“شخوص الكاتبة” مازالت على قيد الحياة

بقلم: مها حسام حسني بدّار

صدرت المجموعة القصصية “شخوص الكاتبة” للكاتبة الأردنية أماني سليمان داوود لأول مرة عام ٢٠١١ وتتضمن هذه المجموعة ١٢ قصة قصيرة معنونة تنسلخ عن عنوان المجموعة وأحدها استنسخ منه.

لستُ هنا بصدد تعداد العناوين وإنّما أرغب في استدعاء الحالة الشّعوريّة التي انتابتني أثناء رحلة قراءتي لقصص المجموعة، ففي كلّ قصّة حكاية، وفي كلّ حكاية شخوص، بعضهم نعرفه من البداية ونتوقّع له النّهاية وبعضهم الآخر نعرفه من البداية لكنّنا هيهات أن ندرك إلى أين ستؤول به النّهاية.

صفات الشخوص في كتاب “شخوص الكاتبة”

شخوص بسيطة في ملامحها الاجتماعيّة لكنّها مركّبة في أعماقها الدّاخليّة ومكنونات نفسها الخفيّة، ترسم الكاتبة ملامحها فتضفي عليها روحًا حقيقيّة مستمّدة من الواقع الحياتيّ اليوميّ لتحيي في دواخلنا الإحساس بها وتخرج من ذاتنا صرخات تمتزج بالشّوق أحيانًا وبالألم أحيانًا أخرى.

قصة السطح

في قصّة “السّطح” تلعب مدينة عمّان البطولة غير المعلنة فتنقل لنا الكاتبة عبق جمالها في التّسعينيّات من القرن الحالي، وتؤكد خلودها وإن رحلت بعض مكوّناتها أو شخوصها لأسباب مختلفة، فتستهلّ الكاتبة قصّتها برحيل السّطح ” لم يعد ثمّة (سطح)، كما تغيب الأشياء كلّها غاب…” حالة الغياب تتجسّد في أعمق صورها، فبين شوق الانتظار وهجرة أسراب الحمام تمرّ سنوات العمر، وتتغيّر الوجوه لكن تخلد شمس عمّان فترسل أشعّتها إلى كلّ ركن من أركان المكان.”

قصة سيّدة البهارات

أما في قصّة “سيّدة البهارات” فتجسّد الشّخصيّة الرّئيسة فيها فتاة ناجحة استطاعت أن تقدّم أخبار صفحتها بنكهة مميّزة لا تخلو من القليل من البهارات! “لا تنسي بعض البهارات”… هكذا يستقبلها رئيس التّحرير عند الإيعاز بكتابة موضوع جديد”.لكن ورغم مهارتها في وضع البهارات إلى كتاباتها، إلّا أنّها عجزت عن ذلك في حياتها الواقعيّة، فظلّت ألوان أيّامها باهتة، اضطرّت أن تنكّهها في أحلام من صنعها “ضحكت غير أنّها منّت النّفس بانتهاء هذا اليوم الفائض بمطيّبات الطّعام، لتروح بسرعة باتّجاه ذلك الحلم”.

قصة “الرّجل الّذي كان ماشيًا يحمل البقجة”

مع العلم أنّها لم تكن وحدها الحالمة، فلكلّ شخصيّة في هذه المجموعة حلم، فحتّى” الرّجل الّذي كان ماشيًا يحمل البقجة” كان يحمل حلمه في بقجته ويمشي هائمًا على عقبيه في شوارع المدينة فمن يراه يظنّه نائمًا لكن” هل نحن النّائمون حقًّا، وهو الأكثر صحوًا منّا؟!!”.

فلسفة الأضداد تتجلّى بين اليقظة والنّوم، لكن الإجابة عنها تحسم بحتميّة الموت، فيسدل السّتار عن صاحب البقجة، لكن يبقى السّؤال: وبعد؟ من الّذي سيأتي وما الدّور الّذي سيلعبه؟  حالة من الحيرة ولّدتها في نفوسنا تلك الشّخصيّة وشخصيّة ” العمّ أبو سامر” في قصّة “صباح أبيض” فحتّى ابنة أخيه لم تكتشف كنه شخصيّته ف” تقول الطّفلة طيّبًا كان ولطيفًا وتقول المرأة قاسيًا غدا وغريبًا”.

الأحكام المتناقضة في القصة

تلك الأحكام المتناقضة أطلقتها ابنة الأخ عن ” أبو سامر” فهل ذلك لأنّ العين التي ترى تتغيّر مع الوقت، فبراءة الطّفولة ما عادت موجودة في نفس المرأة لترى بياض نفس العمّ ناصعًا دون أن يذبله غبار الأيّام وشقاء السّنين وإرهاق النّفس، فيظلّ الصّمت إجابة لا تسمعها تلك المرأة.

قصّة “الأميرة”

الصّمت قد يتجسّد أحيانًا على صورة خرس أبله وقد يكون ساحرًا يورث صاحبه ميزة فريدة كما حصل في قصّة “الأميرة” الّتي أدركت قيمة الصّمت بعد تجربته فقالت:” أورثني الصّمتُ سحرًا عجيبًا، لم أدركه إلّا حين نبّهني إليه من سُحروا، ثمّ تجرّأوا على الاعتراف بوقوعهم فيه”.  فهل علينا أن نتعلّم الصّمت البليغ الّذي قد” يترك جلالًا عجيبًا وهالة وكبرياء وهدوءًا” لا تفرضه أبواق الجيوش؟!

قصة “عرافات شهريار”

قد يكون ذلك الحلّ ناجحًا أحيانًا، لكن الكاتبة لم تعتمده في مجموعتها دائما؛ فها هي شهرزاد تعتمد سرد الحكاية وفي بعض الأحيان تتفنّن في اختيار النّهاية، واختيار النّهاية قد يكون سوء تصرف منّا أو مداراة لعجز أحلّ بنا، فها هو شهريار بطل قصّة” عرافات شهريار” وبعد رغبته إراقة دم شهرزاد واستعادة فحولته أمام نفسه، وضمن مؤامرة مدبرة مع أتباعه، ما إن سمع عنوان قصّتها “حكايات العرّافات المهدورة دماؤهن”، “حتّى تضاءل شهريار …تكور … سقط السّيف من يده… وراح زاحفًا على يديه ورجليه عاويًا باتّجاه السّرير” منسحبًا من ذنب كاد يرتكبه.

قصة الجدار والعصى

لكن ما هو الحال عندما يصرّ الإنسان على ارتكاب الخطأ فيظلم نفسه ويحدّ طاقاتها بريشة معلّمة همجيّة رسمت معالم يوميّات تلاميذها بأسلوب رجعيّ ورثته عن قصص وصلتها من الكتاتيب؟! في قصّة “الجدار والعصا” تجلّت تقنية الاسترجاع الزّمنيّ الهادف؛ الّذي لم يفعّل كعادته ليأخذنا إلى تجليّات الأحداث السّابقة فحسب، بل جاء ليوقظ في دواخلنا تعليمات الأجداد ووصايا الآباء بضرورة الاستسلام والتّسليم، على اعتبار أنّهما صنوان لا يفترقان، فالتّحلّي بهما أساس الوجود، كيف لا، وهذه هي الحقيقة المرّة، على اعتبار أنّ من أراد الحياة لابدّ أن يعيش أبد الدّهر بين الحفر!!

الصّراعات الداخلية التي ظهرت على الشخصية الرئيسية

صراعات داخليّة سيطرة على ذهن الشّخصيّة الرّئيسة “التّلميذة”؛ فتركتها في حالة ذهول أصمّ يتناسب فعلًا وحضرة الموقف الظّالم! لكن بسلاسة القلم أخذتنا الكاتبة إلى حالة الهيجان الّتي تعيشها المعلّمة، السّت هاجر، على اعتبار أنّها التقطت جرمًا وعليها القضاء على فاعله! ألهذا خلقت الأجيال صمّ بكمّ عمي لا يفقهون؟!

تساؤلات، تحفّزها التّقنيات القصصيّة محكمة الصّنع، إذ واءمت بين أجزاء العمل القصصيّ وعناصره مواءمة متقنة جعلتنا نعيش الواقع الّذي طالما تعمّدنا إغماض أعيننا عن إبصاره فيطالعنا وصف الجسد الضّخم والجثّة المهيبة الّتي تحملها السّت هاجر، ويأتي الاسم العربيّ ليحمل في أحرفه بقايا صورة للقوّة والإصرار على الصّمود، ثمّ نفاجأ بواقع قمعيّ تعيشه هاجر فيبرّر سلوكياتها الهمجيّة.

رسائل كثيرة ومفردات غنّيّة ظفرت بها المجموعة القصصيّة طرحت بأسلوب سرديّ وقدّمت بإطار واقعيّ نعيشه وقد لا نقف عند أبرز محطّاته بسبب معترك الحياة اليوميّ الحافل بالمستجدّات الكفيلة عن إبعادنا عن خطّ سيرنا أحيانًا.

بقلم: مها حسام حسني بدّار

 

أضف تعليقك هنا