المتلقي في التراث العربي

بقلم: د : محمد راضي محمد الباز الشيخ

إذا أردنا أن نتحدث عن اهتمام التراث العربي بالمتلقى، فإن هذا الاهتمام له محاور مختلفة ودوائر عديدة سنلقى عليها الضوء فى هذه السلسلة تباعا، وأول مظاهر هذا الاهتمام هو الأثر النفسي على متلقى النص الأدبى، وإذا أمعنا النظر فى التراث العربى سنجد فيضا غزيرا من النصوص الدالة على ذلك الاهتمام ، هذه النصوص أولت عناية فائقة به. (المتلقي في التراث العربي).

جهود عبد القاهر الجرجاني في تحليل النصوص الأدبية

ويعد – بحق – إمام البلاغيين وشيخهم ” عبد القاهر الجرجانى ” أبرز من اهتم بذلك الأثر وأولاه عناية كبيرة فى تحليله للنصوص الأدبية التى أوردها على وجه خاص فى كتابه ” أسرار البلاغة ” ، حيث غاص فى أعماق النفس البشرية بخبرة عالم بصير بخبايا النفس ، وما تهواه وما تمجه وتنفر منه ، وتحدث عن الأثر الجمالى للصورة الشعرية فى نفس المتلقى الذى – فيما أرى – يتلقاها بنفسه أولا أو إن شئت قلت يستقبلها عن طريق  طاقته النفسية أولا.

ثم بعد ذلك تحيلها النفس  إلى العقل الذى يمعن فى معناها ، ومن ثم تحليلها والإفادة منها والاستمتاع بها ، لكن هذا الاهتمام كان سابقا لعبد القاهر ، ففى هذه السلسلة من المقالات أحاول إلقاء الضوء على بيان اهتمام نقادنا القدماء بالأثر النفسى للأدب على متلقيه عبر تاريخه الضارب فى أعماق التاريخ ، وأبدأ برائد من رواد النثر العربي.

الجاحظ وكتابه البيان والتبيين

أبو عثمان عمرو بن بحر ( الجاحظ ) ت255ه،  الجاحظ كاتب عظيم أولى عنايته بالأدب والبيان فى كتبه التى ألفها وأهمها كتابه ” البيان والتبيين ”  ، الذى أوضح فيه جماليات البيان العربي وكيفية الحكم عليه ، نجد فى هذا الكتاب إشارات كثيرة لبيان الأثر النفسى للأدب على المتلقى  فيقول : ” وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره ومعناه فى ظاهر لفظه ، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة ، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله.

فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا وكان صحيح الطبع ، بعيدا من الاستكراه ومنزها عن الاختلال مصونا عن التكلف ، صنع فى القلوب صنيع الغيث فى التربة الكريمة ، ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة ، ونفذت من قائلها على هذه الصفة أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يمتنع من تعظيمها صدور الجبابرة ولا يذهل عن فهمها عقول الجهلة  ” ( البيان والتبيين : الجاحظ ، ج1 / 87).

الإيجاز في القرآن وفي كتاب الجاحظ

ذكر فى مقدمة كلامه السابق فضيلة الإيجاز فى الكلام وهى مزية العربية الأولى فالعربى بطبعه وحياته فى الصحراء القاسية تعود على الوصول إلى هدفه من أقرب نقطة ، وانعكس هذا على بيانه أيضا ، ونلاحظه فى القرآن الكريم عندما يخاطب العرب ، نجد جملا يسيرة موجزة ، دون غيرهم من الأمم مثل بنى إسرائيل على سبيل المثال ، ومن ثم فالإيجاز يستحسنه المتلقى ويكون ذا أثر نفسى مريح ، ولا يكون الكلام ملغزا ، لدرجة ألا يستطيع المتلفى فض مغاليقه.

ثم ذكر عبارة ” بعيدا من الاستكراه” ، وفى هذا عمد إلى الأثر النفسى للأدب على المتلقى ألا يستكرهه ، ليس متكلفا وليس فيه خلل لأن صحة طبع المتلقى تمكنه من الاستقبال الصحيح للنص ، وهذا  وعى من الجاحظ لإدراك قدرة المتلقى على الشعور بالخلل والتكلف الموجودين فى النص الأدبي.

وإثر ذلك تصنع فى قلوب المتلقين صنيع الغيث فى التربة الكريمة فنعت النص الجيد بالغيث وهو المطر النافع المفيد غير المهلك للنبات وأثره فى التربة الكريمة التى هى استعداد المتلقى ، وتفاعله النفسى مع النص الجيد ،  فالنص الأدبي المبدع يؤثر حتى فى الجبابرة قساة القلوب والنفوس والجهلة الغافلين ، وهذا تأكيد منه على أهمية الأثر النفسى للنص الأدبى على متلقيه .فالنص الأدبي المبدع يصل إلى كل نفس.

مضمون كتاب الجاحظ

ثم يقول فى موضع آخر : ” ومتى شاكل – أبقاك الله – ذلك اللفظ معناه … ، وخرج من سماجة الاستكراه ، وسلم من فساد التكلف كان قمينا بحسن الموقع ، وبانتفاع المستمع ” ( البيان والتبيين : الجاحظ ، ج2 /7) ، وهنا أيضا وضع الجاحظ شروطا فى النص الأدبى حتى يقع موقعا حسنا على نفس متلقيه ، لا يكون اللفظ سمجا مستكرها ، ولا يكون متكلفا وكل هذه آثار تدركها النفس الإنسانية ، كان جديرا بحسن وقعه على نفس المتلقى.

ثم يذكر أثرا نفسيا آخر فيقول : ” ومتى كان اللفظ أيضا كريما فى نفسه متخيرا من جنسه ، وكان سليما من الفضول ، بريئا من التعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان ، والتحم بالعقول ” ( البيان والتبيين : الجاحظ ، ج2 / 7 ) ، هنا يذكر مزايا اللفظ التى ذكرها يقول ” حبب إلى النفوس ” بمعنى أن النفس أول ما تستقبل النص فيحبب إليها أو تمجه وترفضه ، ثم بعد ذلك يعمل فيه  العقل عمله ، فالنفس – كما قلت – هى أول ما تستقبل العمل الأدبى وتشعر بأثره .

ثم يمعن الجاحظ فى إحساس النفس البشرية بالنص فيقول بعد ذكر مزايا الألفاظ الأدبية : ” وهشت إليه الأسماع ، وارتاحت له القلوب ” فلفظ وهشت إليه الأسماع هو أثر نفسى عن طريق الأذن ، ثم راحة القلوب هو أثر نفسى خالص هذه أمثلة وحسب لإشارات الجاحظ ل الأثر النفسي للنص الأدبى على المتلقى ، فالإشارات أكثر من أن تحصى فى مقال قصير ، لكنها تؤكد إدراك نقادنا القدماء وبلاغيينا على قيمة الأثر النفسى للأدب والاهتمام به وللحديث بقي. (اقرأ المزيد من المقالات على موقع مقال من قسم أدب، وشاهد مقاطع فيديو موقعنا على اليوتيوب).

بقلم: د: محمد راضي محمد الباز الشيخ

 

أضف تعليقك هنا