العلم ومركزية الرؤية الجمالية

بقلم: اليوسفي رحو

“لا يدل الجميل ولا البهيج على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلم عنه” ر: ديكارت
“في الطبيعة بساطة ومن ثم جمال عظيم” ر:فاينمان

إن القمر الذي كتب عنه الشعراء، وزيّن نوره ليل الأرض، وشبهت به النساء، لم يعد جميلا. فالقمر مجرد وجه أو كرة مشوهة؛ ذلك ما يقوله التلسكوب أو العلم. إن العلم بهذا المعنى يكشف حقائق الأشياء، بل يحول اعتقادنا بصدد الجمال إلى صدمة. ونحن الذين نعتقد أن الجمال موجود في الطبيعة أو الأشياء. فإذا بنا نكتشف ــ حين نقترب بحواس صناعية ــ أن الأشياء ليست كما هي بالنسبة لحواسنا الطبيعية. فهل يمكن أن نذهب مع القول القائل أن الجمال شيء ذاتي لا علاقة له بالطبيعة ــ بما هي آلة ضخمة أو ساعة كبيرة تحكمها الضرورة فحسب ــ ومن ثم لا صلة له بالعلم؟ أم نقول أن الطبيعة ابنة الجمال وأن العلم يكون علما حين يتضمن عنصر الجمال؟

1ــ العلم الكلاسيكي وهامشية الرؤية الجمالية:

حقا إن النظرة العلمية الكلاسيكية نظرة باردة مشاعريا، لأنها تعتقد أنها واقعية؛ إذ تتعامل مع الطبيعة باستبعاد الجمال كليا، فهو مجرد شيء ذاتي محض يخص الإنسان، وبالتالي فالجمال ـ حسبها ـ ليس من صفات الطبيعة[1]. وهكذا، يبدو إذن أن الطبيعة خالية من عنصر الجمال، ومن ثم فمعيار علمية العلم هو أن يُستبعد الجمال، وأما استدخاله فهو خلط للعلم بما ليس علما. ولما كان من خصائص الأسلوب العلمي عزل أو فصل الذات عن الموضوع، لزِم حسب هذه النظرة أن يستبعد الجمال ما دام مرتبطا بالذات. إذن فدراسة الطبيعة يقتضي استبعاد الجمال، فالقمر ليس جميلا، أليس بالتلسكوب بدا أنه مجرد شيء/جُرم مادي من أشياء العالم يدور بسبب الجاذبية؛ جاذبية كوكب الأرض. إن النظرة العلمية الكلاسيكية تصور العالم بمختلف ظواهره بشكل جاف وقاس وكأننا في عالم بدون ألوان؛ عالم مادي خواصه خواص كمية؛ حيث الوزن، الحجم، الشكل والعدد. وخلاصة موقف هذه النظرة، هو أن الجمال ــ كما قال ديكارت ومعه اسبينوزا ــ ليس «صفة في الشيء المدروس» وإنما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان الدارس لذاك الشيء[2].

2ــ العلمية الحديثة ومركزية الرؤية الجمـالية:

وعلى العكس تماما، نرى في النظرة العلمية الجديدة اهتماما كبيرا بالجمال، إلى درجة يمكننا القول أن العالِم الذي يعمى عن رؤية الجمال هو عالِم قليل الحظ من العلم. وعلى هذا النحو، في سياق أهمية الجمال في العلم، كتب هنري بوانكاري يقول: «العالم لا يدرس الطبيعة لأن في دراستها منفعة، ولكنه يدرسها لأنه يجد متعة في ذلك، وهو يجد في دراستها متعة لأنها جميلة. ولو لم تكن الطبيعة جميلة لما كانت جديرة بأن تُعرَف ولما كانت الحياة جديرة أن تُعاش»[3]. إن دراسة الطبيعة بهذا المعنى تجعل العالم يشعر بالجمال، وسر هذا الجمال هو الطبيعة ذاتها، فلو لم تكن حاضنة للجمال، لكان الشعور بالجمال من خلال دراستها منعدما أو ضئيلا ــ على الأقل. فملاحظة الطبيعة تعكس وجود الجمال إنْ من خلال الإدراك الفوري أو التحليل الفكري العميق. قد يبدو أن هذه مجرد أقوال شاعرية، فليس صعبا أن نقول مع ريتشارد فاينمان: «في الطبيعة بساطة ومن ثم جمال عظيم»[4]، ولكن ما الدليل على وجود الجمال في الطبيعة؟ ما هي العناصر المحددة له؟

إن الجمال في النظرة الجديدة وسيلة من وسائل اكتشاف الحقيقة العلمية، بل إنه يعد معيارا في الفيزياء مثلا، ويُقدُّمُ على التجربة. يقول الفيزيائي بول ديراك: إن «وجود الجمال في معادلات العالِم أهم من جعل هذه المعادلات تنطبق على التجربة»[5]. وهكذا فالجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهم مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح. ولهذا، يرى علماء الفيزياء «أن نظرية النسبية العامة هي أجمل النظريات الفيزيائية الموجودة على الإطلاق»[6]. إن الجمال في الفيزياء هو السمة الغالبة؛ فالتجربة تخطيء في الغالب والجمال قلما يخطيء. ولكن ماذا نحن فاعلون لو لم تتفق وتنسجم نظرية أنيقة للغاية مع مجموعة من الحقائق؟ لو كان الأمر كذلك، وكان الجمال أساسيا في العلم، فإنه يمكن، باختصار، أن نجد لها تطبيقا في مجال آخر[7].

اينشتين ومعيارية الجمال في النظرية العلمية:

والآن، سنتوقف عند تصور اينشتين لجمالية النظرية العلمية ومتى تكون علمية ومن ثم مثيرة للإعجاب. تكون النظرية العلمية مثيرة للإعجاب، حسبه،”كلما كانت مقدماتها أبسط، والأشياء التي تربط بينها أشد اختلافا، وصلاحيتها للتطبيق أوسع نطاقا”. ولنتوقف عند دلالة كل عنصر[8].

  1. عنصر البساطة: يرى البعض أنه ليس هناك ــ حاليا ــ نظرية منافسة للنسبية العامة في أناقتها وبساطة افتراضها. وما يميز البساطة هو الكمال والاقتصاد في الوقت ذاته، بمعنى أن تكون النظرية تأخذ الحقائق في الحسبان وألا تشمل إلا ما هو ضروري. من هنا، قال هايزنبورغ عن نظرية الكم: “لقد اتضح على الفور أنها مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي”.
  2. عنصر التناسق: يقول اينشتين: لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق داخلي في الكون. ويقصد بهذا العنصر انسجام الأجزاء مع بعضها البعض ومع الكل. يتعلق الأمر بالربط بين حقائق عديدة لم تكن فيما مضى تربط بينها صلة. (ارتباط المكان والزمان والحركة والمادة في نسبية اينشتين).
  3. عنصر الروعة: يقتضي هذا العنصر وضوح النظرية في ذاتها، وإلقاؤها الضوء على الكثير من الأشياء، موحية بإجراء تجارب جديدة. فمثلا: نيوتن أدهش العالم بتفسيره للأجسام الساقطة، ولظاهرتي المد والجزر، ولحركة الكواكب والمذنبات بثلاثة قوانين بسيطة. وحتى اينشتين نفسه بفضل نظريته في النسبية العامة ألقى الضوء على علم الكونيات والفيزياء الفلكية وميكانيكا الكم.

وهكذا نخلص إلى القول أن الجمال يلعب دورا هاما في الرؤية العلمية، بل أصبح معيارا كشأن معيارية العقل والتجريب والقابلية للتكذيب..، ومن ثم يجوز القول إن الجمال ليس مجرد ملصق ذاتي نلصقه على الأشياء، وإنما هو في صميمها ومن مكوناتها. إن في الطبيعة الميكروسكوبية والماكروسكوبية جمال لا ينكره أو يُبعده إلا من أوتي حظا قليلا من التحليل الفكري وضعفا في الإدارك الفوري.

——–

  • [1] روبرت أغروس جورج ستانسيو، العلم في منظوره الجديد، ترجمة كمال خلايلي، عالم المعرفة، ص 44.
  • [2] نفسه، ص 43.
  • [3] نفسه، ص 48-49.
  • [4] نفسه، ص 48.
  • [5] نفسه، ص 45.
  • [6] نفسه،ص 44-45.
  • [7] نفسه، ص 46.
  • [8] نفسه، ص 46-47-48.

بقلم: اليوسفي رحو

 

أضف تعليقك هنا