إذا افترضنا أن الموهبة تورّث، فهل نضوجها قابل للتوريث؟

النَسَب والمهنة و المال، حتى المناصب في بعض الحالات، يمكن توريثها للأبناء، بغض النظر عن قدرة الأبناء على تطوير هذا الميراث أو حتى المحافظة عليه، على خلاف الموهبة التي تتفرد برؤية خاصة تميز بريقها، و إذا اعتبرنا أن الإبداع ممكن أن يأتي نتيجة خبرة تراكمية معرفية، فمن الممكن أن تأتي الموهبة من خلال العامل الوراثي، رغم كثرة الفرضيات التي دحضت هذه الأخيرة و هي التي سنقف عندها في هذا المقال و ذلك من خلال أساس الموهبة و توريثها.

الموهبة والإبداع

قد يتلخص الإبداع إجمالاً في اكتشاف إضافة جديدة بمجال ما، دون الخروج عن قواعد هذا المجال، فالخبرة تلعب دوراً هام في جعل الراشدين يتكيفون مع حل مشكلاتهم المهنية و صنع نجاحاتهم إلى درجة تذهب بهم إلى حدّ الإبداع.و ذلك خلافاً عن الإبداع الموجود لدى الأطفال الذين هم ليسوا خبراء و لا منتجين إلا أنهم يتمتعون بفعالية التعبير من خلال لعبهم الخيالي و تساؤلاتهم المتبصرة، و قد يكونوا الأطفال أكثر إبداعاً من الراشدين نظراً لتلقائيتهم، فهم أقل اعتماداً على مسلماتهم.

إن أحدث تعريف للموهبة و التفوق هو الذي قدمه التشريع التربوي الأمريكي حيث جاء فيه: الأشخاص الموهوبون المتفوقون هم الأشخاص الّذين يظهرون قدرات أدائية عالية ومتميزة في المجالات المعرفية والإبداعية والفنية والقيادية أو في مجالات أكاديمية محددة ويحتاجون إلى خدمات أو نشاطات لا تتوفر عادةً في المدارس وذالك من اجل توفير الفرص الّلازمة لتطوير القدرات إلى أقصى حدٍ ممكنٍ.

 توريث الموهبة

كل الذين حاولوا العيش في جلباب مواهب آبائهم أخذوا استحقاقهم الذي يمتد على طول موهبتهم فقط، حتى ولو كانوا على دراية أكاديمية كافية تؤهلهم للعمل في مجال آبائهم و لكن يوجد حالات لأبناء عززوا موهبة آبائهم و أضافوا لها الكثير.

الموهبة التي تصل إلى ذروتها، تستطيع أن تقدم بيئة ملائمة للإبداع، هناك الكثير من الأمثلة لمواهب وصلت لذروتها و أنجبت مواهب كانت أعمق، و أيضاً هناك أمثلة كثيرة عن مواهب وصلت إلى ذروتها و أنجبت أبناء احترفوا ذات الموهبة لكنهم لم يقدموا ذات الإبداع و لم يطوروه بل كانوا أدنى مما قدمه آبائهم بكثير.و في سؤال توجهنا به للدكتورة (“فاطمة درويش” أخصائية في القياس التربوي و النفسي) من وجهة  نظر علمية معاصرة كيف تنعكس موهبة الآباء على الأبناء؟

عوامل وأسباب الموهبة

و كان الجواب :للوراثة الدور الأكبر في الموهبة ولكن للبيئة أيضاً دور، فهي التي تغذي وتطور الموهبة.
لا يمكن للبيئة أن تخلق الموهبة لوحدها، ويمكن أن نلحظ تراجع في الموهبة إذا لم تكن هناك بيئة داعمة لها.  هناك عوامل وأسباب للموهبة والتفوق و هي:

العوامل الوراثية

كان ” فرانسيس غالتون ”  أول من طرح فكرة “موروثية الذكاء” و منذ ذلك الوقت لا يزال علماء كثيرون يعتبرون أن الوراثة تلعب دوراً هاماً في تطور القدرات العقلية المتميزة ومن أكثر الدراسات دعماً لمفهوم موروثية الذكاء هي “دراسات التبني”  التي تُبين أن قدرات الأطفال بالتبني تشبه إلى حدٍ بعيد قدرات آبائهم البيولوجيين.

العوامل البيئية

إن تأثير الوراثة القوي على الذكاء لا يقلل من أهمية الدور الذي تلعبه البيئة و إذا كانت الوراثة مسؤولة عن انبثاق المواهب غير العادية فأن البيئة هي التي تغذي وتطور تلك المواهب وتعتبر الأسرة من أهم العوامل البيئية  في هذا الصدد فاكتشاف الأسرة للموهبة مبكراً من شأنه أن يسهم في تشجيع وتطوير الموهبة ومن العوامل البيئية الأخرى المؤثرة، المعلمون الذين يتوقع منهم رعاية التلاميذ الموهوبين وتنمية قدراتهم.

التعليم والموهبة

بعض الفرضيات أكدت أن السلالات توحي بالإسهامات الجينية في القدرة الإبداعية.  يرى “فرانسيس غالتون” و هو ابن عم “تشارلز داروين” في كتابه (العبقرية الوراثية – 1869) أن القدرة العالية تجري في عروق بعض العائلات، فالآباء الذين حصلوا على تعليم عالي يغلب أن يكون تعليم أبنائهم عالي أيضاً.
التعليم العالي يساهم بشكل أساسي في العملية الإبداعية لكنه ليس قاعدة، و لا ينطبق على توريث الموهبة، فعلى سبيل المثال “ويليم شكسبير” (1564 – 1616 ) ينحدر من عائلة نبيلة و من أبويين أميين.

يقول عالم النفس الأميركي “إليس باول تورانس” (1919 – 2003 ) تعد بعض أنماط التعليم أساسية و حيوية للإنجاز في بعض الحقول المعرفية، و لكن التعليم بعد مستوى معين قد لا يسعف كثيراً، و قد يستنفد الزمن الضروري لخبرات مهمة أخرى، و قد يغرس فوق ذلك أسلوباً من التفكير الجامد و المتصلب.

و لمعرفة ماهية العلاقة بين التعليم العالي و الموهبة و كيف يؤثر التعليم على نضوج الموهبة كانت لنا هذه الوقفة مع الدكتورة “فاطمة درويش” حيث أجابتنا بقولها :التعليم يساعد في تطوير وصقل الموهبة وتنميتها إلى حد الإبداع الخلاق والدليل على ذلك وجود مدارس خاصة للمتفوقين والموهوبين و وضع مناهج خاصة بهم من أجل إثراء وتسريع عملية التعلم لديهم .

الأبناء يرثون مواهب آبائهم

الأحلام التي يسعى الناس لتحقيقها تصبح جزء من آلية تفكيرها و ترتبط ارتباط وثيقاً بأدق تفاصيل حياتها و بتالي تنتقل إلى الأبناء من خلال التربية و الأفعال الغير مباشرة التي يقوم بها الآباء و يكتسبها الأبناء و ربما هذا ما يلعب دوراُ في تبعية الأجيال لبعضها بحد كبير.

عندما ينحدر الطفل من والدين لم تكتمل موهبتهما “أنصاف موهوبين” و لكنهما يتشاركان ذات الحلم، و متقاربين بالسوية التعليمية، هنا من المرجح أن ينجبان طفل ذو موهبة صارخة، و ذلك لأن “التفكير الشمولي” لديهم سينصب بطريقة غير مباشرة على طفليهما.و التفكير الشمولي هو من يورّث حسب رأي عالم النفس البريطاني من أصل ألماني       “هاينز آيزنك ” (1916 – 1997) حيث يقول:”أن التفكير الشمولي هو الذي يجري في عروق العائلات و ليس الإبداع في حد ذاته.
و قد عرّف الأخير التفكير الشمولي بقوله: هو اضطراب مفاهيمي تمتد فيه حدود المفاهيم بشكل مفرط بحيث تتداخل الأفكار الترابطية، أو حتى الأفكار بعيدة الصلة، مع مفاهيم الانفصام.

أما إذا كان أحد الوالدين موهوب و الآخر عادي، فمن المرجح أن ينجبان طفل مشتت أو نصف موهوب على أبعد تقدير فنحن هنا أمام عائلة لا يسود فيها التشارك بل يطغى عليها التنازع أو التبعية.و لمعرفة أنصاف الموهوبين و الارتدادات النفسية التي تعيش معهم أفادتنا الدكتورة “فاطمة درويش” بقولها:بدايةً تسمية أنصاف الموهوبين هو مصطلح غير دقيق فأما أن يمتلك الشخص الموهبة أو لا يمتلكها. وبدلاً من ذلك يمكن تصنيف الأشخاص إلى موهوبين وعاديين.

وبالنسبة لما يسمى أنصاف الموهوبين فالمشكلة هي ما يتعرضون له من إحباط وفشل نتيجة التوقعات العالية التي يضعونها لأنفسهم أو توقعات أهلهم بهم،حيث تعرضهم للفشل وعدم تحقيق ما هو مطلوب، يؤدي إلى تدني قيمة الذات وفقدان الثقة بالنفس وذلك نتيجة عدم قبولهم لما يمتلكون من قدرات والضغط عليهم من قبل الأهل ومن قبل أنفسهم و من قبل المجتمع المحيط بهم.

الاسترخاء المادي يؤدي إلى الاسترخاء الفكري

 مما لا شك فيه أن الموهبة حتى تنضج تتطلب أدوات خاصة بها و أسلوب تعليمي يتوافق معها و هنا نلاحظ أن الآباء المتعلمين و المتفوقين مهنياً و المستريحين مادياً قادرين على اكتشاف مواهب أبنائهم و العمل على تعزيزها و ذلك على عكس الآباء الغير مستقرين مهنياً و مادياً.

توجهنا بسؤال للدكتورة فاطمة درويش كان مفاده: ما هو دور المحيط  الذي يتلخص في (التأثير الاجتماعي و الاسترخاء المادي و الكم المعرفي) في نبوغ الموهبة؟؟ و حبذا لو دققنا على الاسترخاء المادي الذي من شأنه أن يؤدي إلى الاسترخاء الفكري؟و كان جوابها :للمحيط الاجتماعي دور الكبير في تطوير وتنمية الموهبة و ذلك من خلال الأسرة والمدرسة والمجتمع. أما بالنسبة للوضع الاقتصادي فله الدور الأكبر في تنمية الموهبة حيث يساعد على توفير الأدوات والوسائل والمعدات اللازمة لأية موهبة حتى يتمكن الشخص من صقل موهبته والوصول إلى الإبداع، ولكن هذا لا يعني أن الشخص الذي لا يملك المال لا يستطيع أن يطور موهبته ولكن حتما هذا سوف يؤثر على تطوير وتنمية الموهبة.

الموهبة لا تنضج من العدم

 من وجهة نظر شخصية و غير تخصصية لا يولد إنسان دون أن تولد معه موهبته و لكن حتى تنضج هذه الموهبة في المجتمع عامة تتطلب خطط طويلة الأمد و يقع تنفيذها على الحكومات المسؤولة عن مواهب مواطنيها، قبل مسؤولية الأهل اتجاه أبنائهم .

المراجع :

  • كتاب “الإبداع نظرياته و موضوعاته”   تأليف : مارك رنكو    ترجمة: د. شفيق فلاح علاونة
  • كتاب “مفاهيم الموهبة”  تأليف: روبرت ستير نبيرغ  و جانيت ديفيدسون

فيديو مقال إذا افترضنا أن الموهبة تورّث، فهل نضوجها قابل للتوريث؟

أضف تعليقك هنا