ساعة مع الشيطان “قصة قصيرة”..!

صباح هادئ

جلس في الشرفة كعادته كل صباح.. الأجواء الرمادية تكاد تبوح بملامح عاصفة شتوية في الأفق، إستل رشفات متاتلية من قدح القهوة الداكنة مشروبه المفضل، والتي طالما رافقت جلساته مع الأفكار والوساوس كلما إختلى إلى نفسه وصارحها بكل ما يجول في خاطره من أسرار.. هو من لم يتحدث بأي سر من أسراره إلى أحد قط، لا سيما صديقه الفنجان..!

كان ينتظر قدومه بشئ من الشغف المشوب بالحذر، صديقه اللدود الذي لم يخلف موعداً، أو تأخر يوماً عن لقائهم السري المعتاد.. فجأة يغمر المكان ضوء أسود شديد اللمعان، تختفي جميع المشاهد وترتعش الجدران وتهتز الأبواب الموصدة بعنف مع قدومه.. يعلو فقط صوت دابته الأسطورية كهدير الأمواج في بحر العباب..

يبتسم صديقنا في ثبات

ويستمر في رشف قهوته في تمهل وهدوء مفتعلاً عدم الإكتراث.. يدخل الضيف إلى الشرفة من كل صوب، ويطوق المكان بأذرعه الكثيفة مُظهراً شغف غير مسبوق.. إنه الشيطان في سترته الداكنة وسرواله القرمزي الضيق، الذي يكسو سيقانه النحيلة.. من خلال إبتسامته الباردة المعهودة يسأل صديقنا في تحد واضح:

هل تحسب أنك ستنجح في خداعي مرة أخرى..؟

ماذا تقصد..؟ ومتى تظن أنني خدعتك..!

خدعتني حين أوصيتك بكتمان ما تعاهدنا عليه، وها أنت تخرق الإتفاق، ولا تكتفي بهذا فقط.. لكنك تمارس رزيلة الحب الذي حذرتك من أن تقربه يوماً..!

وماذا في ذلك؟ هل تظن أنك وصياً على أفعالي، أو أن لك الحق في مسائلتي في مشاعري..؟ أعرف أن الحب هو جحيمك وله تهتز أركان مملكتك، لكني لا أعتبر هذا خرقاً لإتفاقنا..

أحقاً لا تعرف مغبة ما تقترف..!

لا تهزأ بي، فأنا لست وصياً عليك ولا على غيرك.. أنا فقط أعرفكم جيداً.. أنتم مجرد مخلوقات صنعت من الطين والحماقة، تتعبد للإقدار، وتظن أن الأمور تحكمها الصدفة، ولا أحسبها تُبدي ما لديها من فضائل إلا عند الشدائد، وحين أسود أنا المشهد بالطبع.

يا لك من شرير أحمق.. هل أغضبك حالي إلى هذا الحد..؟ ألهذا يبدو الأفق معتكراً وأسمع كل هذا الدوي والرعد الهائل الذي يكاد أن يصم الأذان..؟

لا علاقة لي بهذا، فأنا لا أحتاج لكل تلك المقدمات.. وأرجوك لا تسئ الظن بي كعادتك.. فكيف تتصور أن بوسعي إقتراف كل هذا..؟

بل إنها عاداتك وسلوكك الذي تعودته منذ أن تعارفنا.. ليس جديداً عليك أن تتدخل لإفساد كل ما هو جيد وتشويه كل ما هو جميل..!

أراك تمنحني وزناً لا استحقه..

وكأنك لم تكن ترى كيف تحولت أنت وأقرانك تدريجياً حتى تجاوزتموني في إبداع الوساوس والفتن.. لم تعودوا تحتاجونني لإقتراف جرائمكم اليومية، بينما تتظاهرون دائماً بالتسامح والمودة..! أنا لم أغشك أو أكذب عليك قط.. فهل تصدقني إن قلت لك أني حاولت مراراً، وبكل ما لدي من حيل أن أمنعكم من صنع الكوارث وقتل بعضكم البعض بهذا الإبداع الذي أذهلني أنا شخصياً..؟ إنكم تخادعون أنفسكم وتختبئون داخل عبائات زائفة من الوقار والإحترام.. دعني أصحبك في رحلة داخل قلوب هؤلاء الذين تسميهم أفاضل القوم، فلن تجد داخلها إلا سواد وحقد وضغينة.. وسأعرض عليك يوماً صفحات من ضمائرهم، وأعدك أنك لن تجد إلا شراهة وحماقة وبهيمية مقيتة.. أحسبك تخدع نفسك حين تظن أن من نصبوا الشراك لبعضهم البعض، وفجروا القنابل واشعلوا الحروب وسفكوا الدماء، هم نساكاً في محراب الطاعة الإلهية كما يحلو لهم الإدعاء..!

إلى ماذا ترمي أيها المسخ البغيض..؟ أنت تثير إشمئزازي بإسلوبك الساخر ورغبتك الدائمة في قتل أي بادرة أمل..! لن أصغي لك، فأنت رمز الحقد الأسود دون شك مع عدم رغبتك في إطلاعي على أسرارك ..!

هون عليك وأصغ لي يا صديقي..

إن أموركم متشابكة وشديدة التعقيد، لا يمكن التعبير عنها أو حتى إيضاحها.. لقد عانيتم كثيراً كي تصلوا إلى معادلة فك طلاسم حياتكم، أو أن تبسطوها على أقل تقدير.. لكنكم لشديد سعادتي فشلتم، وكانت نشوتي تزداد كلما حللتم عقدة في مقابل صنع مئات من العقد الأكثر تشابكاً.. وأخيراً أراكم تتظاهرون باللا مبالاة، ثم تعاودون المحاولة لتغيير ملامح حياتكم، فإذا بكم تزدادون جشعاً وحماقة كلما أدركتم نجاحاً بسيطاً، لذا أنا أسعد حين أراكم تنهارون من جديد.. أنكم بالفعل منحتموني الفرصة دون أن أبذل جهداً.. ولا أعرف كيف أشكركم على هذا العطف الذي أظنه حررني من لعنة مستدامة أحسب أني وصمت بها ظلماً بعد أن طالعت أحوالكم وعاينت ضمائركم..!

من المؤسف والمهين أن أكون معك هنا وأضطر للإستماع إلى تلك التراهات الخبيثة.. أراك تحاول أن تخدعني مرة أخرى..!

أنت لا تحتاج لكل هذا الجهد لأخدعك يا عزيزي، فالفارق بيننا واضح ولا يحتاج لشروح.. أنا على قناعة بأنني الأقوى، لأني ببساطة لا أنجرف أمام سخطكم مني، أو أغضب أمام كراهيتكم وإهاناتكم المتكررة.. كلا، لست أنا الذي يفعل هذا ليقيني الراسخ بأن الغضب حماقة تخصكم دون غيركم من الخلائق، وإذا ما إستسلمت لها ربما ستجرني من عليائي إلى عالمكم السفلي الذي خضبتوه بالأحقاد التي صنعتموها بأيديكم.. التاريخ سجل لكم أن مشاعركم المرهفة وردود أفعالكم الحمقاء هي ما زخرف موسوعاتكم بالدماء والجثث والأشلاء..! من تظنه صنع كل هذا..؟ بالطبع لست أنا أن شئت الأنصاف.. ألم تتفاخروا بين المخلوقات بأن لديكم العقل الذي يميزكم عن العجماوات التي إنقرض بعضها ومازال البعض أكثر نظاماً وتعاوناً ورحمة منكم بني الإنسان..؟ فقط أنظر إلى النملة.. ربما علمتك شيئاً نافعاً بدلاً من أن تكيل لي الإتهامات بلا داع..!

لا أستطيع أن أجاريك في منطقك..

لكني أكرهك وأشعر بأننا لن ننجو مادمت تعيش بيننا..! لماذا لا ترحل وتتركنا نحيا في سلام..؟

مازلت تحاصرني بقسوتك.. إعلم يا صديقي أن الأمور لا تُحكم هكذا.. فإذا رحلت أنا، أحسبكم ستصنعون آلاف من صوري لتتعبدوا إليها حين تفتقدونني.. إنكم ترغبون في كل شئ بلا حساب.. من أوعز لك أنني السبب في شراهتكم..؟ أنتم تريدون الحياة الأبدية، ليكن.. لكنكم لن تحصلوا عليها إلا حين الإعتراف بخطيئتكم في حق أنفسكم.. أه.. أشعر بجفاف في حلقي.. هل سقيتني شربة ماء قبل الرحيل..؟

يبدو أننا سنواجه نفس المصير.. لقد جف الماء..!

النهاية…

فيديو مقال ساعة مع الشيطان “قصة قصيرة”..!

أضف تعليقك هنا