معصية آدم ومعصية إبليس في النص القرآني. لمحة بلاغية دلالية

بقلم: د: محمد راضي محمد الباز الشيخ

معصية إبليس

معصية إبليس لها خصوصية حيث إنها أول معصية ترتكب في حق المولى عز وجل من قبل مخلوق مميز بمكانته عند الحق سبحانه ، فالله سبحانه خلق آدم عليه السلام ، وامر الملائكة بالسجود له فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس وقد حكى القرآن الكريم رفض السجود في مواقف متباينة وبصيغ مختلفة في آيات عديدة وسور مختلفة منها قوله تعالى : ” وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ” ( سورة البقرة : 34 ).

وقوله تعالى : ” وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ” ( سورة الحجر : 28 – 31 ) ، وقال تعالى : ” وإذ قلنا للملائكة اسجدوا فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ” ( سورة الإسراء : 61 ) ، وقال تعالى : ” وإذ قلنا للملائكة اسجدوا فسجدوا إلا إبليس أبى ” ( سورة طه : 116 ) ، وقال تعالى : ” وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ” ( سورة الكهف : 50 )

رفض السجود

قال تعالى : ” قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ” ( سورة الأعراف 12 ) ، قال تعالى : ” قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين ، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ” ( سورة ص 5- 76 ) .

بين معصية آدم عليه السلام ومعصية إبليس

تكررت مشاهد قصة إبليس ولقطاتها لتبين بجلاء الفارق الهائل بين معصية إبليس ومعصية آدم عليه السلام ، بغية التعليم والتربية لبني البشر ، ووضع قاعدة لاقتراف الذنب وغفرانه في الوقت نفسه ، فالله سبحانه شرع التوبة والغفران على مدار حياة العاصي والمذنب ، وهذا آية من آيات الله ونعمة عظيمة على خلقه أجمعين المذنب وغير المذنب ، الحكمة والنعمة العظيمة في آن لتدل دلالة قاطعة على رحمة الإله الخالق سبحانه ، إذ تخيل لو لم يشرع التوبة ، ويسمي الحق سبحانه من أسمائه الحسنى التواب والغفور ، لأصبحت حياة الناس جحيما لا يطاق.

إذ المذنب إذ علم أن باب التوبة مغلق ومصيره إلى جهنم لا محالة لسعى طوال حياته يفسد في الأرض ولأحال حياة الناس من حوله جحيما ، لذا كرر الذكر الحكيم معصية إبليس ومعصية آدم بغية التعليم والتربية لخلقه ، حتى يفتح أمامهم باب الاعتراف بالذنب والإقرار بالمعصية، حيث الاعتراف والإقرار بالذنب ومن ثم الندم يوجب التوبة والغفران ، فالمعصية لا ينفع معها التسويغ ومن ثم فلسفة العصيان كما فعل إبليس وسيتضح في السطور التالية :

سبب تكرار عدم سجود إبليس في القرآن الكريم

تكرر مشهد رفض إبليس السجود لآدم – عليه السلام – في أكثر من موضع في القصة في سور مختلفة وذلك لتوضيح أثر دلالي في كل مرة يذكر فيها، ففي كل مرة تبين اللقطة معنى مختلفا عن غيره من المعاني التي توضحها اللقطات الأخرى، ففي اللقطة التي يوضح فيها الحق سبحانه طبيعة خلق إبليس يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].

وقال تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، فإبليس كما هو معلوم لم يكن من الملائكة، ولكنه كان من الجن، ولكنه لما أطاع الله سبحانه، وهو مخير وليس مسيرا، رفع إلى درجة أعلى من الملائكة، ومادة خلق الجن هي النار، والله سبحانه خلق الإنسان من طين، وكررت الآيات لتبين بوضوح سبب معصية إبليس، فقال تعالى في موقف: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]، ثم قال في موضع آخر: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]،

الفرق الدلالي بين الآيتين

والفرق بين الآيتين فرق كبير في الدلالة، ” فهناك فرق بين أنك تريد أن تسجد ويأتي من يقول لك: لا تسجد، وبين أن يقنعك شخص بألا تسجد، فقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} كنت تريد السجود ومنعك أحد منه، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}  أمرك ألا تسجد وأقنعك وأنت اقتنعت “[1]، فتكرار الموقف للتأكيد على أن معصية إبليس عن قصد منه، ودليله قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [طه: 116]، وقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} [ص: 74]، ثم قال تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، فإبليس ذكر علة عدم السجود وحيثياته فردّ الحكم على الله سبحانه في قوله تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61].

وأكد إبليس هذه الفكرة في قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] وبناء على هذا الكلام فإن إبليس رفض وذكر علة الرفض وهذا مما ضخّم من حجم جرمه وعصيانه للحق سبحانه، فذكر علة ليس له يد فيها بل هي قدر الله وحكمه على الخلائق (مادة الخلق) ” فالله جل جلاله شاءت حكمته أن يضع في الكون ما يجعل كل مخلوق لا يغتر بذاتيته، ولا يحسب أنه هو الذي حقق لنفسه العلو في الأرض، ولقد كانت معصية إبليس في أنه رفض أن يسجد لآدم… إذن فقد أخذ عنصر الخلق ليدخل الكبر إلى نفسه فيعصي، ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم البشر من القوانين، ما يجعل هذا الأعلى في العنصر وهو الشيطان يخضع للأدنى وهو الإنسان، حتى يعرف كل خلق الله أنه إن ميزهم الله في عنصر من العناصر، فإن هذا ليس بإرادتهم ولا ميزة لهم ولكنه بمشيئة الله “[2].

فالحق سبحانه شاءت حكمته ” إظهار مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عن فائدة من وجوده في هذا العالم”[3]، فمادة الاتصاف بالكبر وبنية هذا المعنى ” لم تجئ فيها غلا بصيغة الاستفعال أو التفعّل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون متطلبا الكبر أو متكلفا له وما هو بكبير حقا “[4]، وهذا يدل على انتفاء استحقاقه للكبر وأنه ليس أهلا له.

الفرق بين معصيتي آدم عليه السلام وإبليس

ومما يبين هذا ويوضحه الفرق بين معصيتي آدم – عليه السلام – وإبليس، فإبليس جاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة… ولذلك كان جزاء إبليس – وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه – أن يطرد من رحمته، وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تقبل توبته “[5]، فمعصية آدم أتت عن غفلة ونسيان لأوامر الله، ثم أقر بالمعصية واعترف بذنبه وندم عليه وأراد التوبة فتاب الله عليه، فهو لم يفلسف العصيان ويذكر سببا له كما فعل إبليس.

لذا فالفعلان مختلفان في التوجه وتوضيح الحيثيات، وهذا يؤكد بشرية آدم عليه السلام، يعتريه ما يعتري النفس البشرية من نسيان وغفلة وطمع في الخلد ومن عوامل نقص وضعف بشري في مواقف متباينة معهود ومكرر ، ومما يؤكد هذا الكلام قوله تعالى : ” ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان  إنه لكم عدو مبين ” ( سورة يس : 60 ) ، وهذا لوم وعتاب وتذكير لهما ألا يتبعوا خطوات الشيطان فهو عدو صريح واضح ، فاعترفوا بذنوبهم ، والاعتراف بالذنب هو أولى خطوات التوبة وتصويب الخطأ وتعديل المسار لذا قال تعالى على لسانهما  : ” قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ” ( سورة الأعراف : 23 ).

وهذا نهج غبر الذي انتهجه إبليس لذا تاب الله عليهما قال تعالى : ” فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ” ( سورة البقرة : 37 ) ، فتكرار معصية إبليس – والله أعلم بمراده – أتى لرفض العصيان بمفهومه العام، وبرفض التكبر بحجة التميز عن الخلق في أصل خلقه، لأن هذا لا دخل للمخلوق فيه، وبرفض رد الأمر إلى الله سبحانه، ويجب التسليم المطلق لله سبحانه فيما أمر ونهى، ولبيان حقد إبليس على بني آدم في جعلهم سببا مباشرا لعصيانه وطرده من رحمة الله، وتكرار معصية إبليس أتى ليؤكد حقيقة التسليم المطلق لأوامر الله ونواهيه لكل المخلوقات، وليؤكد الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم عليه السلام.

  1. تفسير الشعراوي: ج15/ 9425
  2. تفسير الشعراوي: محمد متولي الشعراوي، ج1 / 494
  3. التحرير والتنوير: الطاهر بن عاشور، ج1/ 420
  4. المصدر السابق نفسه.
  5. المصدر السابق نفسه

بقلم: د: محمد راضي محمد الباز الشيخ

 

أضف تعليقك هنا