《ولقد هَمَّت به وهَمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه》

بقلم / دكتورة فاتن ناظر

لقد خصَّ الله تعالي نبيّه يوسف الصدّيق بسورة كاملة في القرآن الكريم ، وذلك لما لها من عظة وعبرة أراد الله بها أن تؤتي ثمارها ونتاجها على القصص القرآني بما يتحقق معه النفع والصلاح لسائر المؤمنين.

قصة يوسف في القرآن منذ نشأته في صغره

يحكي لنا القصص القرآني قصة يوسف منذ نشأته في صغره في كنف أبيه ومحبته له ، وكذلك حقد وكره أخوته له ، الذي كان نتاجاً عنه تدبير مكيدة له ورمّيه في الجُب ، ومن ثم بيعه إلى عزيز مصر الذي عهد به إلى إمرأته من أجل تربيته وإكرام وإحسان مثواه ، ومن ثم فقد نشأ وترعرع في قصر ربه ووليّه ومُحسنه.

بلوغ يوسف سن الشباب

عندما بلغ يوسف مبلغ الشباب توقّدت لوعه الحب وشغفه لدى امرأة العزيز ، ونمى في قلبها الولع به والرغبة فيه، لذلك عكفت على التحضير لتلك اللحظة بكل ما أوتيت من نعيم ورخاء ورغد في العيش ، وتهيأت لذلك الحين واستدعته للحضور في غرفتها وأحكمت غلق كافة الأبواب ، حتى لا يجد مسعىً وملاذاً للهرب منها إن رغب في ذلك.

مراودة زليخة ليوسف

هنا يأتي القصص القرآني ويحكي لنا أنها حدثته بقولها له :《هيْتَ لك》 ؛ بمعنى أن كل ذلك النعيم سوف يصبح طوعاً لك وملك يدك إذا أحسن صنيعاً لما تبغيه منه ، وكان كل ذلك بعد أن روادته وأثارته من أجل استمالة رغبته فيها. إلا أن القصص القرآني يسرد لنا حُسن تصرف يوسف في ذلك الموقف من خلال قوله 《معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي.

وهنا يجدر القول أن موقف مراودة امرأة العزيز ليوسف من أجل الزنا به وإقامة الفاحشة قد انتهت وانقضت تماماً بمجرد عزوف وإعراض يوسف عن ذلك الفعل ومخاطبته إياها بالإستعاذة والإمتناع عن الإتيان بالمعصية.

واقعة الهم بها

يأتي بعد ذلك الحديث في القصص القرآني عن واقعة (الهَمّ به) (والهَمّ بها) .إن كلمة ( الهَمّ) تعني في اللغة العربية :  الرغبة والشروع في الإتيان بشئ قبل بلوغه . أما معناها إصطلاحاً كما جاء في القرآن الكريم هو الشروع في القتل أو الضرب ، وهو ما أكد عليه الدكتور محمد هداية أثناء تناوله بالشرح لتلك الآية.

لقد جاء القصص القرآني في تلك الآية واضح وصريح من حيث مفردات اللغة ، حيث أنه جاء بلفظ التوكيد (ولقد) أثناء ذكره لهَمّها به ولم يؤكد ذلك التوكيد مع يوسف . وإذا كنا قد ذكرنا أعلاه أن الهَمّ يعني إصطلاحاً القتل أو الضرب،  فإننا نصبح هنا أمام موقف جلي من امرأة وصفها القرآن أن يوسف قد شغفها حباً،  إلا ان ذاك الحب قد طُعن بسهم الغدر لعدم مبادلته بنفس لهيب الشغف ، فما كان منها إلا الإتيان بتصرف أهوج يطفأ نيران حبها ويوقف نزيف كرامتها ويضمد جرح حبها ، وذلك من خلال الإقدام بالهم بالضرب أو القتل حتى تتخلص من ذلك الهجر والعصيان وعدم الإمتثال.

موقف زليخة من يوسف بعد امتناعه عنها

عندما قامت امرأة العزيز بذلك التصرف،  حينها أقدم يوسف على مثل هذا حتى يدفع عن نفسه ذلك الأذى والضرر ، ( لولا أن رأى برهان ربه) مما تسبب في منعه من فعل هذا .والبرهان إصطلاحاً يعني الحجة والبَيّنة الحدسية الحسّية غير المادية او الملموسة ، لذا لم يأتِ بها القرآن واضحة وصريحة .أما ( لولا ) فتعني في اللغة العربية : حرف امتناع لوجود ؛ مما يعني أن يوسف أقدم على الرغبة والهَمّ بضربها لولا منعه من قِبل ربه سبحانه وتعالى ، لذا فهو لم يُقْدم على ذلك الفعل إطلاقاً.

إن ذلك التفسير هو الأقرب إلى التصديق العقلاني ، وكما قال الشارح الأكبر الإمام ابن رُشد : ” أنه يستحيل أن يعطينا الله قرآناً نقلاً لا يتفق أو يتسق أو يتنافى مع صحيح العقل ” .

وهناك العديد من التفاسير المختلفة التي تؤكد أن يوسف قد أقدم على الهَمّ بالزنا من امرأة العزيز ، وهؤلاء لابد أن نؤكد لهم أن القرآن الكريم وحدة واحدة لا يتجزأ ، كما أنه يفسر بعضه بعضاً . بمعنى أن القرآن الكريم جاء مُوضحاً في أكثر من موضع أن نبي الله يوسف كان من عباد الله المخلصين . كما أن الله عندما ذكر السوء والفحشاء قال :《كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء》 ولم يقل : لنصرفه عن السوء والفحشاء الذي يتمتع به .

كما أن القرآن جاء في نهاية الحكي على لسان امرأة العزيز نفسها حينما قالت : 《ولقد راودته عن نفسه فاستعصم》، والعصمة في اللغة هي عدم إتيان الفاحشة أو الرغبة فيها.

شهادة امرأة العزيز والنسوة اللاتي قطّ!عن أيديهن

لم تكن شهادة امرأة العزيز وحدها كفيلة لتبرئة ساحة يوسف الذي لقًبّه ربه بالصديق ، بل كانت شهادات النسوة اللاتي قطعن أيديهن عندما جئ بهن فقلن:《حاشا لله ما علمنا عليه من سوء》 ، هنالك قالت امرأة العزيز 《الآن حصحص الحق》؛ أي أصبح كل شئ جليّ وواضح لا يحتمل التأويل أو التزييف أو التشكيك ، وإنما تبرئة لذمة نقية حباها ربها بالطُهر والعفة وجعلها بعيدة كل البعد عن أي دنس أو فُحش أو دونيّة.

أما التفاسير التي تذهب في تأويلها إلى ضرورة الهَمّ بالزنا من جانب يوسف ، قد جاء تبريرهم أن ذلك يدفع عنه وصمة عدم الفحولة والقدرة على إتيان النساء لأنه بلغ مبلغ الرجال ، كما أن ذلك الهَمّ يعد تصرفاً فطرياً جُبل عليه الكثير من الرجال . ومن بين تلك التفاسير تفسير الإمام الشعراوي .

وهؤلاء مردود عليهم أن لنا في المسيح ابن مريم عبرة وعظة ، كما أن لنا في ابن خالته نبي الله يحيي أيضاً  الموعظة الحسنة ، حيث أن الله قد وصف يحيي من فوق سبع سموات أنه كان :《سيداً وحسوراً》. وحسور في اللغة تعني : الذي أتى مبلغ الرجال إلا أنه يتعفف عن الإتيان بالنساء ، وذلك لعدم الرغبة……. وليس لعدم القدرة .

ومما سبق يتضح أن يوسف الصديق لم يأتِ الإثم أو الرذيلة من قريب أو بعيد ، وذلك ليس سبباً أنه يتمتع بصفات ملائكية فطرته على الطاعة ، وإنما عن صفات إنسانية تعبديّة إيمانية خالصة ، كفلت لها سُبل العصمة والفضيلة .

بقلم / دكتورة فاتن ناظر

 

أضف تعليقك هنا