أحياناً

أحياناً، قد أبكي وأنا أقرأ مقالاً، وفي أحايين أخرى، قد أبكي وأنا أكتب مقالاً، تفاجِئني نفسي بما خفي فيها فيَظهر على سطح وجهي دموع لا أملك إيقافها، لكن أنْ أبكي بمجرد التفكير في الكتابة عن شيءٍ ما؛ فهذا ما لا يحدث إلا مرةً كل ألف مرة. وأنا لا أكتب هذه المقدمة ليُخيَّل إليك سيدي القارئ أنني أعتمد أسلوباً تسويقياً أجذبك به إلى قلبِ موضوعي، وإنما هي شكوايَ أبثها إليكَ أصطحبك بها إلى موضع قلبي، وهأنَذا أبكي بلا إنذارٍ مجدداً، فتحمّلني إلى نهاية المقال.

عند مسجد رسول الله تتوه الأقوال والأفعال  

هات يدك، ادخل معي، أنا الآن ببابِ مسجد النبي بعد أن عبرتُ الساحة الخارجية، أتحرق وأنا أتحرك، أبطئ السيرَ وعادتي الهرولة، أتريث وعادتي الاندفاع، أتوقف عن التفكير بأي شيءٍ وعادتي التفكير في كل شيء، أخطو وأتخيل قدمي تلامس موطئ قدمٍ طاهرةٍ مرَّت هنا قبل مئات الأعوام، فيتَنهَّدَ ضعفي وتَنْهَدّ قواي، أكف عن التخيل والتصور والسؤال، كي أستطيع بلوغَ وجهتي، أنا الآن أمر بين الأعمدة، أعبُر بين الصفوف والعابرين مثلي في هدوءٍ ثقيل، أريد أن أرجع ولا أرجع، أريد أن أجري إلى الأمام ولا أجري، أريد من كفِّي الكفَّ عن ارتجافها ولا تكف بل تزيد.

اترك يدي، إنها تتعرق، وامشِ خلفي أو أمامي لا يهم، كأنَّنا لا نعرف بعضنا بعضاً، أنا الآنَ أقترب، أنظرُ من بعيدٍ وأطيل عنقي وسط كل الأعناق التي تشرَئِبُّ فلا يزيدني الحرمان إلا شوقاً، ولا يزيدني البُعد إلا قرباً، ولا يزيدني الحب إلا صبراً. يؤذَّن للصلاة كأن الوقتَ يتعمد إثارة شجوني أكثر، يقصد خلط أفراحي بأتراحي فلا أعرف مَن أنا، نسلِّمُ ونهب واقفين لأن الجميع يريده، فعلى الجميع الاصطفاف إلى أن يُسمَح لهم بالدخول إلى حضرتِه.

العيون والقلوب توّاقة لرؤية مرقد رسول الله

يقف العساكرُ على حدود المكانِ لننتظم، وفي لحظةٍ واحدةٍ ينهار سدُّهم ليفيض الناسُ من ورائه أنهاراً، وتختلط الأقدام السود بالبيض، وتنتقل من سجاد المسجد الأحمر إلى السجاد الأخضر المخصص لهذه البقعة فقط، وتتجه الأنظار نحو… نحو… –اعذرني فوالله لا أطيق أن أقول قبر رسول الله- تتجه الأنظار إلى منامة رسول الله، إلى مرقد رسول الله، إلى جنة رسول الله خلف الشباك الملون بالأخضر والمذهَّب بالأصفر.

أفراح ممزوجة بدموع الشوق عند مرقد رسول الله

أنا هنا! هل تراني يا سيدي؟ أنا هنا! هل تسمعني؟ أنا هنا! فهل أنت أيضاً هنا؟ يعني هل المكان الآن يجمعنا؟ إن كان البُعد يقاسُ بالمكانِ، فها نحن في مكانٍ واحدٍ، يفصل بيننا خمسةُ أمتارٍ، وألف وأربعمائة وتسعٌ وعشرون سنة، أنا هنا يا سيدي! أبكي لأنني اخترقت المكانَ ولا أستطيع اختراق الزمان، أبكي لأن المكان يُقطَع والزمان لا يُقطَع، أبكي لأنني لأول مرةٍ أصلي عليكَ وترد عليَّ الصلاة من الأرضِ لا من السماء، أبكي لأنك الراقد هنا مثخناً في جراح الغزوات ومسجًّى في دموع الفتح ومدثَّراً في سلامات المشتاقين إليك، وأنت أنت تحت الثرى! وأنا أنا فوق الثرى! فيا ليتَ عمري كله يُهدَى إليك، فتزيد على عمرك عمراً، باستثناء ثانيةٍ أراك فيها ثم أموت ويكفيني أن حياتي كلها كانت محضَ نظرةٍ إليك. أنا هنا أيها الناظرون من السماء إلينا، أنا هنا في بقعةٍ واحدةٍ صغيرةٍ من الأرض، حيث يقف جسمي وينام جسم رسول الله!

أنا هنا يا رسول الله ولا يفصل بيننا إلا حرف النداء، تخيل! تخيل أنك ورسول الله لا يفصل بينكما إلا حرف الواو، تخيل أن تصلي ركعتَي سُنةٍ في حضرةِ الذي سنَّها، أن تقرأ القرآن على مسمعِ مَن عليه أُنزل القرآن، وتتدبر الآياتِ في جوار المفسِّر الأول للآيات! تخيل أنك في هذا المربع الصغير، تقف، وعلى يسارك يتَّكئ النبي ناظراً إليك، يقول: هوْناً عليك يا ولد! تريد أن تشكو الشوق فلا تجد الكلام، يومئ برأسه ويبتسم، تلمع دمعةٌ في عينه، تسيل على خده، يقول: وأنا أشتاق إليك.

هنا حيث يرقد رسول السلام.. رسول الله 

“هنا يرقد رسول الله”، وهنا يقف الزمان، وهنا يتجلى المكان، وهنا تنشرح الصدور، وهنا تشرئب الأعناق، وهنا تختفي العيون خلف أنهار الدموع، وهنا يتعجلونك بإلقاء السلام وأن تقول: إلى اللقاء، وهنا يريدونك أن تنصرف مولياً للرسول ظهرك، وهنا يريدون منكَ السلام على أهل السلام، وأن تُودِّع من لا يُطاق معه الوداع، وأن تصلي عليه للمرة ربما الأخيرة ويرد عليك وهو بجوارك. هنا يرقد رسول الله، ومِن هنا تركض أنت، تسأله القيامَ من الرقود لتعانقه العناق الأخير. هنا في بيتِه، حيث نحن الآن معه، نرقبه في لحظة حلمٍ واقعي أو واقعٍ حالم، نرى مرقده بعيوننا المجردة، ونراه من خلف شباكِه صامتاً ساكناً متأملاً، ينظر إلينا باسمَ الثغر لا يقول شيئاً، وفوق شباكِه كتبوا: “هنا يرقد رسول الله”

فيديو مقال أحياناً

 

أضف تعليقك هنا