العرب وسؤال التواصل الثقافي

التواصل -بما هو آلية للتسامح والتعايش- يبقى مطلبا إنسانيا راقيا، لا يختلف حوله اثنان، ولا يتناطح على أهميته عنزان. ولأهميته نجده حتى عند المجتمعات الحيوانية، وإن كان بصبغة روتينية وميكانيكية يروم إحداث حالة من النظام والنسقية في حدهما الأدنى، كما أشار إلى ذلك إيميل بنفنست، حين ميز بين نمطين من التواصل: تواصل بشري وتواصل حيواني، متخذا للثاني مجتمع النحل نموذجا.

تأسيسا على ما سبق، تتبدى الحاجة الملحة في كل المجتمعات –إنسانية كانت أو دوابية- إلى التواصل، فبالأحرى عند الإنسان المكرم بالعقل الجموح نحو المنطق، وبالعاطفة الجياشة بأحاسيس وانفعالات تمتح من عقيدة الأب الواحد.

ومن ثم، فالثقافة العربية ليست بدعا من الثقافات الأخرى، ولا هي خرق لمألوف، فهي مطالبة بدورها بالتواصل مع باقي الحضارات الإنسانية، مهما تنوعت خلفياتها الدينية، أو التاريخية، أو السياسية؛ مع التشبث بالهوية والأصالة والحيطة من الذوبان المنسي للأصول. مطالبة بذلك بدافع الظهور وعامل البروز، لتأكيد أصالة ثقافتها، وتجذر تاريخها من جهة، ولغاية الاستفادة من الإرث الإنساني من جهة أخرى، باعتباره مشتركا غير محتكر.

فكيف يمكن للثقافة العربية أن تسهم في حوار الحضارات ومد جسور التواصل؟

وهل لها من الإمكانيات المادية والمعرفية ما يؤهلها للعب هذا الدور المهم؟

بنظرنا إلى التواصل، وما يتيحه من إمكانات نتوجة في إشاعة روح التسامح وقبول الآخر، كأرقى ما وصل إليه الإنسان من حقائق تدعم تنفيس حالة الاحتقان السائدة بين ممثلي الحضارات، تجد الثقافة العربية نفسها مرغمة على الانخراط في فتح تواصل مع باقي ثقافات المعمور، خاصة مع الظرفية الحساسة التي تمر منها المنطقة العربية، وما يصيب ثقافتها من رذاذ الأحداث والحروب.

ومع ما تشكله العولمة السابحة في أرجاء الأرض، من عوامل ضغط إضافية، تفرض على العرب والأمة الإسلامية التواصل مع كل المشارب الحضارية. وهذا يحيلنا على وجوب اقتحام هذه العقبة الكؤود رفعا للعزلة، واستفادة من ثمرات الآخرين، وخلقا لحالة من الوئام والتقارب والقبول بالآخر، عوض ما أسماه فوكوياما في نظريته المتطرفة بصراع الحضارات، مع عدم إنكار المسألة لعامل طبيعي، هو التنافس الفطري وابتغاء الريادة، الذي جبلت عليه النفس البشرية. وكأننا بالتواصل في هذه الحالة هو حقنة تنفيس للصراع الفوكويامي.

وإلحاح المسألة وآكدية المطلب تضع على العرب والمسلمين عامة مسؤوليات جسيمة، بغير النهوض بها يبقى التواصل العربي مع الآخر حلما لذيذا يراودنا وأمنية معسولة تساورنا. مسؤوليات تبدأ باللغة ولا تكاد تنتهي بالإعلام.

ولأن اللغة هي حظ الأسد من التواصل، الذي نحن بصدده، فعلى الثقافة العربية أن تستوعب لغات العالم، لتنصهر في بوتقة تخرج بها الحرف العربي من جموده، ليغدو أكثر ليونة وانسيابية مع لغات العالم المتحرك بعامل الاقتصاد ونشاط الإنتاج.

إذن، فعلى العرب ترقية لغتهم في سلم التداول إلى مصاف اللغات العالمية، بالتحوير والملاءمة، والانفتاح على لغات الآخر تعلما وتعليما. وسؤال اللغة العربية والتواصل لا يمكن بدء تأسيس فهم سليم بشأنه، إلا في مدرسة حرة ومنفتحة، وبنخب تعض على هويتها بالنواجذ، لتستفيد من المشترك الإنساني، من غير أن تزهد في اجتهادات الأغيار.

وأحد أبواب ترقية اللغة العربية هو الاقتصاد، فلا يمكن لثقافة مستهلكة لا تنتج، أن يعترف الآخر بلغتها، مهما بلغته من الجزالة والمطاوعة والمسايرة والمقاومة وثبات العمق، إلا إن وُضِع قطار الاقتصاد على سكته، مع قبول صادق بالآخر. والحديث عن اللغة، طبعا، هو عابر لكل الأجناس التواصلية بما فيها الأدب باختلاف تلويناته وأنماطه، لذلك فالانفتاح على آداب الآخر، لا شك، يغني الثقافة العربية ويثريها، طبعا، مع دوام التأكيد على التمسك بتلابيب الثقافة والهوية.

وبحديثنا عن التواصل بوصفه علما “جوكيريا” غزا مختلف المجالات، فإن الإعلام يشكل قطب رحاه وعمود خيمته، بفعل ما وصلت إليه التكنولوجيا من منجزات هامة، لو استُغِلت على النحو الذي يخدم التواصل، لكان ذلك أنفع وأبقى.

فالعالم الذي غدا قرية صغيرة، وسماء مفتوحة، لا مندوحة له عن سبر أغوار المجال الإعلامي بالابتكار والإبداع، ولا فكاك للعرب عن تطوير هذا المجال وتحريره، وكذا تشجيع استثمارت ومقاولات إعلامية تحمل للعالمين رسالة الهوية والتشبث بالأصالة، مع الترحيب بقبول الآخر، والتواصل مع باقي حضارات بني الإنسان. ولأن “أي حضارة حضارة لا تبدأ من الصفر” فكل الحضارات مطالبة، على هذا الأساس ومن منطلق الوفاء والمدينية لسابقاتها، بمد جسور التواصل والانفتاح والحوار، الذي يخفف من وطأة القتال الأهوج الذي رهن مستقبل المنطقة، ويبرد وطيس الحروب الطائشة التي تطحن بجنازيها وصواريخها الأرض والإنسان، تدمر الثقافة والمشترك العابقين بأريج آلاف السنين، فما ربح من ربح في علاقات الجوار الدولية إلا بفضيلة التواصل المنتج للحوار الحقيقي البناء، الذي ينهض على أساس الريادة ومناطحة الكبار في القمم، لا على أساس مسلسل الإلهاء في سفح الدعة والخمول.

ورغم ذلك فإن التكنولوجيا، على أهميتها، غير كافية لرفع منسوب التواصل في شقه الثقافي، وإن كانت أهميتها غير خافية ولا منكرة. والجاحد بدور التكنولوجيا يتنكر لجزء مهم من التجربة الإنسانية الحديثة التي أفنى في إقامة بنيانها شخصيات ومؤسسات لا عد لها ولا حصر. وهي تؤتي أكلها مع الإرادة النابعة من العقل المؤمن بأهمية التواصل، والمستمدة من العاطفة الفطرية المنجمعة على حب الإنسان من حيث هو إنسان لا لاعتبار آخر.

فإذا نهضت الثقافة العربية بالمجالات السالفة الذكر (اللغة والأدب والإعلام والمدرسة والاقتصاد) لا نستغرب أن نجدها يوما – وقريبا إن شاء- رائدة التواصل الكوني، بإشعاع علمي واقتصادي وسياسي على درجة النموذجية. لأن لها من الأساسات المتينة ما يدعم هذه الريادة الحالمة إن هي متحت منها وشربت من نبعها الأصيل الصافي.

أساسات دينية وتراثية وتاريخية، إن آمنت بجدواها، لا جرم، سيكون النجاح حليفها. فالعرب تعايشوا قديما مع الروم والفرس والأحباش، وما يزال صدى الأعلام من غير العرب في اللغة والحديث يدوي في أرجاء العالم الإسلامي بعدما بصموا مجالات اشتغالهم: كالبخاري وابن منظور والفيروزبادي وغيرهم كثير. فبمجرد استدعاء هذا المعطى التاريخي والإيمان به، سيجعل من الثقافة العربية رائدة التواصل وقبول الآخر.

والآية الكريمة (13) من سورة الحجرات، القائل فيها جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يبدو فيها المطلب ماثلا عيانا، واضحا جليا لا مواربة فيه ولا مداراة، خطاب صُدِّر بنداء عقل الإنسان، كيفما كان لونه ودينه وجنسه، يهمس في أذنه بأهمية التعارف والتبادل والتآزر والتكافل والتعاطف والتضامن… وكل ما حسن من وزن تفاعل، إلا أن يكون تآمرا وتباغضا وتطاحنا.

وأخيرا، فإن التواصل تلزمه نية صادقة. والقول بالتواصل وجدواه، هو دعوى يحتاج إلى برهان يعضده عامل الوضوح ويسنده جو من التسامح وقبول الآخر، مع وقف حمامات الدم التي تغرق فيها المنطقة العربية، إذ لا تواصل والصواريخ العابرة للقارات المدمرة للقيم تدك الإنسان تحت المباني الآمنة. عالم بصفر حروب، لا يتحقق بغير التواصل الحقيقي، لا التواصل الذي ينفخ فيه الإعلام لغته العنصرية ويرفع شعاراته غربان الحروب.

فيديو العرب وسؤال التواصل الثقافي

أضف تعليقك هنا

سعيد البوبكاري

سعيد بن اعمار البوبكاري

أستاذ وباحث مغربي، ينحدر من قرية ابرارت دائرة أكنول التابعة لمدينة تازة.

يشتغل بتدريس اللغة العربية في السلك الأول من التعليم الثانوي.

نال شهادة الباكالوريا عن شعبة العلوم الإنسانية من ثانوية ابن الياسمين، محرزا الرتبة الأولى في تخصصه سنة 2008.

وفي حزيران-يونيو سنة 2011 حاز على شهادة الإجازة تخصص أدب وفنون. وكان من بين المتوجين في حفل التخرج لفوج الإجازة بإحرازه المرتبة الأولى، الذي نظمته رئاسة جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس في تموز-يوليو من السنة نفسها.

تخرج سنة 2013 من المركز الجهوي للتربية الخاص بتكوين الطلبة / الأساتذة في العاصمة الرباط بمدينة العرفان، بعد نيله المرتبة الأولى وتنويه الأساتذة المكونين عن شعبة اللغة العربية.
ينشر مقالاته بعدد من المواقع الإلكترونية المغربية والعربية.