الميتالغة الأصول والامتداد

بقلم: المهدي آمال

لعل سماع هذا المصطلح للوهلة الأولى قد يثير العديد من التساؤلات، خاصة لمن كان مبتعدًا عن الحقل اللغوي، والسبب في ذلك لربما هو تعودنا على سماع كلمة (ميتا) غير منفصلة عن( فزيقا).

لماذا لدينا تفاوت في المعرفة بين مصطلحي الميتافزيقا والميتالغة؟

ها نحن إذن أمام مفهوم جديد لم نعهد سماعه إلا قليلًا، ولا وجود له إلا نادرًا بين صفحات بعض كتب اللغة، عكس الميتافزيقا التي أخذت من الشهرة حيزًا كبيرًا و حظًا وافرًا، فلا بأس إذا من تسليط الضوء على الميتالغة كمفهوم ظهر في البداية عند” رولان بارت” إلا أن جذوره ضاربة في عبق التاريخ العربي و لو بصيغة أخرى و تسمية مختلفة، من هذا المنطلق الوجيز نتساءل عن ماهية هذا المفهوم ومعناه و مدى حضوره في التراث اللغوي العربي؟

قبل الشروع في النبش عن معنى الميتالغة و صياغة تعريف اصطلاحي يليق بهذا المفهوم، ينبغي أن نشير مسبقا إلى أنه مفهوم مركب من كلمتين، وجب توضيح معنى كل واحد منهما على حدة، ففي ما يخص كلمة “ميتا فهي كلمة يونانية (باليونانية: μετα (ميتا) وتعني بعد أو ما وراء… وأما (اللغة) فهي في حد ذاتها موضوعًا أسال مدادًا كثيرًا من لدن العديد من اللغويين و الفلاسفة والمفكرين.

محاولات في الوصول لمعنى المصطلح “الميتالغة”

ولكي لا نطيل سنكتفي بذكر ثلاثة أعلام عرفوا اللغة أدق تعريف، وذاع صيتهم بشكل واسع و لازال مستمرًا و يحتذى بهم في مجال الدراسات اللغوية، أولهم اللغوي العربي أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، وقد جاء في مقدمة هؤلاء ليس باعتباره عالمًا عربيًا بل خضوعا لسلطة التاريخ بغض النظر عن قيمة المحتوى ودون اللجوء إلى تمييز أو مقارنة، و قد عرف ابن جني اللغة في كتابه الموسوم ب “الخصائص” قائلا:”وأما حدها أصوات يعبر بها كل قوم عن أعراضهم”

وأما الثاني فهو اللساني السويسري فردنارد دي سوسور الذي عرف اللغة في كتابه “دروس في اللسانيات العامة” بأنها نظام ذهني قائم في ذهن الجماعة اللغوية، وسوسر بهذا التعريف كان يصبو لأن يفصل بين اللغة و الكلام ذي الطابع الفردي… بينما نجد المفكر و اللساني الأمريكي تشومسكي يعرف اللغة في كتاب ” البنيات التركيبة ” على أنها مجموعة من الجمل المتناهية أو غير المتناهية لكل واحدة طول محدد و مركبة انطلاقًا من عناصر محدودة، هؤلاء و غيرهم من اللغويين و المفكرين ساهموا بقسط وافر في تراكم العديد من الكتب والأبحاث والمقالات التي اتخذت من اللغة موضوعًا لها.

ما المقصود بـ ماوراء اللغة؟

لنعد مجددًا إلى ما نحن بصدد، و نخلص من هذا الذي سبق، أن مفهوم الميتالغة يعني و بكل بساطة و اختصار ماوراء اللغة، إلا أن هذا التعريف و رغم إيجازه و اختصاره لازال يعتريه بعض الغموض، و لكي تتضح الرؤية أكثر نستند إلى ما جاء في التراث اللغوي العربي باعتباره أقرب و أوضح(لنا)، و قبل اقتفاء أثر الميتالغة في التراث اللغوي العربي، لنا أن نتساءل عن ما المقصود بما وراء اللغة كما ورد في التعريف الذي سبق؟ و عن مدى إمكانية وجود ما يمكن فهمه بشكل غير مباشر و كأنه غير مرئي أو جاء متخذًا صورة غير صورته (في الإطار اللغوي)

إن المقصود بالميتالغة هو أن اللغة بما تتوفر عليه من ألفاظ، رموز، و إشارات، لا تنطوي على المعاني و الدلالات الظاهرة بشكل مباشر فقط، بل و تحتوي أيضا على عالم غير مرئي لا يمكن فهمه إلا بعد تخمين و دراية بثقافة اللغة (لغة معينة)،أي أن اللغة في حد ذاتها قد لا تكتفي أحيانا بالمعنى المباشر الذي يظهر جليًا في ظاهرها، حيث لا يعدو هذا المعنى أن يكون معنى سطحيًا يلم في طياته معاني أخرى لا تمت بصلة للفظ المعبر عنها.

نحن ما بين الوقوف على شطآن الميتالغة والخوض في أعماقه

صحيح أن الاعتباطية إحدى أهم خصائص اللغة، إلا أن التوافق بين العشيرة اللغوية يجعل لكل معنى لفظ يعبر عنه عبر بنية تركيبية معينة، لتأتي الميتالغة و تخرق هذه القاعدة ليصبح اللفظ يعبر عن معناه المباشر (السطحي) الذي بدوره يتضمن معنى آخر غير مباشر،و ذلك ما اهتدى إليه عبد القاهر الجرجاني في نظريته المشهورة “نظرية النظم” الواردة في الكتاب الموسوم ب”دلائل الإعجاز”، عندما تحدث عن المعنى و معنى المعنى، وقال: و إذا قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة و هي أن تقول المعنى و معنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ و الذي تصل إليه بغير واسطة، و بمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرت لك.

و يبدو أن القول السالف كفيل بأن يوضح لنا معنى الميتالغة بشكل أو بآخر، فالجرجاني قد ميز بين المعنى المباشر للفظ ومعنى المعنى الذي يتخذ لفظًا غير لفظه و يكتسي دلالة ثانية غير تلك السطحية المباشرة، وهذه الفكرة لم يلتفت إليها أحد من نقاد العرب السابقين للجرجاني وقد تناولها بالبحث النقاد الغربيون وسموها (معنى المعنى) أيضا: the meaning of meaning.
وصفوة القول، إن الميتالغة كمفهوم معاصر و حديث لا يكاد ينفصل عن معنى المعنى كما جاء في التراث اللغوي العربي، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، ليبقى المضمون واحد و الغرض أوحد، ينحصر فيما يستحيل فهمه دون واسطة تمهد لما وراء اللغة أن يفهم بطريقة غير مباشرة متجاوزًا بذلك الدلالة السطحية التي تطغى في الغالب.

بقلم: المهدي آمال

أضف تعليقك هنا