المتنبي وجاسم الصحيح (متأثِّراً ومحبَّاً)

بقلم: أرياف قرج سلمان العمراني

عرَفْت الأستاذ الشاعر (جاسم الصحيح) خلال دراستي للماجستير، عندما تناولت قصيدته (أميلُ نحوكِ أغدو قابَ أنفاسِ)، حيث أخذتها بالدِّراسَة والتَّحليل، ومن ثم أقبلت على قراءة دواوينه، ومنها: (أعشاش الملائكة, طيور تحلق في المصيدة, تضاريس الهذيان, قريب من البحر بعيد عن الزرقة)، وغيرها من أعماله الشعريَّة حتى انتهى الأمر بجذب انتباهي للقصيدة التي بعنوان (المتنبي كون في ملامح كائن) والتي أهداها بنفسِه للمتنبي, بقوله: “بمناسبة يوم الشِّعر العالمي، أقِف خاشعاً في حضرة المتنبي العظيم بهذه القصيدة التي أهديها له”.

تأثير المتنبي على الشعراء

إنَّ تأثيرَ المتنبي – ذلك الشاعر الذي لا ينفَكُّ حديثُ النَّاس عنه حتى الوقت الراهن – ما زالَ قويَّاً في السَّاحات الأدبيَّة، ومؤثِّراً في كثيرٍ من الشُّعراء الذين أخذوا يكتبونَ عنه في دواوينهم حتى أصبحَ عنواناً لبعض قصائدهم، ومنهم الشَّاعر السُّعودي (الصحيح)، فلا عجب في ذلك فهو الشَّاعِر العبَّاسي الذي أُطْلِقَ علَيْه: “مالئ الدنيا وشاغل النَّاس”.. هذا بالإضافة إلى القيمة الأدبيَّة التي يحمِلها شعرُه من أساليب بلاغيَّةٍ وصفيَّة جماليَّة فنيَّة، فهو قامة من قامات الأدب العربي الأصيل؛ نظرًا لما يتميز به من جزالة الأسلوب، والصور الشعرية التي تعلو بخيال المتلقي لِتؤثِّرَ به، ومن ناحية الإيقاع الموسيقي التي تتميز به قوافيه.

قصيدة (المتنبي كونٌ في كائن)

فشاعرنا السعودي المبدع يلقي ما في صدره من عمق الشعور تجاه المتنبي مطلقًا على عنوان قصيدته (المتنبي كونٌ في كائن) فيوحي العنوان إلى الكون بما يحمله من مجرات وأجرام سماوية قد اجتمعت في شخص واحد أثر بتَجْربته الشعرية الجزلة في أسماع قرَّاء ديوانه، وبهذا يتضح لنا أنَّ الصحيحَ في قصيدته هذه قد اقتبس شعلة عن الشاعر العباسي فبقوله:

مُتَبَتِّلاً للنَّفْسِ منطلقاً بهِا               يجلو صبابةَ عاشقٍ مُتَأَلِّهِ

يذكرني بقول المتنبي:

جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى             عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ

وأيضا قوله:

وَما صَبابَةُ مُشتاقٍ عَلى أَمَلٍ           مِنَ اللِقاءِ كَمُشتاقٍ بِلا أَمَلِ

ويكمل الصحيح في قصيدته بقوله:

لَمَحَتْ بهِ الصحراءُ هيأةَ فارسٍ            عَبَرَ الجحيمَ وجاءَها من هَوْلِهِ

ينقادُ في ظِلِّ الملوكِ.. وحينما            دَنَتِ الحقيقةُ قادَهُمْ في ظِلِّهِ

جمَحَتْ قصائدُهُ وكلُّ قصيدةٍ               تستنفرُ التاريخَ من إِسْطَبْلِهِ

في هيبةِ الإعصارِ سَلَّ على المدَى             سيفَ الهبوبِ وشَقَّ مِعْدَةَ رَمْلِهِ

ما انفكَّ يقتحمُ الزمانَ وكلَّما                 مَدَّ الخُطَى رَكَلَ السنينَ بِرِجْلِهِ

شبحٌ بشريانِ الخلودِ مسافرٌ                أبداً يُقصِّرُ من مسافةِ جَهْلِهِ

هُوَ كالمدارِ حكايةٌ لا تنتهي              والفصلُ فيها لا يعودُ لأَصْلِهِ

مدح الشاعر جاسم الصحيح للمتنبي

ومن هذه الأبيات السابقة يعبر الصحيح بأسلوب يعلي من شأْنِ المتنبي باختياره لألفاظٍ تضعه في أعلى المراتب فتعكس ذات المتنبي المتعالية وتجسد حالة العشق التي ألمَّتْ بالشَّاعِر السعودي، فيكمل قائلاً:

عَجِزَتْ خيولُ (الرُّومِ) عنك فلم تَطَأْ              مأواكَ في جَبَلِ البيانِ وسَهْلِهِ

وغَزاَكَ من كفِّ (ابنِ عَمِّكَ) خنجرٌ               سكرانُ ما طُعِنَ الوفاءُ بمِثْلِهِ

هِيَ (رِدَّةٌ) أخرَى أفاقَ سرابُها                   فإذا (مُسَيْلِمَةٌ) يَهِمُّ بِنهْلِهِ

وإذا الدَّوِيُّ يصكُّ أسماعَ المدَى                 من كلِّ (مُرْتَدٍّ) يَدُقُّ بطَبْلِهِ

قَتَلُوكَ كي تَلِدَ الحكايةُ نَفْسَها              وصدَى الهديرِ يعيدُ قِصَّةَ فَحْلِهِ!

وعلى هذا الأمر يمكنني القول إنَّ الصحيح كانَ محبَّاً وعاشِقاً حَدَّ النخاع في شخصية المتنبي وما يتبعها من لغة شعرية قادرة على جعل كلِّ بيتٍ شعري يكتبه ينبض بالحياة ومعبِّراً عن خلجات شعوره، فجاءت عبارات القصيدة سهلة الصياغة، قوية التأثير؛ تجذب مسامع المتلقي، ولم تكتفِ بالتأثير به فحسب، بل تجعله أسير أثرها في ذاته متأملاً عناية الصحيح بتوظيف اللغة الشعرية اللازمة لتقرير المعنى الشعوري في ذهن السامع.

بقلم: أرياف قرج سلمان العمراني

 

أضف تعليقك هنا