الأقسام إسلام

اللاعنون مَن هُم؟

كلمة “اللعن” وردت في القرآن إحدى وأربعين مرة، وغالبها لعنة الله وحده إلا في موضعين أضاف الله-جل جلاله-معه آخرين، والغريب والعجيب أن الآيتين في سورة واحدة وبشكل متتابع:”….أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ(159)… أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) البقرة.

من هم اللاعنون؟

وفي الثانية النص واضح في اللعن من الله والملائكة والناس أجمعين وجُرمهم “ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ…“، وأظنك لاحظت أنه في الآية الأولى كرر فعل “َيَلعَنُهُم” دون الثانية وأيضاً أضاف اللاعنون، فمن هم اللاعنون؟ قبل الخوض في تفسيرها لابد من التعريج على الآية الكريمة والتأمل فيها لنعرف عِظم الجرم الذي استحق ذلك اللعن.

ما المقصود باللعن؟

اللعن من الله هو الطرد من رحمة الله -والعياذ بالله-، وهذا لا يكون إلا عند ارتكاب كبيرة من الكبائر فهي ليست ذنباً فقط وإنما جريمة كبرى، وقيل اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم[1]، أما اللعن من المخلوقين فهو مباعدة الملعون ومشاقته ومخالفته مع السخط عليه والبراءة منه والدعاء بأن يُبعده الله عن رحمته.

مالعمل الذي فعله هؤلاء ليستحقوا عقوبة اللعن؟

فيا تُرى مالعمل الذي فعله هؤلاء ليستحقوا تلك العقوبة؟ لنقرأ الاية من بدايتها:” إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ(159)،

لقد ظهر الأمر وبان السبب، لنتابع مع الآية الكريمة، قال ابن عباس: إن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفات النبي ﷺ، ومن الأحكام، فكتموا، فنزلت الآية، والعِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي تشمل كل مَن مارس هذا العمل سواء كان من أهل الكتاب أو غيرهم وعلى مدار الزمان والمكان كما قرره علماؤنا الكرام.

تفسير الآيات التي ذُكر فيها اللعن

لنحاول تلمس بعض الوجوه الإبداعية في الآية لتبيين ذلك الجُرم:

استخدم القرآن الكريم “يَكْتُمُونَ” بصيغة المضارع للدلالة على الديمومة، فلم يكتفوا بمرة واحدة وإنما مستمرون في غيهم، والكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه، وحصول الداعي إلى إظهاره، وقد جاء في الحديث:”من كتم علمًا ألجمَه اللهُ يومَ القيامةِ بلجامٍ من نارٍ[2]، والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلاً و يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له.

حذف متعلق “يَكْتُمُونَ” الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته. قوله تعالى: “مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ” فالمراد كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دون أدلة العقول، وقوله تعالى: “وَٱلْهُدَىٰ” يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية،فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد[3]، وقيل وَٱلْهُدَىٰ” هو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم.

مقالات متعلقة بالموضوع

من لطائف التعبير القرآني

من لطيف التعبير القرآني قوله “مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ” في الكتب وعن طريق الرُسل، فقد تكفل الله ببيناه بينما يسعى هؤلاء في كتمانه! لِلنَّاسِ” لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته، وفي هذا زيادة تشنيع وتوبيخ عليهم، وهو أنه مع كونه كتماناً للحق فهو اعتداء على مستحقه الذي جُعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم، والتعريف في الناس للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدي الناس كلهم.

سبب تكرار فعل يلعنُهُم

أظنك بعد هذا لاتشك أنهم يستحقون أشد العقوبة وأغلظها، فأي جريمة أشنع من تلك؟ وكرر فعل “يَلعَنُهُمُ” لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم، ولتأكيد اللعن وشموله من الله ومن اللاعنين.

والآن لنرجع إلى سؤالنا : من هم “ٱللاَّعِنُونَ” ؟اللام للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن،واتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين داخلون تحت هذا العموم لا محالة، وزيادةً كل دواب الأرض، بل ذكر بعضهم حتى الجماد يلعنهم،  كأن كل مَنْ في الوجود يشترك في لعنهم، “فكما أن معلم الناس الخير يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء”،

لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتمُ لما أنزل الله، مضاد لأمر الله مشاق لله الآمر بتبيين الآيات للناس وتوضيحها، وهذا يطمسها ويعميها، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد”[4]، ألا ما أشده من عقاب، وهو يشمل كل من يكتم مابينه الله للناس ولو كان قليلاً لعموم اللفظ.

رحمة الله بعباده ومغفرته لهم

وما أجمل الآية التي بعدها:”إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 160)” يا الله ما أرحمك وما أعدلك، فمع جرمهم الكبير وكتمانهم ما بينه في كتبه وعلى لسان رسله واستمرارهم في ذلك، إلا أنه -سبحانه-  فتح لهم باب التوبة وومضة أمل ونافذة تُمكنهم الخلاص والنجاة من تلك العقوبة، وذلك بثلاثة شروط:

  1. تَابُواْ “التوبة وهي الاعتراف بالخطأ، والندم على تلك الفعلة الشنيعة.
  2. وَأَصْلَحُواْ ” يعني إصلاح ما أفسدوه من أعمال وأقوال، فمثلاً لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة.
  3. وَبَيَّنُواْ “ وهو عكس الكتمان ويكون بإظهار ما كتموه، وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم.فدلت هذه الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي(الكتمان) وبفعل كل ما ينبغي (التوبة والاصلاح والبيان).

وقبل الختام لابد من التنويه على أن الآية عامة في كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بَثّه مهما كان علمه فلا يشترط أن يكون من العلماء المشهود لهم -وإن كان هؤلاء داخلون من باب أولى-، لذا قال أبو هريرة -رضي الله عنه-:”لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدّثتكم حديثاً، وقرأ هذه الآية.”ولما كان كلٌ منا لديه من العلم مالله به عليم، فأنا وأنت بين صورتين:

  • صورة معلم الناس الخير الذي “يصلي عليه اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةِ في جُحرِها وحتَّى الحوتِ في البحر” أو
  • صورة كاتم العلم الذي يلعنه الله ويلعنه اللاعنون. والخيار لك

المصادر والمراجع

  • راجع “التحرير والتنوير” لابن عاشور
  • صحيح الترغيب والترهيب للألباني رقم 121
  • تفسير الفخر الرازي
  • تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ ابن سعدي
  • صحيح الجامع الصغير للألباني رقم 1838

فيديو مقال اللاعنون مَن هُم؟

أضف تعليقك هنا
شارك

Recent Posts

مشاركة تلاميذ ثانوية المتنبي التأهيلية بإقليم آسفي في مباراة الصحفيين الشباب من أجل البيئة دورة 2024

بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد

% واحد منذ

أفكار أعمال صغيرة مربحة جداً وغير مكلفة

بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد

% واحد منذ

على من نطلق الرصاص؟

بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد

% واحد منذ

الكوارث تبرز أفضل وأسوأ ما في الناس

بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد

% واحد منذ

فن الشاطئ.. رؤية فنية بحس جمالي فني سياحي لمدينة أصيلة الشويخ عبدالسلام

بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد

% واحد منذ

نقاء الروح

بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد

% واحد منذ