وفي الحديد بأس شديد

 

لا غنى للعلم عن الحرفة

اخشى يوماً نصبح فيه على ما قال (مارون عبود) في ذم من أكل حصاد المزارع وهو كالحمار حمل أسفارا (لقد زرع كثيراً وقدم للناس بذاراً .. ولكنهم أكلوه فماتت الحبة في بطونهم ولم تتغذى بها عقولهم) ..
حدثني منذ سنوات استاذ كامل الرتبة في علم النفس كيف أنه حاز أعلى المراتب العلمية من أعرق جامعة في بريطانيا، وعلل ذلك بأنه الاجتهاد في التعلم عبر المراحل الدراسية .. وقال بشيء من التعميم أن أي انسان واجب عليه أن يسير قدماً في درجات الترقي التحصيلي في المدارس والجامعات ليضمن بذلك الموقع المرموق في الحياة العملية فيعيش حياة كريمة محترمة ويصبح في قلب المجتمع ومن صفوته ..

ثم حاول أن يضفي على قوله شيئاً من الاثبات أمام محدثه فحكى أنه مر يوماً بعامل بناء يحمل قصعته والواحه على كاهله فأثقلتها، ويصعد وينزل بعناء وشق نفس، فقال له (لو أنك بزلت في صغرك مزيداً من الجد في التعلم المدرسي لصار لك الان شأن آخر وحال أفضل ولما عانيت ما تعاني هكذا من حمل الطوب والاسمنت) .. أدهشني القول، فيبدو أن الرجل قد قرأ الاسفار عن الإنسان كلها وما حوت، ولكن عقله ما احتواها ..

أهمية العمال و الحرفيون….الخ

إذ من يبني الحياة لو أن كل البشر صاروا على صف واحد لا اختلاف بينهم ولا درجات .. والى متى نظل نستصغر أعمال الأيدي و(أفرولات) المصانع والمعامل والورش .. إن بمثل محدثي هذا بقيت مجتمعاتنا منقسمة على نفسها بين طبقة المثقفين المتعلمين حملة الشهادات أولي الأوراق والأحبار يصفون أنفسهم بصفوة المجتمعات والأعز نفراً .. وطبقة من هم دون النظر وأخس مكاناً بين العالمين، هم عمال زراع حرفيون يشقون الأرض وينحتون الصخر بأيديهم بفن مستحقر من فنون السواد الأعظم للشعوب ..

وهكذا أورثنا (أفلاطون) Plato الاغريقي وتمسكنا نحن بتركته في وقت نبذها فيه أهله أن الناس على معادن وطبقات، فمن كان وارثا لمعدن الذهب هو ذو الشرف والعزة والقيادة وإن لم يحرث بيد أو يحصد بأخرى، ولم يركض برجل بين ضروب المهن والحرف، هم السادة ومن دونهم من حملة المعادن الأخرى في شفراتهم الوراثية لا يطالون مكانتهم وهم فيما رزقوا به من سخرة وشظف عيش قابعون .. ويقف (كونتا) في (الجذور) شاهداً على عقيدة (نيتشه) Nietzsche بأن السادة هم فقط من لهم الرؤوس العالية وأما العبيد فحياتهم لا تكون إلا تحت نعال سادتهم وأسفل احذيتهم راضخون ..

تسخير الله الناس لبعضهم

ولكن الله أذن للدنيا أن لا شريف فيها بمحض شهادات وألقاب وأنساب، وأن لا وضيع فيها بحرفة وخرقة ودلاء .. وإنما رفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات وجعل بعضهم لبعض سخرة، إنما ذلك في موارد العيش وسبل الوظائف بحكم متطلباتها وليس في تراتب قيم الوجود الإنساني .. ولعل ذاك المسخر يكون هو الساند لمن علاه ولو راح عنه لسقط، فأيهم إذن يكون هنا الأهم ؟.. ولربما كان الوضيع بخلقه الفاسد متوسدً أعلى الوظائف بتولية المناصب لغير أهلها، وكان من في أحطها وأدناها دركاً لهو الكريم العفيف .. ولعل العلم الحق يأتي في أكثر الناس بساطة وفقراً وهملاً بين الناس، فلم تمنع حظ العيش الكفاف ميكانيكياً للسيارات أن يكون في نفس الآن خبيراً مجيداً للإنكليزية وآدابها عبر أوروبا وأفريقيا، ويحمل دوماً كتاباً في جيبه حتى وهو راقد أسفل المحركات الحديدية يداوي أدواءها حسبما روى لي قريب حبيب .. وكفى أن لم يعب النبي (محمداً) أن كان يوماً راعياً لأغنام وإبل، بل كان هو أعظم ولد آدم وأشرف الخلق كلهم .. وكفي.

فيديو مقال وفي الحديد بأس شديد

أضف تعليقك هنا