لماذا لا نشعر بالعدالة!

لماذا لا نشعر بالعدالة؟

 لا شك أن العدالة المبدأ الإنساني والأخلاقي الأهم على الإطلاق وتحقيقها هو أكثر ما تسعى إليه البشرية منذ بدء الخلق وهو مطلب إنساني عام بالدرجة الأولى لا ينزوي تحت أحد الجوانب الثقافة أو الدينية أو العرقية. 

والعدالة -مثلها مثل كثير من القيم الإنسانية- قد يراها البعض من زوايا مختلفة. وقد تكون هذه الرؤى قاصرة على أحد الجوانب فقط مثل العدالة الاجتماعية أو العدالة المناخية وغيرها. وللإجابة على هذا السؤال “لماذا لا يشعر الناس بتحقيق العدالة” عليا أولاً بتعريف العدالة وثانيا ولكي لا نغوص في حالات خاصة ببلد او فئة ما فنفترض هنا أن أنظمة العدالة غير فاسدة وأن هدفها تحيق العدالة بين الناس. 

تعريف العدالة

دعنا نقر أولاً أن الإنسانية لم تتفق على تعريف واحد دقيق وكامل للعدالة. فبجولة سريعة في معاجم اللغات المختلفة وبعض ما وصل إلينا من أقوال المفكرين والفلاسفة ورجال الدين سوف نجد اختلافات شاسعة فيما بينهم وفي بعض الأحيان تعريفات مختزلة للمعني الكامل للعدالة 

معجم اكسفورد للغة الإنجليزية يصف العدالة وهي اشتقاك من كلمة (Just) بأنها “أن تفعل ما هو صحيح أخلاقيا” وفي موضع آخر بنفس المعجم حينما وصف كلمة “(FAIR). قال. “اعطاء كل ذي حق حقه”. وإذا ذهبنا إلى فلاسفة العصر الإغريقي القدامى، أرسطو مثلا قال إن العدالة هي “معاملة الجميع بسواسية إلا إذا كان هناك فارق كبير بينهما”. والمقصود بالفارق هنا الفارق في الإمكانيات الجسدية أو الصحية. فمثلا المريض لا يعامل كالصحيح. والضعيف لا يعطى حجم من الأعمال كالقوي.

واختصر كارل ماركس تعريفه للعدالة على الناحية الاقتصادية والاجتماعية فقط. وتطرق ابن خلدون إلى تعريف العدالة بمقدمته فقال “العدل هو الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيما وهو الملك”. ومن كلام أنشروان الملقب بكسري الأول الملك العادل عن العدالة “الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل ولا عدل الا بإصلاح العمال وإصلاح العمال باستقامة الوزراء ورأس الكل كيف يتفقد الملك حالة راعيته بنفسه واقتداره على تأديتها حتى يملكها ولا تملكه” وهو تعريف لآلية تحقيق العدالة وليس لتعريف العدالة نفسها.

أقسام العدالة

وغير هذه التعريفات فيمكن تقسيم العدالة إلى. أقسام متنوعة وبطرق مختلفة حسب مجال الدراسة. كما مثلا العدالة. طبقا للقانون والدستور فتقسم إلى عدالة اقتصادية وعدالة إجرائية وعدالة جزائية وعدالة تصالحية. وقد تقسم العدالة. بطريقة مختلفة. من باحث علم الاجتماع. مثلا. ولكن جميع التعريفات. والتقسيمات. المتنوعة للعدالة. تجتمع. في هدفها الواحد. وهو.” أن يعيش كل إنسان وعنده قوت يومه آمنا في سربه لا يجور ولا يجار عليه بمجتمع لديه دستور وقانون يضمن تحقيق هذا الهدف”  فهذا التنوع والاختلاف والنقص وعدم الاتفاق على تعريف واحد وكامل للعدالة قد يكون سببا مبدئيا لعدم الشعور بتحقيق العدالة 

العدالة لا تعني المساواة في كل شيء

طالما اجتمع هذان المصطلحان – العدالة والمساواة – في كثير من الأطروحات السياسية والثقافية والاجتماعية. ولنكون أكثر واقعية فالعدالة لا تعني أبدا المساواة في كل شيء. فليس بواقع أن يكون هناك دستور وقانون في مجتمع ما يلبي للجميع نفس الاحتياجات المادية من دخل ومسكن وملبس ومأكل وغيرها. ولكن المساواة التي تسعى منظومة عدالة لتحقيقها هي المساواة في الحقوق والواجبات الإنسانية فقط وليست المادية.

ليس هذا فحسب فربما تكون المساواة حتى في الحقوق الإنسانية فقط ليست عادلة في بعض حالات. في أصحاب الاحتياجات الخاصة مثلا لا يمكن أن تتساوى حقوقهم الإنسانية مع الآخرين. فللمجتمع واجب أكبر تجاههم من دعم معنوي ومادي. ولعل تعريف أرسطو للعدالة بأنها “معاملة الجميع بسواسية إلا إذا كان هناك فارق كبير بينهما” هو أكثر التعريفات التي أوضحت الفارق بين العدالة والمساواة أو ما سُمي بعد ذلك بالمساواة النسبية. فالفهم الخاطئ والخلط بين العدالة والمساواة يعظم من شعورنا بالظلم وغياب العدالة. 

 دور منظومة العدالة في تحقيقها

منظومة العدالة تنظم المساحات المشتركة بين أفراد المجتمع ومؤسساته. ولكن هذه المساحات المشتركة مقتصرة فقط على الجوانب المادية والقليل جدا من الجوانب الإنسانية والمعنوية.  ولكي نكون منصفين، فإن تحقيق العدالة الكاملة على الجانب الإنساني والمعنوي قد يكون صعبا للغاية. فمثلا جريمة قُتل فيها إنسان بريء له أسرة وأولاد. منظومة العدالة أوقفت القاتل وأصدرت حكما عليه بالإعدام وهو أشد ما يمكن تطبيقه.

لكن من الجانب الإنساني والمعنوي فإن أسرة القتيل لم تُؤخذ في الاعتبار حتى مع تنفيذ أقصى وأشد أنواع العقاب. فأرملة القتيل والأيتام، سيظلون يعانون من فقدان الزوج والأب والعائل طول حياتهم. وأيضا على الجانب الآخر أسرة القاتل تضررت نفسيا ومعنويا بذنب أحد أفرادها. فزوجة القاتل وأبنائه سيظلون أيضا يعانون معاناة ولكن من نوع آخر طوال حياتهم. تنفيذ العقاب هنا في القاتل ليست إلا للحفاظ على السلم العام للمجتمع. إذا فالعدالة المطلقة في منظومة القانونين والدساتير قاصرة على الجانب المادي فقط لا تنظر إلى الجانب النفسي والمعنوي بالقدر الكافي ولهذا فان منع الجريمة هو انفع للناس من تطبيق العقوبة. وهذا كله بفرض ان منظومة العدالة غير فاسدة في حد ذاتها.  

تلاعب السياسيين بمفهوم العدالة 

أما إذا تحدثنا عن البعد السياسي للعدالة فهو أكبر إشكالية. حيث غالباً ما تلعب الأطراف السياسية بمعنى العدالة كما يحبون ويصفون العدالة بما يجعلهم دائما على حق ويضع منافسيهم على الباطل. وأيضا ستجد من السياسيين مبررات تلو مبررات لأعمال ولإجراءات استثنائية وغير عادلة. فتوريث الحكم له مبرراته وإلغاء الدساتير وكبت المعارضين واعتقالهم بل وقتل المنافسين وتشويه سمعتهم وشيطنة كل مبادرة للإصلاح تحت ذريعة أمن الوطن والمواطن. وتلاعب السياسيين على مستوى أنظمة العدالة الدولية أكثر وضوحا. فحقوق الإنسان في بلد ما أو لفئة ما قد يكون له أولوية قصوى وقد لا يحظى آخرون بنفس القدر من الاهتمام. والاستثناءات هنا بكل الاتجاهات ابتداء من حق الفيتو وانتهاء بمنع دول بل ومحاربتها إذا سعت لامتلاك ما يمتلكه غيرها.  

واسوء ما ينتج من هذه الاستثناءات هو ما يلجأ اليه السياسيون من إجراءات لحماية أنفسهم لعلمهم الراسخ انهم قد يسألون عن هذه الإجراءات يوما ما على المستوي الدولي وعلى المستوي الداخلي للبلدان. ومن هذه الإجراءات الاستثناءات القانونية والمميزات الاجتماعية والمادية لمجموعات داخل البلد الواحد لا على أساس القدرة والكفاءة والعلم ولكن على أساس مصلحة السياسيين ولحمايتهم الشخصية. ولنفس الغرض وعلى المستوي الدول يلجأ السياسيون الى تكون جبهات وتكتلات دولية علنية أو سرية. وبهذا تتضاءل قدرات وامكانيات البلدان مما يزيد من الشعور بغياب العدالة أكثر. 

البعد الديني للعدالة

أكثر ما يلجأ إليه الملحدون في تبريرهم لعدم وجود إله هو شعور الناس بغياب العدالة. ويقولون إذا كان هناك إله فلا بد أن تحقق العدالة التامة في هذه الدنيا. ويتساءلون لماذا تغيب العدالة إذا كان هناك إله عادل. فهم لا يتحدثون عن صفات الله الأخرى مثل الخالق والقادر والقاهر وإنما يتحدثون عن صفة الله العدل في محاولة منهم لجذب جمهور من الناس لا يشعرون بتحقيق العدالة. ويتسألون لماذا يخلق الله انسان فقير واخر غني او يخلق ابيض واخر اسود او يخلق سليما او من ذوي الهمم الخاصة لماذا تذبح حيوانات وتترك اخري ولماذا تفترس الحيوانات بعضها بعضا. وهم هنا يتجاهلون الكثير من الحقائق والكثير من النواميس الكونية. 

أن الله عز وجل أرسل الرسل برسالات يدعو الناس فيها لعبادته سبحانه وإلى حسن الخلق وهو التعامل بين الناس. كما أقر الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات بأنه هو العدل وأنه أمر الناس بالعدل. وأشار سبحانه أن العدل هو أقرب للتقوى. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، الممثل الأعلى في تحقيق العدالة بالقول والفعل وأكد الإسلام على أن الحياة الإنسانية ليست حياة مثالية وإلا فلا معني ليوم الحساب.

 وطالب أتباعه بأن يظلوا يخالطوا الناس ويصبروا على أذاهم وأن هذا خير لهم من اجتناب الناس خشية إيذائهم. بل أن الرسل. جميعهم أوضحوا للبشرية أن هناك يوم لحساب يقف فيه كل إنسان وحده أمام الخالق عز وجل وهناك يتحقق تمام العدالة. فلا تظلم نفس شيء وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين. اذن فالعدالة التامة والكاملة لن تتحقق في هذه الدنيا وكل القوانين الإنسانية ما هي الا محاولات لتحقيق أقرب ما يكون للعدالة في إطار إمكانات البشر وسيظل هنا خطوة أخير يخطوها كل انسان وحده امام خالق الكون ليصفي حسابه ويسلم جائزته.  

البعد الزمني للعدالة 

وهناك سؤال آخر. هل يمكن لنا أن نمهد الطريق لأجيال قادمة لحياة أكثر عدالة. نعم، يمكن ذلك فتنشئة أولادنا على القيم الإنسانية العادلة مثل الصدق والأمانة وعدم المحاباة هي أمور تمهد الطريق لمناخ أكثر عدالة. وأيضا توريث أبنائنا أرضا مخضرة وهواء نظيفا ومياه نقية وعلما متاحا هي أمانة على عاتقنا تجاه أجيالنا القادمة. وغض الطرف عن هذه الأشياء والنظر إليها بأنانية هو ظلم بين ولا شك. 

الخلاصة 

انا أكثر ما يشعرنا بغياب العدالة هو الاختلاف في فهمنا لمعناها ولآليات تطبيقها وللخلط بينها وبين المساواة ولتلاعب السياسيين بمعناها وتطويعها لمصالحهم الشخصية وأيضا للفهم المغلوط بان تمام العدالة يمكن ان يحقق في هذه الدنيا. وليس هذا مبررا لقبول الواقع والاستسلام له وانما هي خطوة أولي لفهم ما نحن علية ولنتفق على تأسيس معني للعدالة ولنعلم حدود تطبيقها ولنحمل امانة تمهيد مستقبل أكثر عدالة لأجيال قادة.

فيديو مقال لماذا لا نشعر بالعدالة!

 

أضف تعليقك هنا