الغربة بين حلم وردي وواقع أليم

بقلم: فاطمة عبد السلام أبوصبيع

عن مواطن بائس بين جدران وطنه الباردة تجمدت أطرافه، وفي نار حروبه حُرق قلبه، وُلد في وطن مكسور، فكان هو الضحية.في وطن بات ربيعه خريفًا تتساقط فيه الأحلام، وتتطاير فيه الأمنيات مع مهب الريح، على تراب وطن تشبع بالدماء حتى صارت بركانًا ثائرًا يحرق كل من يقترب منه، سُلبت حريته، ودُعس على كرامته، ضُيق الخناق على نفسه فما عاد يستطيع؛ فهاهو بطلنا العربي يسلك طريق الموت لينجو بعدما ذاق لوعة الحرمان في وطنه، فتصبح الهجرة غايته مهما صعبت الوسائل لنيلها، كان بين خياران أحلامها مر؛ فاختار الغربة خارج وطنه على الغربة داخله.

أسباب الهجرة 

بعد تفاقم الأزمات في عالمنا العربي، خصوصًا مع الأحداث الأخيرة التي شهدها من ثورات وحروب ودمار؛ باتت الهجرة هي الملجأ والملاذ والحلم للمواطن العربي، ودون تفكير في العواقب التي ستواجهه، بل ودون تخطيط مسبق وتفكير يعبر طريق الموت غير مبالٍ بما ينتظره في الجهة المقابلة. يظن وللأسف أن العالم خارج وطنه أجمل، يظن أن الأجنبي سيشعر بما قاسى من ضيم وعذاب، نسي بطلنا أن الوطن كثوب أو لحاف يستر الجسد؛ إن خُلِع فسيجرد الإنسان من كرامته فيصبح يعامل كجرثومة بين باقي المجتمعات!

هل  الغربة هي النجاة من الموت أم أنها الموت بعينه؟

يتكدس اللاجئون في المخيمات، ينهش البرد عظامهم ويقضم الصقيع أحشائهم ولا من يأبه لهم، باتوا مجرد أرقام/إحصائيات تعرض في خبر عاجل.فهل ستكون الغربة هي النجاة من الموت أم إنها الموت بعينه؟

يقول جبران خليل جبران: “ما زلت أؤمن أن الإنسان لا يموت دفعة واحدة وإنما يموت بطريقة الأجزاء، كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة فيحملها ويرحل”.

يصف حال العربي المغترب؛ فهو يقتل روحه ببطء دون أن يدري! تشتتت عائلته بين القارات، وتوزع أصدقاؤه على بلدان مختلفة، فكيف لروحه شبه الميتة أن تبدأ من جديد؟ سيعاني مرارة الذل والخذلان؛ فمن حوله لم يعيشوا ظروفه، ليسوا بزملاء المدرسة، وليسوا بصغار الحي الذي ترعرع بينهم. سيقتله الإشتياق لتلك الأزقة التي تألفه ويألفها وإن تظاهر بعدم المبالاة.

الشعور القاتل الذي يدمر الإنسان

الغربة شعور قاتل يدمر الإنسان، فمهما بدا الوطن قاسيًا ومهما بدت ظروفه لا تحتمل؛ فهو الملاذ والملجأ الأخير الذي ستكون فيه إنسانا. لن يقدم لك أحد وسائل الترفيه على طبق من ذهب، ستحتاج أن تعمل لتعيش، أن تذوق الويلات لتحصل على ثمن الرغيف، وقد لا تجد من يستقبلك أصلا وتركن في زوايا مخيم اكتظ بلاجئين مثلك دفنوا وهم أحياء، طوى الزمن آخر صفحاتهم لينسوا.

ستصدم بالواقع الأشد ألمًا من واقعك الذي أبيت تحمله؛ فالأحلام الوردية التي رسمتها ستصبح كوابيس لا تطاق، يعاملونك كآفة عليهم التخلص منها “عربي لا قيمة له”، وربما ينقلونك من بلد إلى بلد، من ملجأ إلى ملجأ، معاناة سنين العمر كلها لتحصل على إقامة وحقوق مثلهم!

حلم الهجرة المميت

رغم أن الصورة باتت واضحة، وبات الجميع مدركًا قساوة الحياة خارج أسوار الوطن؛ إلا أن الأغلبية لازالت تقامر بحياتها لأجل الحصول على حلم الهجرة المميت، بل وإن العدد في تزايد مستمر وبنسب مخيفة ومعدلات غاية في الخطورة. وهاهو العربي يعبر بحرًا هائجًا، تتلاطمه الأمواج، تنتظره حيتان جائعة تتحرى شوقا لتنهش جسده، الموت محيط به من كل الجوانب. أعداد لا تعد ولا تحصى لاقت حتفها غرقًا؛ بين أطفال وشيوخ ونساء- لا حول لهم ولا قوة- لا ذنب لهم سوى أنهم أرادوا أن يعيشوا كبشر، فقط كبشر.

حتى لو أعتبرنا السيناريو أعلاه هو السيناريو الأسوأ، فإن السيناريو الآخر لن يكون أقل معاناة وألم؛ فحتى لو تركت الوطن غير مضطر وعبرت الطريق المعبد بعيدًا عن طريق الهجرة غير الشرعية فإنك لن تجد في الغربة حضنًا حنونًا يغمرك بعطفه، ستكون في نظر الكل “مغترب”، مهاجر لست ابن الوطن، لن يعاملك أحد على أنك فرد منهم، استقبلوك بينهم لحاجة لهم لا أكثر.

أهمية حب الوطن

وفي الختام أود أن أشد على أهمية الوطنية”حب الوطن”. هل سيكون لكلمة وطن معنى إلا أبناءه؟ إن هرب أبناءه فلمن سيكون للعدو؟ تخيل إن استمر الحال هكذا بعد نصف قرن أين ستصبح أوطاننا العربية؟ بل هل ستكون هنالك أوطان عربية أصلا بعدما تجرد العربي من كيانه فارًا من جحيم لجحيم أشد قسوة؟ ربما لن تدون قصصنا حتى في كتب التاريخ؛ فبعد أن تشتت أبناء الوطن وكونوا حيوات أخرى في بلاد الغرب، أنجبوا أطفالًا بلا كيان لا يعرفون أصلهم؛ فلم يروا قط أوطانهم، سيتعلمون لغات أخرى متناسين أن لهم لغة، ستكون لهم عادات، ثقافات، تقاليد غير التي تحملها دماؤهم، فهل سيتذكر أحدهم في ذاك الوقت أنه كان عربي في يوم ما؟ الجواب مخيف!.

بقلم: فاطمة عبد السلام أبوصبيع

 

أضف تعليقك هنا