تجلّيات إيمانية وبديهيات مرفوضة

بقلم: د/ فاتن ناظر

إن الإنسان يتميّز عن غيره من المخلوقات بالعقل ، كما أن الإنسان يتفضّل أيضاً بقدرة ذلك العقل على حُسن التفكير وصواب الرأي وسدادة الرجحان.

الخوف من ضياع السيطرة

وعلى الرغم من تمتع هذا العقل البشري بقدرة فائقة من الذكاء ، إلا أن تلك القدرة تتوقف عن العمل تماماً عند تعارض المنافع وتداخل المصالح والخوف من غياب الهيمنة وكذلك الخوف من ضياع السيطرة على مقاليد الأمور بما يستتبعه التذلل والهوان ، وذلك لا يتحقق إلا بسبيل واحد ألا وهو طريق السلطة القائمة على الاستخفاف بالعقول والإستهانة بالمشاعر وإستضعاف منعدمي الظهير .

غياب الوعي رغم وجود الدلائل

إن التاريخ البشري يتضمن العديد من الأمثلة والنماذج التي يتضح معها غياب الوعي وتجنب الحقيقة رغم وجود بديهيات ومسلمات من شأنها تؤكد دلائل لا تحتاج إلى الإثبات ، وذلك نظراً لوضوحها لرؤي العين ، وكما يقال في الأثر: “ليس مع العين أين”. إلا أن تلك البديهات قُوبلت بالرفض والإعتراض والهجوم.

يعد القرآن الكريم من خلال سرده لأحسن قصصه خير دليل على ذلك عن طريق عرضه للعديد من البديهيات التي لا تحتمل معها أية أغاليط ألا وهي :

البديهية الأولى 

《قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ》  (الآية٦٣ من سورة الأنبياء)

جاء ذلك السرد القرآني على لسان نبي الله إبراهيم عندما قام بتحطيم كل الأصنام الموجودة في المعبد وتعمد إبقاء كبيرهم سليماً صحيحاً قائماً بلا تهشيم . وعندما أصاب قومه الذعر والضجر والدهشة وجّهوا إليه الإتهام بإرتكاب ذلك الجُرم ، فما كان جوابه أن فاعل تلك الجريمة النكراء هو كبيرهم لإيهامهم أن ذلك مظنة منه نظراً لبقائه غير محطم .

لقد أراد إبراهيم أن يضع قومه أمام أنفسهم ويصل بهم من حالة التشكك إلى الإستفهام ومنها للوصول لدليل على إثبات الوحدانية وإنتفاء تعدد الآلهة ؛ أي إنه أراد أن يلزمهم الحجة على أنفسهم . وعلى الرغم من وصول إبراهيم بقومه إلى فرض واقع من الريبة والشك وإنتفاء الفعل والإرادة على آلهتهم إلا أنهم أذعنوا إلى صوت منافعهم وأصموا صوت عقولهم عن الإقرار بالحقيقة ، وذلك لتعارض خضوعهم للإيمان مع النفع والفائدة لهم .

البديهية الثانية 

《قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ》 (الآية ٦٩ من سورة الأنبياء)

بعد تيقن قوم إبراهيم من كذب زعمه بإرتكاب كبير الآلهة بتحطيم وتهشيم بقية الآلهة الأخرى ، وبعد مواجهتهم مع عقولهم بإستحالة التنفيذ من أصنام وأحجار تعجز عن هذا ، إلا أنهم أبوا الإنصات إلى صوت العقل وإحكام البصيرة ، بل بلغ بهم حدّ التشدد في إقامة الجزاء والعقاب عليه بوضعه وإلقائه في النار جرّاء فعلته .

جاءت إرادة ومشيئة الله مغايرة لهوى قوم إبراهيم ورغبتهم، حيث أوقف الله كل القوانين الفيزيائية والقواعد الحتمية والنواميس الطبيعية من خلال تغيير حالة النار من حالة الإحراق إلى البرودة و الأمان.

على الرغم من تبيان تلك البديهية والتي من شأنها لابد وأن تكون مؤكدةّ لربوبية ووحدانية الإله الواحد ونفي الشراكة في العبودية مع ما هو دون غيره ، إلا أن الطبيعة البشرية الضعيفة دائماّ تأتي معادية لما يخالف الهوى.

البديهية الثالثة 

《فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ》  (الآية٥٦من سورة النمل)

لقد جاء ذكر آل لوط في القصص القرآني لبيان  عنت ورجز قوم آل لوط ومدى مخالفتهم وإصرارهم علي تغيير وإفساد الفطرة البشرية التي جَبل الله عليها وذلك من خلال إتخاذهم الرجال شهوة ورفضهم وعدم إذعانهم لتحذير المنذرين لهم بهجر ذلك واتباع فريضة الله وسننه على أرضه . إلا أن حبّهم للشهوات وغلبة المتعة واللذة عليهم كان له الكلمة الطولى لاسيما وأن نبي الله لوط لم يكن له ظهيراً يحميه ويسانده ويدفع عنه أيدي بطشهم وتجبّرهم عليه . ونجد هنا أن الإنصياع إلى الإيمان تعارض مع قوة اجتياح اللذة والمتعة المحرمة ، على الرغم من إقرار قوم لوط بالطُهر والعفاف الذي هو نِتاج لذلك الإيمان الذي يدعو له نبي الله لوط.

البديهية الرابعة 

《قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ 》  (الآية١٧من سورة يوسف)

جاء ذلك السرد القرآني عند ذكر قصة نبي الله يوسف الصديق ، وقد كان ذلك على لسان أخوته بعد إرتكابهم تلك الجريمة والمؤامرة التي اجتمعوا جميعاً على الإشتراك في تنفيذها وهي قتل يوسف ، حتى  يستأثروا بحب أبيهم يعقوب خالصاً منفرداً لهم دون غيرهم.

نجد هنا أن إخوة يوسف قد أقاموا الحجة على أنفسهم بإقرارهم وإعترافهم بالكذب وعدم الصدق ، واستنكارهم لتصرف أبيهم معهم وعدم إيمانه بحديثهم على الرغم من كذبهم.

لقد تخلى إخوة يوسف بتلك البديهية ، والتي من شأنها مسلِّمة بحقيقة جرمهم عن إيمانهم بتعاليم أبيهم ، وذلك عندما تعارض هذا الإيمان مع الحب والإيثار بدافع من الغيرة والحقد والتطلع إلى مكانة أخيهم إلى قلب أبيهم.

البديهية الخامسة 

《مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ》 (الآية ٧٥من سورةالمائدة)

لقد أقام الله الحجة والبينة بتلك الآية على كل من آمن واعتنق فكرة أن عيسى بن مريم ليس رسول قد خلت من قبلِه الرسل ، بل إنه يتمتع بالعديد من المعجزات والخوراق التي تمكّنه من المنازعة مع الله في الربوبية والوحدانية والألوهية . إلا أن الله قد أثبت لهم أن عيسى هو نبي ورسول كريم بل هو كلمة الله أيّده بوحيّه وأنطقه في مهده ، وأن أمه مريم صديقة طاهرة بتول آمنت برسالة ابنها ونصرته قوياً ومستضعفا.

لقد كانت حجة الله منهم وعليهم من خلال بديهية ناتجة عن إيمانهم بعقيدة راسخة ، ألا وهي أن الآلهة لا تأكل الطعام أبداً. فإذا كان الأمر كذلك وبعد إتضاح الحقيقة لهم من تناول المأكل والمشرب لعيسى وأمه معاً ، فلما التعنت والإنكار وتغييب الحقيقة .

البديهية السادسة 

《فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا》 (الآية ٢٩ من سورة مريم)

لقد جاء إستفهام قوم عيسى بتلك الآية حجة ودليلاً عليهم بتعمد إستمرارهم على الكفر والعصيان حتى بعد زوال أسباب الإستنكار والدهشة والجحود بالحقيقة . لقد كان سؤالهم بالتعحب من الحديث مع رضيع في المهد ، وبالرغم من سرعة استجابة دعواهم وتلبية طلبهم بسماع البرهان من الصبي نفسه ، وعلى الرغم من بديهية حسن التصرف في مثل تلك الأحوال الواضحة البيان من ضرورة إتخاذ الإيمان عقيدةً والدين القويم رسوخاً  ، إلا أن الأمر الجلي لم يزد إلا إصرار على الكبر والإثم والإعراض عن الحق والتمسك بالباطل.

البديهية السابعة   

《فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ》 (الآية ١٤من سورة سبأ)

كان سبب نزول تلك الآية أن نبي الله سليمان بن داود قد أمر مجموعة من الجان بأداء العديد من المهام الصعبة والعصيبة والتي تحتاج في إنجاحها وإنفاذها على أيدي البشر فترة طويلة من الزمن ، ولذلك كلف نبي الله سليمان الجان بأدائها وجعلهم المنوط بهم وحدهم دون غيرهم بإتمامها.

ولكن عندما استأذنه ملك الموت في أداء مهمته التي منحه الله إياها ، فما كان من نبي الله أن دبّر حيلة بقائه على كرسيه متظاهراً بمراقبتهم حتى لا يمتنعوا أو يتوانوا عن تنفيذ ما كُلّفوا بإدائه . ولكن نظراً لطول بقاء وثبات نبي الله سليمان على كرسيه بلا تحرك فما كان من دابة الأرض التي تتغذى على ما كان يتكأ عليه نبي الله أن قامت بإلتهامها ، هنالك خرّ  سليمان على الأرض مرتطماً بها ، مما دلّ على فراقه للحياة .

عندما تبين للجان الذين أُمُروا بما كان مُكلف منهم ، هنالك شعر الجان بمدى المهانة والإستضعاف والدونية التي تعرّضوا لها ، وأنهم لو يعلمون غيب موت ملكهم سليمان لما مكثوا وظلوا في أداء ذلك الأمر والذي أسكنهم في عذاب ومهانة .

إن العجيب في تلك البديهية أنها لابد وأن تُتخذ حجة وبيّنة على أصحاب السحر والتنجيم الذين يدّعون على أنفسهم ما ليس بهم ، بل ويزعمون أيضاً مشاركة الله  في العلم بالغيب وبواطن الأمور ، والعلم بأحوال نفوس البشر ومنح القدرة والسيطرة والإجابة للسؤلّى لكل من يتهافت عليهم من الجُهّال وضعاف الإيمان ، لتلبية أمانيّهم وتحقيق رغباتهم ، على الرغم من إقامة الجان أنفسهم الدليل عليهم بإقرارهم العجز والخيبة والإخفاق في معرفة الغيب وما أراد الله أن يخفيه عنهم ، وأن قدرتهم ومعرفتهم هذه في آداء المهام لا تستطيع أبداً أن ترتقي بهم وتمكّنهم من منازعة الله في ربوبيته ووحدانيته التي تفرّد بها بلا إشراك ، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.

خاتمة

وختاماً …….يجدر القول أن الله قد حسم ذلك الجدال وأنهى أي شعور بالإحباط أو الإستيآس في أفئدة المؤمنين ممن عهدوا على أنفسهم أن يكونوا ورثة للأنبياء نظراً لسعيهم الدؤوب وجهدهم المبذول في إرساء أي حقيقة وترسيخ كل صحيح وقويم وإبطال كل باطل زهوق.

لقد كان ذلك من خلال تجسيد الله في سورة الحِجر لآية يسرد بها حال أناس أصرّوا على المضي قدماً وعلواً نحو الباطل رغم مِنح وعطايا الله لهم من الآيات والدلائل والحجج ، إلا أنهم يدّعون أن إمتناعهم عن عدم الرؤية هو كف البصر وعدم الرؤية لما حولهم من عجائب وثقات.

《وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ(١٥) 》                                                                     (سورة الحجر)

بقلم: د/ فاتن ناظر

 

أضف تعليقك هنا