نقد الدين عند فريدريك نيتشه/ إنجاز محمد بوداس.

بقلم: محمد بوداس

مُقدمة إشكالية:

في خِضم اشتغاله على نقد ظاهرة الدين، ركز الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه على المسيحية، ذلك نظرا لكونه هو ابن لأسرة مسيحية، وكذلك لكون هذا الدين هو الأكثر سيادة في العالم الغربي، ولكن هذا لا يعني أن نِيتشه لم يهتم بدراسة الديانات الأخرى، سوءا منها (السماوية) خصوصا اليهودية، أو الديانات الأرضية خاصة الفلسفات الشرقية مثل: البُوذِيَة.. والزَرَادَشْتِيَة التي خصص كتابا من كتبه بعنوان هذه الأخيرة (هكذا تكم زَرَادشت). ومن هذه الأرضية ننطلق لنطرح الإشكالية التالية:

أين يتجلى أذى الدين حسب فريدريك نيتشه؟

وُلد نِيتشه في ألمانيا وعاش فيها في مرحلة عرفت مُتغيرات عدة، حيث الدولة الألمانية حديثة الوحدة على يد المستشار الحديدي بِسمَارك (1871م) ذَلِك بعد معارك داخلية وخارجية طَاحِنة، هذا الأمر سيُؤثر أشد تأثير على فكر نِيتشه. كما عرفت الساحة الألمانية في هذه الفترة شبه فراغ فلسفي بعد رحيل فطالحِة الفكر المثالِي الألمانِي (هيجل- فيشتة- شلينغ) ومُعلمه الروحي (أرثور شبونهاور). كل هذه المتغيرات، إلى جانب أخرى، ستُؤثر في فكر فريدريك نيتشه.

على غِرار المفكرين الأخرين، أصحاب المشاريع الفلسفية، سلك نيتشه مسلكه، وكما انطلق هِيجِل من فلسفات الإغريق محاولا تجديد تُراث الفلسفة، سيعمل نِيتشه على تأسيس مشروعه الخاص مُنطلقا من التراث اليوناني القديم، حيث ألف رسالته للدكتوراه تحت عنوان (ميلاد التراجيديا عند الإغريق)، ثم بعد ذلك توالت مؤلفات أخرى عمل فيها على نقد ما تركه لنا الآباء المؤسسين لحقل التفلسف منهم سُقراط وتلميذه النجيب أَفلاطُون.

وكَما يُقَال؛ نَقد الدين أسَاس كُل نَقد، ونِيتشِه، بِاعتبارهِ، فَيلسُوفا عَمِل على نَقد أَفكار سابِقِه من أبناء تَخَصُصِهِ (فَلاسِفة..) سَيُعرِج على نقد موضوع الدين في عِدة كُتُبِهِ، لعل أبرزها: ضد المسيح -ما وراء الخير والشر- هكذا تكلم زَرَادشت- إنسانِي مُفرط في الإنسانية. أَثنَاء تَطرقه لمَوضُوع الدين رَكز نِيتشه في هذا السيَاق على مَسألة  ظُهُور الدين وأخلاق هذا الأخير والحقيقة كما يُقدمها لَنَا الدين وَرِجَال الدين.

1)ظُهور الدين حَسَب فرِيدرِيك نِيتشه:

قَال نِيتشِه في أحد مؤلفاته مَا يلي: الدين هو ثورة الهامش على المركز. وتحليل هذا القول يُؤدي بنا إلى القول أن الدين هو ذاك الهامش الذي سيتحول إلى المركز، طبعا ذلك من خلال تغيير منظومة الفكر ككلها بدخول الدين من خلال نظرته للحياة والتي تتأسس دوما على وجود فكرة سابقة ومُتعاليَة.

عرف الإنسان منذ أيامه الأولى عدة أشكال من الديانات، فالباحثين في مجال تاريخ الأديان يقولون أن من بين أولى الديانات التي عرفها الإنسان الديانات الطَوْطميَة…لتتولى بعد ذلك الأفكار والمعتقدات في انسجام تام مع السياق الزمكاني للإنسان. وصل الإنسان في مرحلة معينة إلى تأسيس منظومة دينية تقوم على الأحادية؛ وهذه ثورة في حد ذاتها، ذلك نظرا لوصول عقل الإنسان إلى مرحلة التفكير الأحادي؛ يعني الأصل واحد. فالاعتقاد بوجود إله واحد للعالم هي فقط جزء من منظومة تُؤشر ببلوغ الإنسان إلى إدراك الأحادية (مثلا مع الفلاسفة الطبيعيين اليونان أغلبهم ذهب إلى الأصل الواحد للعالم؛ نار، تُراب، اللامتناهي…)

ظُهُور الدين في صِيغَتِهِ التوحِيدَيَة هو جزء من تطور العقل والفكر الإنساني، هذا الفكر الذي وظفته طبقات الهامش للثورة على طبقات المركز، وهَذا يُبين بشكل جلي أن الدين هو فقط فَلسفة ثورة في مرحلة معينة كان فيها الإنسان بِحاجة إلى غطاء فكري من هذا النوع. وهذا يؤكد بضرورة العمل على تطوير الديانات وعدم جعلها حاجزا أمام تطور الإنسان، لأن الدين كفكر ومعتقد هو نفسه جاء في سياق تطور الفكر، وبالتالي فليس من الصواب جعله هو النهاية وذِروة التفكير.

من أهم سِيمات المُجتمَعات القَدِيمة، كما الحالية، الطبقية؛ مُجتمع مُقسم بِشكل تَسلسلي ولكن ليس ثَابِت وَقَار. فَكُلَمَا أُتِحت فُرصة مُناسِبة إلا وثَارت طبقة على أخرى؛ طبعا هذا يحدث غالبا تحت غِطاء فلسفة ثورة التي كانت تَتَجسد في الدين قديما. لقد ظهر الدين، حسب نيتشه، كفلسفة ثوْرة عبيد على أسيادهم، في محاولة لقلب المنظومة وجعلها في صالح العبيد وجعل الهامش مركزا.

إن المُتأمِل في تارِيخ المَسِيحية يرى بشكل واضح تفسير نِيتشه لظهور الدين. فالمسيحية التي ظهرت في فلسطين في زمن عرف سيطرة رُومانية على أغلب مناطق المتوسط، مُتحالفين مع يهود أورشليم لإيجاد صِيغة لاستعمار روما للمنطقة دون التدخل في شؤون يَهُود أُورْشَلِيم. فقد كان اليهود في شبه استقلال سياسي مع تبعية لسلطة روما (وجود حاكم روماني). كحال المجتمعات القديمة كان مُجتمع أُورْشليم حَاضِن لِعدة طبقات اجتماعية (أحرار وعبيد)، هؤلاء العبيد الذين سيلتقطون شذرات أفكار تُعبير عن بؤسهم ويكونون أسطورة تُعبر في جوهرها عن معاناتهم، لذلك ستتكون أسطورة المسيح في المِخْيَال الشعبي وسيتم توظيف هذه الأسطورة للثوْرة ومحاولة قلب المجتمع تحت غطاء ديني (وجود تأييد ربانِي من فوق السماء).

فَحِكَايَة السيد المَسِيح فِي جَوْهَرِها تُعَبر عَن مُعاناة أُمة بِأَكْمَلِهَا، وهذا ما يُبَينُه قول نِيتشِه: لقد وُلِدَت أُسْطُورَة المَسِيح مِن مُعَانَاة الشُعُوب.

2)الأخلاق الدينية حَسَب فرِيدرِيك نِيتشِه:

من أهم المواضيع التي اهتم بِدِرَاسَتِهَا نِيتشه موضوع الأخلاق بِاعتِبَارِهَا مَجمُوعة من المفاهيم والمبادئ التي أطرت وَتُؤطر المجتمعات. وقد كانت رُؤيَة نِيتشه لهذا الموضوع مُختلفة نَوْعا مَا بِالمُقَارَنة مع باقي الفلاسِفة الذين دَرَسُوا مَوضوع الأخلاق (مثلا؛ سبِينوزَا، كَانط…وَماركس)، فنِيتشه ربط الأخلاق برؤيتِه الفلسفية العامة التي تستمد جذورها من النظريات العلمية التي توصل إليها مسلسل تطور العلوم خلال ق 19م. ولَعل أبرزهم نظرية التطور التي تقول بصراع الأنواع والبقاء للأقوى والأكثر استجابة للمتغيرات والظروف الطبيعية.

كانت النظرة النسبية تَطغى على رؤية نِيتشه للأخلاق، حيث اعتبرها مفاهيم ومبادئ من نحت الضعفاء للتحكم في قوة الأقوياء. من الصعب جدا فهم هذا الموقف دون ربطه بالسياق العام الذي ظهرت فيه أفكار نِيتشه، فالأخير كان مُتأثرا بما توصل إليه معلمه الروحي أرْثور شُوبنهاور؛ الذي أعتبر إرادة الحياة هي التي تتحكم في هذا الوجود، هي السابقة والخارجة عن شرطي الزمان والمكان، هي سبب المعاناة، هي المتحكمة في سلوك الكائنات بِمُختلف أنواعها. لكن، عندما سيأتي نِيتشه، الذي تفاعل مع مُتغيرات عصره؛ السياسة منها، قلب منظومة مفاهيم مُعلمه شُوبنهاور واعتبر أن إرادة القوة هي السابقة والمتحكمة وليس إرادة الحياة.

وكما هو حال فلاسفة أَصْحَاب المَشَارِيع الفِكريَة؛ أُولئك الذين يُكوِنُون لِرُؤية فَلسَفِيَة شَامِلة تُؤطرها مفاهيم ذات معني وخاصة بهم ولا يَنسجم معناها إلا داخل مشاريعهم ولا يُمكن فهمها إلى داخل منظومة هذه المشاريع.

طبقية المجتمعات، حَسب نِيتشه، هي الصيغة الطبيعية للمجتمعات بِمعنى الطبقية هي الأصل ولا شيء دونها، طالما القوة هي المتحكمة، فسيبقى الأقوياء وأصحاب الطموح هم الأسياد. ولكن (عاهات) المجتمع؛ من ضعفاء ومُهمشين، على حد قول نِيتشه، يُسخرون أنفسهم لكبح جماح أصحاب الأفكار القوية والرؤى الجامحة للسيطرة ليقوموا بقلب المنظومة من خلال مفاهيم أخلاقية لا جدوى منها سوى لكسر شوكة قوة الأقوياء. طبعا هذه المفاهيم تَستمد مَرْجِعيَتها في غالب الأحيان  من الشفقة، مفاهيم أخلاقية من قبيل؛ الشفقة، الخير، التسامح، الحب…كلها عبارة عن حَوَاجِز أمام التطور للوصول إلى الإنسان الأعلى الذي يكون بمثابة غاية الإنسانية؛ أو بتعبير نِيتشه؛ تعيش الإنسانية من أجل الإنسان؛ الإنسان الأعلى، ذلك القوي الذي يُذوِب التناقضات ويرتقي بالإنسانية ليصِل إلى غايتها العليا؛ غاية الإنسانية جمعاء (الإنسان الأعلى).

3) الحقيقة كما يقدما الدين ورجال الدين:

ظَهَرَ الدين مُقدما للحقيقة في زَمَن كان فِيه الإنسان بِحاجة إلى الحقيقة تحت غِطاء دِينِي، ولكن مع تطور الزمن الذي رافقه تطور العلم الذي أفصح عن نتائِجه نتيجة المَجْهُودات التي قام بِها العلماء بِمختلف تَخصصاتِهم، هنا لم نعد بِحاجة إلى الحقيقة الدينية التي أصْبَحَت غير مقبولة عِلميا وتتناقض مع ما توصل إليه العلم.

الحقيقة الدينيَة دَائِما ما يكُون مُنْطَلَقها إطلاقِي؛ يَعنِي وُجُود حقيقة مُتعاليَة يمتلكها الإله بِمختلف صوره بين الأديان، وهذا أمر يتعارض مع مَنْطِق العِلم التَطورِي الذي لا يَعترِف بِشيء يُسمى الحقيقة المُطلَقة، فالعلم كُله نِسبِي وَيَتَطور مع تَطور الزَمَن.

كان مَوقِف نِيتشِه من الدين نتِيجة مَا تَوَصل إِليْهِ تَطَور العِلم خِلال القَرن 19م؛ أي نَتِيجة الفَلسفة الوَضعيَة التي اعتبرت أن لا صوت يَعْلُو فَوْق صوْت العلم، وأن المَنهج التجرِيبِي القَائِم على المُلاَحظة والتجرِبَة كَفِيل بِتبيَان الحقيقة العِلميَة وَلو في صُورَتِها النسبيَة. وهكذا رَاح نِيتشه على غِرار فلاسفة القرن 19م (سيغموند فرويد، أوغيست كونت…) مُعتَبِرا أن الإنسان ليس بِحاجة إلى الحقيقة كما يُقدمها الدين المليئة بالخُرافات والتناقُضات، بل يجب الاستماع إلى صوْت العلم الذي يكُون خافِت في البداية لكنه يُصبح هو الفَيْصَل في النهاية.

كان موقف نِيتشه من رجال الدين يتماشى مع موقفه من الدين كُلِه؛ أي الرفض التام للدين وخُدام الدين في هذا العالم، بل راح نيِتشه إلى أبعد من ذلك رافضا الإله وفكرة الألوهية ككل، وهذا ما يُبينه قوله “لقد مات الإله ونحن من قتلناه” الذي جاء في كتابه هَكَذَا تَكلم زَرَادَشت. وَقتل الإِله في هذا السياق، في نظري، هي دعوة صريحة من نِيتشه للإنسانية إلى عدم الإفراط في التركيز على العالم الأخر وبدلا من ذلك يجب الاشتغال بِهمُوم هذا العالم والعمل على تطويره، طبعا عدم التركيز على العالم الأخر سيجعل جُل الأصناع تسقط تلقائيا؛ تلك الأصنام التي أبدعها الإنسان في مرحلة معينة وأصبحت مُتجاوزة فيما بعد (فكرة الألوهية، رجال الدين، الطقوس والشعائر باسم الدين).

خُلاصة عامة:

كان موقف فريدريك نِيتشه من المنظُومة الدينة يتماشى مع رُؤيته الفلسفية ككُل؛ الرفض التام لكل شيء خارج هذه الحياة داعيا في ذلك إلى العمل على إصلاح مشاكِل هذا العالم وليس الاشتغال بأمور ميتافيزيقية مُتعالية خارجة عن هذه الحياة، كما راح نِيتشه إلى الرفض التام لفكرة الإله وفكرة الألوهية ككل، وهذا ما يُبينه قوله “لقد مات الإله ونحن من قتلناه” الذي جاء في كتابه هَكَذَا تَكلم زَرَادَشت.

بقلم: محمد بوداس

 

أضف تعليقك هنا