أقاصيصهم وأرشيفنا

على سبيل نحت الفكرة

أثناء بحثي على المتصفح عن مقالات وتقارير لـ” توت عنخ آمون”، وبالمصادفة، وجدت تقريراً نشرته البوابة نيوز الإلكترونية في يونيو 2015م بعنوان: ” البوابة نيوز تحاكم وزير الآثار ممدوح الدماطي ” يشرح الانتهاكات القانونية والأدبية لوزير الآثار المصري “السابق” وإهمال مرؤوسيه في التعامل مع التاريخ المصري؛ وأيضاً توقيعه وثيقة سرية مع الجمعية الجغرافية القومية National geographic”” والخاصة بالتعاون بين الوزارة والجمعية في إثبات أصل ملوك مصر القديمة وبالتحديد توت عنخ آمون العبراني.

تخلي الإسرائيليين عن فرضية أن اليهود هم بناة الأهرامات ونسبتها لقوم عاد

فتذكرت تخلي الدراسات الإسرائيلية عن فرضية أن اليهود هم بناة الأهرامات؛ ثم نشر ذاك البحث الفارغ الذي انتشر كالنار في الهشيم والذي يقول أن قوم عاد هم بناة الأهرامات والمليء بالاستشهادات القرآنية، كانت معظم التعليقات: الله أكبر، سبحان الله، وصدق الله العظيم وبعض الآراء العلمية من مليار شخص أصبحوا فجأة ودون مقدمات مؤرخين وعلماء “مصريات”؛ ثم الإعلان عن آخر الأبحاث الإسرائيلية التي أذاعتها القناة العاشرة الإسرائيلية عن أن الفضائيين هم بناة الأهرامات.

وعلي الرغم من أنه لايوجد حضارة فاسدة اخلاقياً ودينيا ١٠٠٪؛‏ إلا أن الاستشهاد بالآيات القرآنية والموجهة لمسلمي دول الشرق الأوسط – الذي يؤسفتي أن أصفه بغير المتحضر – كمقاربات تاريخية لتصوير المصريين القدماء وحكامهم قبل مجيء الإسلام بالفساد والظلم وعدم الأخلاقية الصِرفة؛ من قبل المؤرخين والباحثين “التوراتيين” في التاريخ القديم للشرق الأدنى، لطمس أي معلم من معلم التعارض مع الرواية التوراتية التي تقول بالعهد الذي منحه الله لإبراهيم ونسله من إسحق وحتى داوود الملك.

وطبعاً لا يجب أن ننسى المعارضين لفكرة الدول القومية في الشرق الأوسط الحالي من” الإخوان المتأسلمين” وما خرج من عباءتها، من الحالمين بالخلافة، ومن الذين لن يترددوا في التحالف مع الشيطان ذاته في مقابل الوصول للسلطة فقط؛ لجعل وهم “الإرث العثماني الزائف” – الذي لم يقدم سوي الحرب – مركزاً للجذب ولإضفاء القداسة على أهدافهم السياسية؛ وهو ما تجده منتشرا على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي وخاصةً الصفحات الساخرة والفيديوهات القصيرة علي الـ”YouTube”.

والغريب أن التجاهل الفج للمكتشفات الأثرية الملموسة والموثقة وغيرها الكثير من كتابات وتفسيرات بعض المؤرخين التي تتسم بقدر من التجريد والعقلانية يزداد؛ وتتصدر المشهد رواية العهد القديم “التوراة” التي حددت فرعون الخروج رعمسيس – وهو أعظم ملوك الدولة الحديثة المصرية- في سفر الخروج (١٤-١٥) رغم تجهيله في القرآن الكريم.

فنَهل منها ١٠٠ مليون مصري، على وجه الخصوص، معرفتهم بماضيهم وتراث آبائهم وأجدادهم؛ وتحولوا لكارهين ومشمئزين من أرشيفهم الأثري الذي – على الرغم من كل ذلك التدمير والاكتشافات والسلب والنهب المنظم وغير المنظم قديماً وحديثاً – لا نعرف عنه إلا الثلث ولا زال ثلث من الثلثين الباقيين منه على الأقل تحت الرمال في انتظار الكشف عنه.

لماذا مصر “القديمة” تحديداً

بعد تدمير ممنهج لآثار سوريا والعراق؛ وإسكات للتاريخ الفلسطيني “رسمياً” في إسرائيل، كما جاء في مؤلف الباحث والمؤرخ “كيث وايتلام ” عن ” إختلاق إسرائيل القديمة “؛ وحيث لم يتبقى سوى الأرشيف المصري التي يصعب عملياً تدمير كافة آثاره، فتخريب وإخفاء وثائق وبرديات وعملات نقدية أسهل بالطبع من إخفاء كتابات مدونة على جدران كجدران معبد الكرنك على سبيل المثال.

وبعيداً عن نظريات المؤامرة التي قد أطرح منها المئات إذا بحثت فيما ذكره تقرير البوابة نيوز وغيره من التقارير الأخرى، إلا أن نقاط الارتكاز في تاريخ فلسطين ولبنان القديم يمكن استبيانها بجلاء في وثائق الأسرة الثامنة عشرة حتى عهد توت عنخ آمون ومن بعدهم الأسرة التاسعة عشر أو الرعامسة” نسبة إلى رمسيس”.

ووفقاً للباحثين والمؤرخين التوراتيين أن: داود هزم “جليات” البطل الفلستي وأسس مملكته في بيت المقدس وحددوا التوقيت حوالي 1200 ق.م، أي في أواخر حكم “سيتي الثاني”؛ وهو ما يجعل التقاطع مع مصادر ونقوش ووثائق حكومية وأدبيات اجتماعية وسياسية من الدول ذات الوجود الأقدم في غير صالح رواية واحدة “قصصية” وحديثة العهد بهم، والتي يفترض أنها دونت بعد ما يزيد عن الثلاثمائة عام من تغيرات ديموجرافية “سكانية وبشرية” وجيوسياسية في المنطقة، وحتى بعد موت موسى بمئات الأعوام.

مقتطفات من الأرشيف

في العصر الإمبريالي لمصر القديمة، والذي بدأه “تحوتمس” مهندس الإمبراطورية المصرية، امتدت ممتلكات مصر الآسيوية ما بين الفرات شرقاً وحتى المتوسط غرباً وشمالاً حتى حدود سوريا؛ وظلت مصر منذ بداية الهجرات والتغيرات الديموجرافية السكانية في منطقة الشرق الأدنى القديم – الشرق الأوسط الحالي- تتاجر، وتؤثر، وتحارب، وتحتل، وتحكم باعتبارها حلقة وصل بين القارات الثلاثة وشاهداً على ما كان يحدث في الأرض التي يزعم “هرتزل” و” وايزمان” مؤسسا المنظمة الصهيونية أنها الأرض التي وعد الله بها شعب إسرائيل، وكان “وايزمان” يقول دوماً: “أننا لسنا قادمون إننا عائدون”.

لكن في الحقيقة إن ما يوحي بالهامشية أكثر من المركزية في صنع تاريخ حضارات المنطقة والتأثير على ثقافتها؛ هو عدم وجود أي ذكر منذ تحوتمس – على سبيل التمييز – لقبائل أو أسباط “إسرائيل”، وذلك حتى ظهور اسم مشكوك في صحة ترجمته حتى اللحظة في لوح حجري يعود لـ”مرنبتاح” ابن “رمسيس الثاني”؛ ووثيقة حربية في عهد “سيتي الثاني” حفيد “رمسيس الثاني” التي ذكرت اسم يرجح أنه سبط “أشير” وكتبت “أ س ر”. أما ما عدا ذلك فاللفظ السائد في الوثائق والذي يدل على العبرانييين “Hebrews” – أي سكان الصحراء الرحل الذين عبروا نهر الفرات، ومن بينهم إبراهيم عليه السلام- ” الـعابيرو” دون ذكر تصنيف أو بطون لتلك القبائل، كبني هاشم وبني عبد مناف وبني حرب عند العرب.

وتدلنا وثائق “تل العمارنة” في عهد إخناتون عاشر ملوك الأسرة 18 وهي أشبه بمكاتبات رسمية بين الملك وأمراء المدن خاصة بالأحوال السياسية والاجتماعية في المدن الفلسطينية الواقعة تحت الحكم المصري، على أن مراكز الحكم والإدارة كانت في السهول الغربية بالقرب من الساحل ومركزين فقط في الجبل الأوسط وهما القدس ونابلس الحاليتيين، وكان تجول البدو واستيطانهم حول ينابيع الماء في الجبال حول المدن وصحراء النقب؛ وهو ما يثير الانتباه حول عدم قدرة البدو وتجمعاتهم الهزيلة في الجبال في تلك العصور على التوغل في المدن ذات الكثافة السكانية والتنظيم الإداري والمدنّية الراقية.

وللعلم أن القوائم الجغرافية بدءاً من مسار حملات تحوتمس خاصةً الحملة الأولى التي صورتها المصادر المصرية بإسهاب أحصت مافاق ال١٥٠ تقريباً من المواقع والأسماء القديمة للمدن الكنعانية والميتانية والفينيقية والأوغاريتية وغيرها في فلسطين ولبنان وسوريا حالياً.

نقطة نظام

انطلاقاً من ممارسة حقوق السيادة على الأرض بناء على السند “التاريخي” إلى جانب سياسة الأمر الواقع والأمر القائم. فإن الصهيونية إذا فشلت في إثبات المزاعم المثيرة للسخرية بأن العبرانيين هم بناة الحضارة الفرعونية؛ فستسعى بكافة الأشكال لأن تثبت أن أي شعب غير المصريين هو من بنى حضارة وادي النيل حتى وإن كانوا فضائيين أو من الشعوب الأسطورية كشعب أطلنطس.

وكل هذا للوصول إلى عدم الأحقية التاريخية للمصريين الحاليين وإظهارهم كمغتصبين للأرض بناء على تاريخ البلد الذي يشير إلى أنهم لم ينتموا إليها يوماً. تماما كما يحاولون نفي أي وجود لأسلاف الفلسطينيين “الكنعانيين والفلستيين القدامى” على أرض فلسطين.

مع العلم أن وعد “ياهوى” – إله الإسرائيليين دون غيرهم من الجنس البشري – المذكور في التوراة والذي تكرر أكثر من أربع مرات بامتلاك الأرض انطلاقاً من حيث وطئت قدم إبراهيم عليه السلام وولده إسحاق -دون الاعتراف بولده الأكبر إسماعيل- على الضفة الغربية لنهر الفرات وحيث أي مكان تجول فيه الآباء مابين النيل والفرات.

فيديو مقال أقاصيصهم وأرشيفنا

أضف تعليقك هنا