تجلّيات إيمانية

بقلم: دكتورة فاتن ناظر

” أردتُ ، أردنا ، أراد ربُكَ “

لقد جاء في سورة الكهف الآيات التالي ذكرها:

《 أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعبيها 》 .

《 وأما الغلام فكان أبواه مؤمنيَن فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه 》 .

《 وأما الجدار فكان لغلامَين يتيمَين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما 》.

تفسير آيات سورة الكهف

ويبقى السؤال عن سبب إختلاف لفظ الإرادة في الآيات الثلاث؟؟!يجدر القول أن القرآن الكريم لا يجوز الأخذ منه مجتزءً من سياقه ، بل إنه لابد عند تأويله وفهمه أن يتم تفسيره جملة وتفصيلاً كوحدة واحدة ، حيث أن القرآن يفسر بعضه بعضاً.

– لقد تحدث الخضر في الآية الأولى وجاء بلفظ الإرادة “أردتُ” : إن ذلك يعد نهجاً ومنهجاً للأنبياء والصالحين في خطابهم عن الله ، فهو على سبيل التأدب مع الله . حيث أن الأمر به عيب ونقص وخلل  من حيث خرق السفينة ، لذلك فإن الأمر به إفساد محض ، ولهذا نَسَبَ الخضر ذلك العيب والإفساد إلى نفسه.

تأدب الأنبياء والرسل في الحديث مع الله

وهذا ما جاء به أيضاً إبراهيم عليه السلام حين قال : 《 الذي خلقني فهو يهديني والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مَرضتُ فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين》 .فعندما تحدث إبراهيم عليه السلام عن الخلق والطعام والسِقاء والموت والحياة والغفران نَسَبَه إلى الله ، أما حينما ذكر المرض فنَسَبَه إلى نفسه تأدباً مع الله ، مع العلم أن المرض والشفاء من عند الله جميعاً.

واستناداً إلى كلام الله أيضاً في كتابه ودلالة على التأدب مع الله ، نجد ذلك أثناء حديث الجن المؤمن حين قالوا :《 وأنَّا لا ندري أَشرٌ أُريد في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً 》.لذا فإن الخضر نَسَبَ لنفسه تلك الإرادة التي هي بالطبع توافقت مع إرادة الله ، وذلك من أجل الأدب مع الله.

لماذا جاء لفظ أردنا في قصة الغلام في سورة الكهف؟

لقد تحدث الخضر في الآية الثانية بقوله : ” أردنا” عند مقتل الغلام :إن أمر الغلام به شقّان ، فظاهره القتل والتخلص من الغلام بالموت ، وباطنه إبدال والديه خيراً منه عوضاً وجزاءً لصبرهما وصلاحهما . لذا فقد فعل الخضر فعلته تلك من حيث القتل بناء على العلم الغيبي الذي أخبره به الله عن حال الغلام ، وأنه سوف يرهق أبواه طغياناً وكفراً ويعرضهما للشقاء الدنيوي علي يد أبنهما ، فما كان من الخضر إلا تنفيذ إرادة الله بقتل الغلام ، والتي جاءت موافقة أيضاً مع رغبة الخضر ، نظراً لما عرفه عن الغلام ، خاصة إذا كان المستهدف من الظلم والطغيان هما الأبوان.

لهذا جاء الخضر بلفظ أردنا ، لأن الأمر يتعلق بتنفيذ قرار القتل ، وهذا الأمر به إفساد محض، وكذلك إبدال الأبوين بخير من ذلك الغلام ، وهذا الأمر به إنعام محض . لذا تحدث الخضر في ذلك الموقف بلفظ أردنا لتوافق التنفيذ مع الإرادة الإلهية .

لماذا ورد لفظ (أراد ربّك) عند ذكر إقامة الجدار؟

 تحدث الخضر في الآية الثالثة بقوله أراد ربك :لقد جاء الخضر بلفظ ( أراد ربك ) عند ذكر إقامة الجدار وإعادة بناءه من جديد ، وذلك اللفظ به إنعام محض أيضاً ، من حيث صالح الغلامين و الحفاظ على كنزهم من السلب والضياع ، خاصة أن أهل القرية التي كانوا يقيمون بها كان معروفاً عنهم عدم الصلاح ورفض استضافتهم عابري السبيل ، كما كان الوضع مع الخضر وموسى عليه السلام عندما أبوا أن يضيفوهما  ، فكيف لهؤلاء أن يقدموا الرعاية والعناية والإهتمام لمثل هذين الغلامين . ولما كان الأمر كله به إنعام محض على الغلامين حتى يبلغوا أشدهما ويستخرجا كنزهما فقد نَسَبَه إلى الله.

وهكذا نجد أن الخضر جاء في الآية الأولى بلفظ الإرادة(أردتُ) تأدباً مع الله ، وأما في الآية الثانية(أردنا) لأن الأمربه شقّان وهما القتل والإبدال ، أما في الآية الثالثة من حيث إقامة الجدار ولما به من خير وإنعام محض لصالح الغلامين ، فجاء بلفظ الإرادة(أراد ربك).

ويبقى القول أن الخضر في نهاية سرده لتأويل تلك الأحداث الثلاث التي فعلها قال : 《وما فعلته عن أمري》 . مما يعني أن تأويل تلك الأحداث وتنفيذ تلك القرارات ما هي إلا إمتثالاً لأوامر إلهية كلّفه الله لآدائها لما حبّاه الله به من خصوصية وسلطة وولاية ربّانية منحه الله إياها من أجل الرسالة المبعوث بها إلى موسى عليه السلام ، ومن أجل تعليمه ونصحه وإرشاده بأنه لم يكن أعلم خلق الله على أرضه.

بقلم: دكتورة فاتن ناظر

أضف تعليقك هنا