سنة خامسة غربة

كل عام ونحن أقرب إلى الله، كل عام ونحن أقرب إلى الانتصار على آمالنا، كل عام ونحن في أوطننا آمينن ومطمئنين، كل عام يتجدد ونحن في الغربة على أمل العودة، كل شهر وكل اسبوع وكل يوم وساعة ودقيقة وكل ثانية ولحظة ونحن منتصرين على كل طاغوت.

إلى كل شيء في بلدي.. وداعاً

الوقت الآن : ملون بالأبيض والأسود أو الرمادي ، ها أنا متكئٌ على زجاج الحافلة التي سأخرج بها و تُغربني، أنظر إلى معصم يدي النحيل وأمسكهُ بيدي الثانية، أسند ظهري إلى الكرسي وآخذ نفساً عميقاً من هواء بلدي وبالكاد استطيع أن أزفرَ به، وزني الآن لا يتجاوز الخمسين ولكني أحمل معي ذكريات وآلام تزن الأطنان، لا أعرف كيف تتسع على عاتقي لكنها بجانبي.

سارت الحافلة و مررنا بدمشق.. نعم دمشق.. أزحت البردة المسدلة على النافذة وكنا بجوار ساحة العباسيين ،سنوات كثيرة قضيت ولم أرَ دمشق عن كثب، شاهدت وجوه الناس ولم تكن بالوجوه التي أعرفها، تبادلنا نظرات كثيرة تحمل كثيراً من معانِ الحب والعتاب والعجز ولم يستطع أحد تفسيرها أبداً. أعترف بأن وجنتيَّ بقيتا مبتلتين من دموعي، بقيتا مبتلتيْن في مرحلة الوداع ومرحلة الفقدان، ومرحلة البعد، ومرحلة أعجز عن تسميتها مستمرة إلى هذه اللحظة، لربما الآن جفت قليلاً من وجهي ولكنها غزيرة كبئر زمزم في قلبي.

وبعد ساعات ممرّنا بالساحل وما زلتُ متكئاً على النافذة والستارة مسدلة، وإذ بأحدٍ يرمي بحجر كبير على نافذتي اخترق الحجر الزجاج وتكسر على جسدي المنكسر من الخذلان، سحجات بسيطة وإصابة في وجهي وأذني مع سيلان بسيط من الدماء، مر كل شيء كمرورنا في دمشق.

ها قد مرت خمس سنوات على غربتي

الوقت الآن: هو الآن أو ملون بكل الألوان التي نعرفها، بين هذه الكلمات المختصرة مرت الآن خمسة سنوات، الآن أنا لست أمام شباك الحافلة ولا أتكأ على شيء، وزني فاق الستين ولا زلتُ أحمل معي ذكريات وآلام تزن الأطنان.

السلام عليك أبي
السلام عليك أخي
السلام عليك ابن أخي
السلام عليكم دار قوم مؤمنين

رحيل أبي وأنا في الغربة

ها هو أبي ينضم إلى نجومي الآفلات، اتلعثم بمخارج حروف عند لفظ كلمة أبي، ابتلع غصةً بعد لفظها مباشرة، اليوم أصبحت في السنة الخامسة من الغربة، هذا العام اختمته وأنا فاقد أبي ولم أحضر الجنازة، مع الأسف الحياة لا تقف عند أحد تبقى مستمرة مسرعة، سنة جديدة يوجد فيها زيادات عديدة كما تحتوي على نقص و فجوة كبير، الحياة تفرغ من أناس نحبهم لتمتلأ من جديد.

كم غيّرت الغربة ملامحنا! 

يوم جديد في الغربة تشرق به شمس تشبه الشمس التي أشرقت منذ خمسة سنوات، تشرق على شخصٍ قارب الثامنة والعشرين من عمره تأتي أشعة الشمس وكأنها تتساءل هل هذا هو نفس الشاب الذي كان من خمس سنوات؟ أجيبها بصوت شجيٍ نعم إنه أنا.

كعادتي خرجت من عملي متجهاً نحو موقف الحافلة، صادفني صديقي الذي لم ألقه منذ خمس سنوات ونيف ؛ تبادلنا السلامات بحرارة وصعدنا الحافلة وجلسنا نتكلم أكثر، كان يجلس بالمقعد الذي بجانبي، كنا نتكلم وحينما جاء دوره في الكلام ألتفتُ نحوه و وجهت نظراتي إليه، أخذت شهيقاً عميقاً بداخلي أخاطب نفسي يا الله ما فعلت بك السنون، الشيب مشتعل في رأسه وبدت البدانة تأخذ مجراها، كم كبرت يا صديقي؟! خمس سنوات كانت كفيلة بتغير ملامح وجهك الطفولي هكذا بدأت أردد في نفسي، حتى خطوط وجهك بدأت بالظهور، رغم أني في كل سنة من الغربة أتحدث عن الشيب إلا إني أيقنت بمدى تقصير بوصفي الشيب في رؤوسنا، نعم رؤوسنا هذه (نا) الجماعة .

رغم أني أتفقد نفسي في المرآة في كل مرة لكني لم أدرك ما أدركته اليوم في وجه صديقي، لكن صديقي هو مرآة لي وهذه الصورة التي رأيته بها هي انعكاس لنا، أصبح عمر غربتنا خمس سنوات، معادلة غير متوازنة, غربتنا تكبر سنة ونحن نسبقها بأعوام.

غربة تتطلب منا العمل والصبر 

تراكمات وتطابقات وروتينيات كالنسخ واللصق تماماً هكذا استمر في غربتي، كما أن للغربة معانٍ واسعة، غربة الوطن، غربة الأهل غربة اللغة، غربة الثقافة، غربة الغربة، إلا أنها كلها اجتمعت عندي. مالي ومال تلك الكلمات سأنسفها وانسب إلي كلمة الهجرة.. هجرة الذي كان لنا به أسوة حسنة.

الآن أصبح عمر شمس غربتي خمس سنوات ونيف، المهم أن الشمس ما زالت تشرق والأهم أن نشرق نحن، أن نشرق بديننا و فكرنا وعلمنا ونشرق بأشرقنا، ونعمل على أنفسنا وأننا لم نخلق سدى وأننا دعاة إلى الله سبحانه وتعالى، والغرض من ذكر هذا آنفاً ليس الشكوى قط، إنما تثبيت ذكرياتنا التي يجب أن لا تنسى وحث أنفسنا على الصبر مع الرضا.

فيديو مقال سنة خامسة غربة

 

أضف تعليقك هنا