصورات اجتماعية معينة، يمثل فيها المجتمع كتلة ذات طبيعة واحدة متماسكة، وتخضع لقوانين صارمة غير قابلة للتغير والتفاوت . وتتولد فكرة « الولاية » من حالات القهر الاجتماعي التي تعيشها المجتمعات الزراعية بخاصة، إذ تجد في انسان ما فكرتها، حين يكون حياً، وتخلع على قبره قدسية ما حين يكون ميتاً . وبهذا يكون المجتمع كله في ناحية، والولي في ناحية أخرى، جماعة يقابلها فرد، أوجماعة عاجزة يقابلها فرد اسطوري خارق قادر على خلق الفعل وإحداث التغير.

وهي صفة، أو كرامة، تخلعها الجماعة عليه . ومن ثم فإنَّ الاتصال بالمطلق قد يهب الفرد في المجتمع شيئا من كرامته فتحل به البركة، ولذا كانت زيادة الأولياء أحياء من الأمور النادرة، اما الى القبور فهي الغالبة من أجل أن تحل البركة بالإنسان . أما فعل الولي فهو لا يخضع لقانون اجتماعي، وانما هو مطلق قدري اسطوري، خارق للعادة، وللناموس أيضاً .

الإيمان بالوالي

إنّ المجتمع الذي يؤمن بفكرة الولي مجتمع تحكمه قوانين صارمة، وهو غير قابل للتغير والتطور بسهولة، وفيه درجة عالية من التماسك والثبات . وتعطل في هذا المجتمع قدرات الانسان الفرد، ويعلى من شأن حركة الجماعة . فلا بد من الرضوخ لقيم الجماعة وتقاليدها . ولا بد من التسليم بطقوس الجماعة التي تؤدي بشكل جماعي، ولذا فإنَّ على الانسان الفرد أن يسلم بأفكار الجماعة ومعطياتها.

اما محاولة التغير في الواقع، وهو حلم يطمح اليه الانسان المقهور، فهي لا تتم بوعي قوانين الواقع الاجتماعي، وإحداث التغير فيها بفعل الانسان، وانما يتم ذلك بالتوسل بالولي، انساناً، وفكرةً، وضريحاً، لأحداث هذا التغير . وهو يتم بقوة خفية غامضة . وتفسر أحداث المجتمع سلباً وايجاباً في ضوء هذا الفهم . ولئن لم تؤت الدعوات التي ينثرها زائرو الأولياء والنذور التي يقدمونها أكلها، فلأنَّ خللاً ما في الانسان يحول دون تحقيق معجزة الولي فيه.

ونخلص من هذا الى أن « الولاية » مفهوم تخلعه الجماعة على الانسان الفرد الذي يتميز بخصائص فردية معينة. فوجود الولي قرين بعدين : أحدهما : فردي تضخمه الجماعة بمرور الزمن بسمات اسطورية خارقة . وثانيهما : الجماعة التي تجد في الولي محط أحلامها وطموحها وأمانيها، إذ تجد فيه الانسان الكامل الخارق، فهو المنقذ والمخلص الذي تخلقه الجماعة بسبب احباطها في حركة الواقع القاسية ..

ماذا يمثل ضريح السيدة زينب

ويمثل ضريح السيدة زينب لأسرة بطل القصة مركز الحياة، فالأسرة كلها تعيش في رحاب السيدة زينب وفي حماها، وان أعياد السيدة زينب ومواسمها إنما هي أعياد الأسرة ومواسمها، وأن حركة الحياة في البيت تابعة للضريح والمسجد، فمؤذن المسجد ساعة الأسرة .

وتمثل السيدة زينب لأسرة بطل القصة المنقذ الروحي الذي تلوذ به . وانّ كراماتها تعم المكان، وتوسع الرزق، وتحرس الأبناء، فاتساع متجر جد البطل من كراماتها، وان «اسماعيل » بطل القصة نشأ في « حراسة الله ثم أم هاشم » وإن ضريح السيدة خير كله، يزوره التقي والآثم

إنّ اسماعيل فرد واحد تصنعه الجماعة وتسهر وتشقى وتفنى من أجل صنعه وخلقه . إنّ المنقذ لا ينأى بعيداً عن الجماعة، فهي التي تدور في فلكه، تصنعه، ثم تقدسه . فهو فرد بإزاء الجماعة . والجماعة تسقط أحلامها عليه .والبطل « خبير بكل ركن وشبر وجحر، لا يفاجئه نداء بائع ولا ينبهم عليه مكانه . تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط . صورة متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد في روحة أقل مجاوبه .لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب ،إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبينه عينه»

إنّ الأسرة التي كانت تهيء « أسماعيل » ليؤدي دوره منقذاً ومخلصا، كانت ترى أن العلم هو الطريق الجديد للتقدم . واذا كان هناك منقذ ومخلص قديم يتنفس في أجواء التراث وينهل من روح التصوف، فإن المنقذ الجديد تصنعه الجماعة أيضاً، وتمهد الطريق له للاغتراف من العلم، وبخاصة في رحلة الى عالم العلم الحديث في الغرب، وكان لا بد من التضحية باللقمة والمال، كي يرحل « اسماعيل » لتلقي العلم في الغرب، ولكل رحلة مخاوفها ومخاطرها ، تماما كرحلات السندباد، تكتنفها العجائب والغموض والأهوال . وكانت فاطمة النبوية ابنة عم اسماعيل أول من استشعر الخطر، فهي تخشى من هذه الرحلة لأنها تسمع « انّ نساء أوروبا يسرن شبه عاريات، وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء، فاذا سافر اسماعيل فلا تدري كيف يعود إن عاد.

فيديو مقال كراهية الآخر الغربي

 

أضف تعليقك هنا