لا إكراه في الدين..شرط إصلاح الدين!

آية “لا إكراه في الدين” من أقرب آيات القرآن إلى قلبي. يقول الله أن الإكراه غير موجود في الدين الذي هو أكثر الشؤون خصوصية لدى الإنسان، فكيف بأمور الحياة الأخرى؟ كالمعتقدات والآراء والتوجهات المختلفة، جنسية كانت أو فكرية. هذه آية جاءت لتعلم الإنسانية جمعاء، بأن لا “إكراه” في الدين باعتبار الدين الشيء الأكثر خصوصية وقدسية في حياة الناس. وبالتالي، فكل شيء آخر من الواجب والمنطق ألا يكون فيه أي نوع من الإكراه والإجبار.
“العروة الوثقى هي لحظة إدراك وإيمان الإنسان بأن الطغيان عدو الدين، والحرية جوهره وأساسه”

سبب ذكر آية “لا إكراه في الدين”

 هذه الآية العظيمة، جاءت لتؤكد عدم وجود الإكراه، بل وتُثبت أن الإيمان لا يتحقق أصلا في ظل الإكراه والطغيان، في قوله تعالى “فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى”.والعروة الوثقى هي لحظة إدراك وإيمان الإنسان بأن الطغيان عدو الدين، والحرية جوهره وأساسه.فالمؤمن بالله حق الإيمان هو بالضرورة ووجوبا كافرٌ بكل أشكال الطغيان. ولا أدري حقيقةً من أين جلب المسلمون ثقافة الإكراه والتدخل في حريات الناس؟إما أن فهمهم للدين مبني على فهم المشايخ والسلاطين، وإما أنهم جهلة ولا يعرفن عن القرآن شيئا!

الأزمات التي يعيشها المسلمون

المسلمون يعيشون أزمات كثيرة، وليست أزمة واحدة كما ذكر ماكرون رئيس فرنسا. يجب الاعتراف بذلك كبداية للإصلاح والنهوض بفكر إصلاحي جديد، يُعيد الروح للدين ويُحيي قلوب قوم لم يعودا بهذا الدين يؤمنون.”الإصلاح ضرورة لا مفر منها، كل دين بحاجة لمن يبعث فيه الروح من جديد بإصلاحه وتنويره وجعله أكثر توافقا وانسجاما مع روح العصر وقيمه” وبالنسبة لي، فعلامة صلاحية أي دين حقيقي في هذا العصر هو بقدرة ذلك الدين على تبني وضم كل ما جاء في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحت مظلته.

لنبدأ نحن بإصلاح ديننا

الدين المنسجم مع تلك الحقوق والحريات هو الدين الصالح اليوم، قولا واحدا. لهذا، وكما قلت في مقالات كثيرة سابقة، يجب وضع أسس دينية جديدة تنطلق من أهمية وقدسية حقوق الإنسان وحرياته وكرامته واستقلاليته، كمنطلقٍ وغاية. وإلا فالمزيد من موجات الإلحاد والفرار من هذا الدين قادمة وبشكل أكثر وأكبر. لنكن على قدر المسؤولية، ولنبدأ نحن بإصلاح ديننا والانفتاح على كل ما جاء من قيم وحقوق في وثيقة حقوق الإنسان التي صدرت بعام (١٩٤٨).
ينبغي أن نكون أكثر حرصا على ديننا من غيرنا، وحرصنا على الدين إنما يتمثل بإصلاحه وتجديده بشكل دائم. اتركوا مشايخ السلاطين وعلماء نواقض الوضوء، هؤلاء هم من سيزيد الناس نفورا من الدين وآياته ونصوصه. اتركوا من يرفض الإصلاح والتغيير والسلام والتعايش والحرية، فلا أمل ولا خير يُرجى منهم.
لنعمل على جعل كل النصوص الدينية التي ما زالت قادرة على الحياة ومواكبة العصر وقيمه وثقافته، منسجمة مع كل ما جاء في وثيقة حقوق الإنسان، باعتبارها المحك الذي يحدد صلاحية أي دين وأي مجتمع للحياة، وقدرتهما على المضي قدما باتجاه النهضة والازدهار والرقي.أعود وأكرر، إصلاح الدين ضرورة لا مفر منها. من يتكابر عليها اليوم سيُرغم عليها غدا، ومن يحاول إخضاع الدين لقيم الإكراه والطغيان والظلم فمكانه سيكون في مزبلة التاريخ ودينه كذلك معه.

لماذا نحن بحاجة للإصلاح؟

لنكن على مستوى المسؤولية، الدين بحاجة للإصلاح، هذا أهم ما يجب إدراكه حاليا كبداية للانطلاق بوضع الأسس الجديدة المبنية على حقوق الإنسان وحرياته، والتي سينبثق عنها دين رحماني جديد، جوهره وغايته أن يكون كل إنسان في هذا الوجود حرا كريما مستقلا دون أية فروض أو قيود. حيث لا يقيد الإنسان سوى حرية الإنسان الآخر، وما عدا ذلك فلا قيود ولا شروط.
“إن موجات الإلحاد التي رأيناها مؤخرا ليست إلا نتيجة حتمية لخطاب ديني لم يعد متناسبا مع متطلبات وضرورات هذا العصر”
إن موجات الإلحاد التي رأيناها مؤخرا ليست إلا نتيجة حتمية لخطاب ديني لم يعد متناسبا مع متطلبات وضرورات هذا العصر.
يخرج شيخ هنا يحاضر علينا في وجوب طاعة ولاة الأمور وعدم ضرب الصفوف، ويخرج آخر هناك يتحدث عن المرأة باعتبارها نصف إنسان، بنصف عقل ونصف دين.
هذا الخطاب البائس والفاشل نابع عن ثقافة ذكورية بطريركية، ثقافة تقدِّس طاعة الأمير ولو ضرب واغتصب وقتل ثلث أو نصف أو حتى الشعب كله.هذا هو الخطاب الديني السائد اليوم والذي مع الأسف لا يتفق مع أي مادة من مواد وثيقة حقوق الإنسان. فبالله عليكم مثل هذا الخطاب هل يصمد أمام مطالب وحريات الأجيال القادمة؟ وحتى الحاضرة؟
لا أعتقد، بل ومتأكد أنه سيفشل، وقد فشل بالفعل وتسبب في كوارث لا حصر لها.
 لم يعد ممكنا ترديد مثل هذه الخطابات التمييزية والعنصرية، لم يعد ممكنا مناداة المثلي بـ”الشاذ” كما يفعل شيوخ الدين، لم يعد ممكنا تبرير انتهاكات الحقوق والحريات، لم يعد ممكنا تجاوز الآيات والأحاديث التي تقلل من قيمة المرأة أو تصفها بأوصاف نمطية وذكورية، لم يعد ممكنا حرمان أحد ما من حريته ومعرفته لكامل حقوقه.

هل نحن في عصرٍ كل شيء فيه متاح؟

نحن في عصرٍ كل شيء فيه متاح، بعدما كان الكتاب وحده مصدر المعرفة في قديم الأزمان، اليوم صار الإنسان يقرأ ليل نهار من هاتف صغير يحمله معه في كل مكان.. الوعي في ازدياد ونسبة القرَّاء تزداد بشكل غير مسبوق، ولكن ليس بالشكل القديم، بالكتب والدروس، لا بل بالأجهزة المحمولة ومواقع التواصل والصحف والصور والمجلات والمقالات اليومية التي تُغني عن مئات وآلاف الكتب.. هذا عصر جديد وبحاجة لخطاب جديد.
“إن الإصلاح الديني أمر حتمي، وهو قادم لا محالة على يد من لا زال فيهم بقايا عقل وحكمة من معتنقي هذا الدين”
إن الحديث عن الإصلاح الديني صار أمرا مستهلكا لكثرة ترديده دون تطبيق له. ولهذا، أنا أكتب اليوم ليس للتنظير عن الإصلاح الديني وأهميته، بل لأقول بحتميته التي لا مفر منها، وإلا فلن يكون لدينكم هذا مكان في المستقبل.
وأنا أعرف أن هذا الدين باقٍ ما بقي لدى معتنقيه عقل وحكمة، أما أصحاب اللحى والمنابر فلا أمل فيهم ولا أعوِّل عليهم. فلا خبرة ولا معرفة تمكنهم من النظر في الواقع والدين ومعرفة أسباب ترك الشباب والشابات للدين.
وبالتالي، ضرورة إصلاحه ومراجعته.. إلخ، فأقصى ما يتقنه أولئك المشايخ هو التطبيل والرقص لأصحاب العروش والأموال والمناصب.

من أين يبدأ الإصلاح؟

إن الإصلاح الديني أمر حتمي، وهو قادم لا محالة على يد من لا زال فيهم بقايا عقل وحكمة من معتنقي هذا الدين. هم من يُرجى ويُنتظر منهم التغيير والإصلاح والنظر للأمور بشكل شامل وجذري.والمهم مع كل هذا إدراك هذه الحقيقة؛ أن لا إصلاح ولا تغيير يتم، ما لم يتم الانطلاق من وعي جوهرية ومحورية وقدسية حقوق الإنسان وحرياته وكرامته واستقلاليته ودورها الأساسي في إعادة تشكيل الدين بآياته ونصوصه وكل موروثاته.
هذه أمانة وجب علي قولها، وستذكرون كلامي هذا جيدا، وأن لا مفر من الإصلاح والتجديد، إصلاح يطال كل شيء، بما في ذلك جميع المسلمات والجذور، الموروثة والموضوعة، المُقدَّسة وغير المُقدَّسة.

بقلم: راكان علي

 

أضف تعليقك هنا