قطار إلى الساحل

صباح أحد الأيام عشت الحر، والذي تطل علينا فيه شمس حارقة مع أولى خيوطها، التي تشابكت في مشهد سريالي مع خطوط قطارنا العزيز، و الذي يأبى إلا أن يأتينا في غير موعده، متأخراً بدقائق ليست بالمعدودة، كعادته والتي ظل وفياً عليها لسنين قد خلت. بعد أن أتعبتنا دقائق الانتظار، تبادلنا النظرات مع من يقاسموننا ذات المعاناة اللحظية في دوامة الإنتظار التي تغرقك و تخرجك عما أنت فيه، هي معاناة تنتهي بمجرد سماع صوت المكلّفة بالإعلام داخل المحطة إيذانا بالاستعداد لأن قطارنا العزيز في صدد تشريفنا بعد قليل. (قطار المرض). (اقرأ المزيد من المقالات على موقع مقال من قسم خواطر).

في طريقنا نحو الساحل (قطار المرض)

يصل عزيزنا، نبدأ في صعود سلالمه بخطىً متسارعة، و بنظرات أقرب إلى أن تكون خاطفة تبحث عن عربة ليظفر صاحبها داخل أرجائها برفقة طيبة تعوضه عن الوقت الذي أهدره في سبيل الإنتظار و تؤنسه في رحلته هاته. رفقة يرميها لك القدر داخل عربتك دون طواعية منك، أو يمكن لعامل الاكتظاظ أن يتكفل بايصالك اليهم بحجة تواجد مكان شاغر بينهم. بين طالب و موظف و مسافر لغرض في نفسه، بين كتومٍ يجيد فن إنشاء الحدود الاجتماعية، وآخر فضفاض ينتظر أبسط تجاوب منك حتى يفتح مجاله الجوي في وجهك من دون تأشيرة أو جواز سفر، يبادلك أطراف الحديث عن أي موضوع جادت به الظروف و فرضته الأحداث الراهنة.

الوجهة كانت نحو مصحة الساحل

وجهتي كانت مصحة الساحل بالبيضاء، طوال الرحلة تملكني رهاب لقاء الأطباء و لغة تواصلهم التي لا أجيدها داخل كابينة الكشف التي تدهشني و تقززني وتغيب عني مداركي و تدخلني عالماً من تضارب الأفكار و الأحاسيس. ادخل المصحة و اتجه رأساً نحو موظفة الاستقبالات أدلي لها بوثائقي، تطالعهم و تطلب مني الجلوس في قاعة الإنتظار إلى أن تناديني، قاعة مكتظة كعادتها لا مكان شاغر هنا، تعج بالمرضى و أهاليهم, لا يغريهم طلائها الزهري الفاتن و لا كراسيها الجلدية المريحة و لا يقربون ماكينة القهوة التي كانت بالمجان.

قصص ومعاناة المرضى في المستفشى

تسمع فقط حفيفا و وشوشات فيما بينهم، قبل أن ينتقل الحوار في انسياب مع من بجوارهم أو من يقابلهم، الكل يدلي بدلوه و يسرد تفاصيل تجربته مع المرض بمرها و حلوها كيف وأين ومتى أكتشفه، يحكي عناوين أحداث ما مر به و يبوح بمعاناته و معاناة عائلته، أسارير لا يقطعها سوى نداء الممرضات اللواتي ينادين بأسماء المرضى حين يصل دورهم، الذين يبدأون بالتساقط كأوراق الخريف عند سماعهم لأسمائهم، هم يبحثون فقط عن نجاة كيفما كانت نهايتها حتى و إن كانت موتا.

العذاب النفسي الذي يعيشونه

هو عذاب نفسي قاهر أكثر مما هو جسدي، يستوجب منك التسلح بعتاد الصبر و الأكثر من ذلك كيف يمكنك مواجهة نظرة الآخر حينما تصبح موضوعاً دسماً لجلساتهم و أحاديثهم التافهة. كان كل من بالقاعة بدون استثناء يسأل و يبوح بما لديه بدون رقابة أو حسابات، من أجل تحقيق راحة نسبية أو بالأحرى الوصول لحقيقة واحدة مفاذها أنه ليس الوحيد في هذا العالم من قاسى، بل هناك من مر بما مر به أو بأمرٍّ من ذلك.

هناك من يقاسمه نفس الآلام ويعيش التحدي نفسه، يشتركون في الكثير من الصفات و يتوحدون في ذات الملامح، في طأطأت للرأس بوجه شاحب و عينين جاحظتين تبحثان عن مساحة أمل و لو من عند زميل له في المرض، هنا لا مكان لمقولة فاقد الشيء لا يعطيه، بل على النقيض من ذلك، الكل ينتظر العطاء في متاهة المرض و الكل يريد أن يبصر ضوءا عند آخر الممر، هكذا هم الواهنون يتوسلون الشفقة من الغير, شفقة لن تضيف إلى يومهم التعيس هذا شيئاً، من أشخاص في غنى عنهم و عن احاسيسهم.

لماذا النفس طوّاقة دائما إلى السند و الدعم الخارجي؟

لكن النفس البشرية طواقة دائما إلى السند و في حاجة إلى الدعم الخارجي، و إلى مشاركة الأحزان و المصائب مع الآخرين، خصوصا لمن هم غرباء عنها، إعتقاداً منها أن أسرارنا تدفن معهم عند أول ثانية من وداعنا لهم، هو مثال حي عما يحصل على متن عربات القطار، فالكل يفصح عما يخالجه من أسرار و أفراح و أتراح، في غالب الأحيان نعجز عن مشاركتها مع أقرب المقربين، على متن تلك العربة تولد تجارب اجتماعية و تناقش طابوهات من مشاكل زوجية و تطورات سياسية، تُدرس من كل جوانبها والكل يفتي حلولا لها، إما من خلال تجاربه الشخصية في الحياة أو من مداركه الأكاديمية.

فيديو مقال قطار إلى الساحل

 

أضف تعليقك هنا