“تصوّر الموت” في سورة آل عمران

بقلم: عمر محمود أبو أنس

كيف صوّرت سورة آل عمران مفهوم الموت للمؤمن؟

لقد تحدثت سورة عمران كثيرا عن الموت، لاسيما أنها نزلت تتحدث عن غزوة أحد بعدما أصاب المسلمين فيها من الهزيمة، ولقد تكررت كلمة الموت ومشتقاتها في السورة قرابة اثنتي عشرة مرة، كما تكررت كلمة القتال ومشتاقتها قرابة اثنتي عشرة مرة أيضا، ولا شك أن القتال هو مظان الموت ومواطنه، كل ذلك لتجعل السورة مفهوم الموت واضحاً جلياً في عقلية المؤمن، فيصبح مفهوم الموت عنده تصوّراً إيجابياً دافعاً نحو العمل والإنتاج، لا سلبيّاً يؤدي إلى القعود والإحباط.

ومن ملامح هذا التصور عن الموت والذي تطرحه السورة:

أولا: أن الموت هو من قضاء الله وقدره، وأنه إذا جاء الأجل فلن يتقدم أو يتأخر، فالآجال مكتوبة والأنفاس معدودة، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا – ال عمران 145)، وبذلك يشعر المؤمن إن إيمانه بوقوع الموت لا محالة هي مسألة متفرعة عن إيمانه بالقضاء والقدر وأولى به بدل أن يفكر في أوان الموت أن يفكر في الاستعداد له، وأن يكون له من الأعمال الصالحة ما تُحمد به سيرته بعد موته وما يلقى به  الأجر العظيم عند الله ، ولذلك جاءت تتمة الأية السابقة تؤكد على هذا المعنى: ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ – آل عمران  (145

وقد جاء في السورة آيتان متتابعتان تتحدثان عن تمام القدرة الإلاهية المطلقة وعن تمام التدبير الإلهي للأمور ، لتزيد المؤمن يقينا بأن كل ما يحصل في هذا الكون مقدر من عند الله ، قال تعالى 🙁 قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ – ال عمران 26-27 )

وبيّنت السورة في لمحة واضحة أن أقدار الله قد تقع بأسبابها أو بغير أسبابها فالله خالق الأسباب ومعطّلها أيضا إن شاء ، كما في قصة مريم في قوله تعالى (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ – ال عمران 37)، ولما عاين زكريا –عليه السلام-  بنفسه قدرة الله عزوجل في تحقق النتائج بغير أسبابها توجه إلى ربه بالدعاء أن يهبه الله الولد رغم أنه كبير السن وزوجه عاقر فقال الله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ – ال عمران 38)، فجاءته الاستجابة سريعا بفاء التعقيب بقوله تعالى ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ – ال عمران 39)، وذكر المحراب في الأية إشارة الى المكان الذي تقصد فيه عند الله الحاجات ، وتستجاب فيه الدعوات.

ثانيا: أن الموت الذي يكون به هلاك أناس وحياة آخرين، هو من الابتلاء الذي قدّره الله على عباده، والابتلاء بالموت سنة جارية في حياة الأفراد والأمم، فأما في حياة الأفراد ليعلم الله المفسد من المصلح وليميز الخبيث من الطيب، قال تعالى (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ *أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ –ال عمران 140-143)، وكقوله تعالى في أواخر السورة (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ -ال عمران 179)، وأما في حياة الأمم والشعوب فالأيام دول، قال تعالى (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ – ال عمران 140)

ومن تأمل تاريخ من سبق فحريُّ به أن يكون موته خطوة على طريق من سبقوه في نصرة الحق والخير، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ *وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ –ال عمران 146-147)

إن موت القادة والقدوات ليس نهاية الطريق بل هو مرحلة على الطريق، وجدير بالمؤمن أن يتعلق بالمبادئ لا الاشخاص أما الحق فثابت لا يزول، وعندها يرى المؤمن أن موته وموت غيره في سبيل الله هو نبراس يضيئ درب الحائرين ويذكي عزيمة المجاهدين، قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ – ال عمران 144)K أولئك لهم حسن الذكر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، قال تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ – ال عمران 148)

ثالثا: وحين يكون الموت مصير كل حي، فاختر لنفسك الموتة التي تشرف بها عند الله وعند الناس قال تعالى (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ – ال عمران 157)، إن الموت من أجل رسالة سامية كإحقاق الحق ومحاربة الباطل، هي من أسمى أماني المؤمن، بل إن التطلع إلى ما عند الله من المغفرة والأجر، يهوّن على المؤمن مواقعة الموت وألمه وشدته، فكيف إذا كان هذا الموت شهادة في سبيل الله، يفوز به المؤمن بما أعد الله للشهداء من المنزلة العالية والدرجة الرفيعة، فهم أحياء عند ربهم، في ضيافته ينعمون، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ – ال عمران 159-171)

رابعا: إن القعود عن القتال وجهاد الكفار لا يؤجل الموت، فلا يؤخره جبن الجبناء ولا يعجله شجاعة الشجعان، قال تعالى ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ – ال عمران – 154) وقوله أيضا (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ – ال عمران 168)

خامسا: إن المؤمن يوقن أن الموت أول منازل الآخرة، وأنّه قنطرة بين حياتين، حياة دنيا فانية، وحياة أخرى باقية، والعاقل من يؤثر الباقية على الفانية، وأن موازين الربح والخسارة هي تلك الموازين التي تنصب يوم القيامة، والفائز من ثقلت موازينه فغلبت حسناته سيّئاته، قال تعالى: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ – ال عمران – 185)

فالمؤمن ينظر إلى الدنيا على أنها متاع قليل زائل، وأن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية الخالدة ، فلا يغتر بزينة الدنيا وزخرفها لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى ،قال تعالى ( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ – ال عمران – 196-197)

سادسا: يعلم المؤمن أن الموت كأسٌ والكل شاربها، الصغير والكبير، الفقير والغني، الحاكم والمحكوم، الصحيح والمريض، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ  – ال عمران – 185) ولما يكون الأمر كذلك فهو يعلم أن الموت أقصر سبيل للقاء الله، فيشتاق إلى ربه ويحب لقاءه، كما جاء في الحديث الذي ترويه عائشة رضي الله عنها “مَن أحَبَّ لقاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لقاءَه ومَن كرِه لقاءَ اللهِ كرِه اللهُ لقاءَه قالت: فقُلْتُ: يا نبيَّ اللهِ كراهيةَ الموتِ؟ فكلُّنا نكرَهُ الموتَ قال: (ليس كذلك ولكنَّ المؤمنَ إذا بُشِّر برحمةِ اللهِ ورضوانِه وجنَّتِه أحَبَّ لقاءَ اللهِ وأحَبَّ اللهُ لقاءَه وإنَّ الكافرَ إذا بُشِّر بعذابِ اللهِ وسَخطِه كرِه لقاءَ اللهِ وكرِه اللهُ لقاءَه”) حديث صحيح – رواه ابن حبان .

سابعا: وأخيرا فلا بدّ من حسن الظن بالله والرجاء بما عنده من المغفرة والرحمة، مع حسن العمل وإعداد العدة من الإيمان والعمل الصالح، فيدعو المؤمن ربه بالثبات حتى الممات، وأن يُحشر في زمرة الأبرار قال تعالى في أواخر السورة (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ *رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ – ال عمران 193-194). هذا والله أعلم.

بقلم: عمر محمود أبو أنس

 

أضف تعليقك هنا