سمفونية القدر

أسبل الليل خيوطه الأولى بعدما توارت الشمس تاركة المسرح لفرقة القمر والنجوم، نامت رقية البدر مكتمل في قرية تعج بعابري الحياة، تُجمِّلها فوانيس وزرقة تكسي جدرانها المتهالكة، تتوسط جبال شامخة وأشجار باسقات وتحيطها وديان وأنهار كأنها بمنأى عن العالم.

كيف نال النعس من الشاب ذي القامة الطويلة؟

يمشي متثاقلاً بعد طول المسير وصولاً ل”عروس القرى”، حاله كحال العشرات ممن ساقهم القدر نحو سحر القرية، حازم نال منه التعب رغماً عن عنفوان شبابه وقامته المديدة التي لا تعكس من فتالة عضلاته إلا عرضَ منكبيه، خارت قوى الأسمر صاحب الشعر الأسود الذي يلامس كتفيه، جلس وسط ساحة القرية كمن على رؤوسهم الطير بين زحمة من الناس مستسلماً لغفوة نالت منه مرغماً فأغمض عينيه.

بمن التقى حين ولج القرية؟

سمع صوت فتاة خالَ أنه يعرفه، جحظت عيناه حينما سمعها تتمتم بكلمات:(القدر..وما بال القدر،في لقيا العابرين يلقي القدر سهامه، “الغلاديلاس”¹ ذبلت ولَقت حتفها في ثنايا “البيت الأعوج” فالتفت ناحية الصوت شادق الفاه ليجد حسناء تبتسم إبتسامتها تنسي حازم كل تعبه ومرارة الحياة، أخذ يحملق في وجهها الطفولي وشعرها البني الداكن المموج، وهو طفلم يناهز الحلم بعد، اتخذت مشاعره اتجاه حسناء منحى آخر فلقد أمسى يعشقها وهي بالكاد تلمح بعشقها له ومالبثوا حتى تزوجوا انتفض حازم مهرولاً إلى حسناء.

ماذا دار بين حازم وحسناء من حديث؟

عندما وصل إليها أبدى إعجابه بفستانها الأبيض الطويل، وبادر قائلاً:
– حسناء لقد تعبت وأنا أبحث عنك، أين كنتِ عزيزتي؟
– أجابت: لقد جبت المكان طولاً وعرضاً وأنا أبحث عن هاته العصافير.
وأشارت بسبابتها إلى أطفالٍ صغار يلهون ويلعبون وسط الساحة، أطفال بيض يملكون أجنحة يرفرفون بها في الأرجاء، يخدمون كل ساكن في القرية.
– قال حازم مبدياً إعجابه: إنها عصافير جميلة ياعصفورتي الوحيدة، هل تعلمين كم قلقت عليك وأنا الذي خلتك ميتة.
– قالت حسناء: إن الموتى يا حازم لا يراهم إلا الموتى والأحياء لا يرون سوى الأحياء، أولسنا هنا في عروس القرى نرى بعضنا البعض!!.
– صحيح يارفيقة الروح صحيح، أمك تنتظرنا في المنزل هيا لنعود إليها، لعلّها تأتي إلى هنا لا تتعجل العودة، فلننتظر.
– لكنها لا تعلم أننا هنا أيتها الغبية(قالها ممازحاً)
– ههه أنت الغبي، ستقودها العصافير كما قادتني أنا، وستقودك حتى أنت إن أضعت أثري.

كيف أضاع حازم حسناء وما الذي حصل بعدها؟

مشَت حسناء تشق طريقها في القرية بين سكانها في إستغرابٍ من حازم، تبعها مهرولاً يتقفى أثرها ويحاول اللحاق بها، تظهر له تارة وتختفي أخرى كطيفٍ يتملص من الحقيقة، توقف أمام وادٍ ذي ماءٍ زلال وأخذ يحملق بنظره باحثاً عن حبيبته، لم يجد لها أثراً فجأة أحس بأحد يربث على كتفه، فتح حازم عينيه ونهض فزعاً من حلمه ليجده رجلاً ذا شارب كثيف يعرض عليه المبيت، بعدما رآه غفى وسط ساحة القرية

قال حازم وهو يفرك عينيه: لا يا سيدي شكراً، سأسترسل طريقي نحو وجهتي شكراً مرة أخرى ابتسم الرجل ومضى في حال سبيله، حازم وأخد يشق طريقه بين زحمة الناس نحو مخرج القرية، في طريقه إعترضه متسول، شخص قصير القامة يسبقه بطنه أصلع الرأس يرتدي جلباب بني كاشف لونه ومرقع، سأله بقشيشاً، أعطاه حازم مايريد، لكن المتسول ظل يلاحقه ويردد ترانيم شجية وأحياناً تعاويذ وأدعية لم يتبين منها حازم إلا القليل.

هل التقى بأم حسناء بدل ابنتها؟

لم يتملص منه حازم إلا حينما شاهد إمرأة في عقدها الخامس على مايبدو تلوح له مستبشرة، لما لمحها هرولت إليه وعانقته دون أي مقدمات، عانقته بشدة المشتاق لفلذة كبده، فجأة سُمع صوت سيارة مسرعة آتية ناحيتهما، تتسارع دقات المرأة كلما سمعت صوت بوق السيارة يقترب، ظل يتردد صوت البوق لمرات قبل أن تستيقظ رقية فزعة من فراشها تتحسس مقبس الكهرباء في ظلمة حالكة

أشعلت النور لتجدها الساعة العاشرة مساءً وصديقتها تنتظرها في الخارج داخل سيارتها، همَّت رقية بالنهوض وهي تقفز على رجلٍ واحدة تبحث عن عكازها بعدما بثرت الأخرى في حادثة سير فقدت فيها فلذة كبدها حسناء، غيرت ملابسها والتحقت بصديقتها ليذهبوا لحفل تكريم، لما عادت رقية إلى المنزل أحسَّت بألمٍ شديد في قلبها وهي التي كانت تعاني من معضلة فيه،أصابتها نوبة قلبية حادة، ترائى أمامها صبية بأجنحة ملائكية فهمَّت بملاحقتهم نحو المجهول…

نُقِلت على إثرها إلى المستشفى، اتصلت صديقتها بحازم الذي ذهب في زيارة لجدته التي تسكن قرية في أقصى شمال البلاد، أخبرته بأن رقية في المستشفى وعليه العودة، قبَّل جدته وخرج مسرعاً للعودة خائفاً على التي بمثابة أمه وذكرى زوجته، فنبرة صديقتها لا تبشر بالخير، في الطريق صدمت سيارة حازم في غفلة منه ومات على إثرها، علِمت بذالك رقية بعدما استيقظت من غيبوبة دامت لثلاثة أشهر…

فيديو مقال مكر القدر

أضف تعليقك هنا