عشريناتي لن تعود

عبارة سمعتها وأنا في أول العشرين ” عشريناتي لن تعود“، ذاك السن الذي يسجن فيك نفسك فلا تتخيل يوما أن تخرج منه إلى الثلاثين وهو ذات المنطق الذي سيجعلك لا تتخيل أبدا أن تتجاوز الثلاثين إلى حد الأربعين، وهو بدوام الحال لا يختلف مطلقا عن الحالة التي سوف تنتابك حينما تفكر أنك ستعيش يوما حتى تصل إلى فئة الستينات. وعند الستين سيقرر جماعة من اللهاة أنك لم تعد صالحا للعمل، وأن مدة صلاحيتك قد انتهت وكفى عليك ذلك حيث المعاش.

أعتذر عن استرسالي في الحديث فالأصل في الموضوع هو سن العشرين، ولكن الإنسان هو من يقرر كم عمره وكم سنة قد عاش، ليست سنوات الدنيا ودقائق الساعة هي التي ترسم جدول حياتك، وإنما الروح التي تحويها بين جنبات ضلوعك هي وحدها التي تقرر وتحدد خارطة حياتك.

عندما عرفت أن عشريناتي لن تعود

حينما سمعت من عدة سنوات عبارة أن “عشريناتي لن تعود” انقبض قلبي، وسألت نفسي إذن ماذا بعد أن تنقضي عشريناتي، هل سأموت، قطعا سأموت، وبهذه السذاجة كنت أعتقد أن سن العشرين هو حياة بعدها موت، ولم يطمأن قلبي إلا حينما سمعت من البعض أن لمرحلة ما بعد العشرين حلاوة، وإن كانت حلاوة من نوع خاص حيث المسؤولية والاستقرار، لم اتفق كثيرا مع من قالوا أن عودة العمر بنا إلى الوراء ستغير حاضرنا كثيرا، فلك أن تُغير الآن إن أردت ذلك. ولكن لنتفق أن أغلب الناس لا ترغب في تجاوز مرحلة العشرين مطلقا وأسفي في القول أن بعضهم لا يتمنى لا عشرين ولا غيره، ربما سيكون جيدا إن أعادوا النظر في معنى حياتهم حيث الهدية التي يعطينا الله إياها كل يوم.

طبيعة سن العشرين

سن العشرين تاريخ ميلاد جديد فقبله أنت طفل لم تعرف الحياة بعد، وفيه تحدث لنا أغلب تغيرات الحياة الشخصية والنفسية والعملية، وتلك الحياة العملية هي أصعب ما في الحوار، فهي حياة جديدة ومخيفة إلى حد ما، تدخلها وتنخرط في تفاصيلها وتصطدم بمواقف وأشخاص لم تكن تظن يوما أنهم على قيد الوجود، فالسذاجة والبراءة التي عشت بها حوالي عشرين سنة لن تُجدي هنا، ولن تشفع لك طيبة قلبك وبياضه، فعالم المال والمصالح لا يفقه بياض اللون وإنما يعي فقط أن المصالح تتصالح، وأن الربح واجب وأنك أداة من أدوات الربح، وإن لم تستطيع أن تربح فمكانك في عالم آخر حيث الموكوسين.

في سن العشرين سترى أبشع الصور وسترى أرقى وأنبل المشاهد، فأنت في عز الرؤية وقمة الاستيعاب، أنت في أكثر سن للشعور بالمعنى، وأنت أكثر إنسان على وجه الكرة الأرضية يُقدر قيمة للأشياء، فلو صح أن اُسمي سن العشرين اسما فلن يكون هناك أفصح من أنه سن المعنى “Age of meaning”.

في العشرينات أنت أمهر طباخ قادر على تذوق حلاوة ومرارة كل شيء، سيكون للدنيا طعم فريد عندك، حينما يسعد الناس العاديين ستكون الابتسامة كفيلة بأن تعبر عن فرحتهم وهم في نظرك مساكين فأنت يا صديقي تفرح من أعماق قلبك والفرح يجعلك ترقص والعالم كله يغني لك، وحينما يحزن البشر من دون العشرين تكون الدمعة معبرا كافيا عن حزنهم وهم في نظرك قساة القلوب فأنت تبكي بكاءا حارا وتحزن بقدر ما تكتفي ففي حزنك عالم لا يفهمه البشر.

إن مر عليك سن العشرين ولم تعش ما أقول فقد فاتك الكثير، وربما فاتك كل شيء فلتحاول أن تسترجعه، ربما بداية العشرينات صعبة وصادمة في بعض المواقف لكنها ستعلمك كثيرا، وستخرج منها واعيا بشكل كافي ومؤمنا بأنها ليست وحدها عشريناتك التي ستمر من دون عودة، وإنما كل ما سيمر ويرحل لا رجعه له وأنها رحلة قصيرة يختلف فيها اسمك فحينا عشرين وحينا ثلاثين وحينا أربعين و… في النهاية ليس منهم سن سيعود حتى ولو أعجبك.

الميزة النفسية التي ستخرج بها من سن العشرين أنك ستكون قادرا على أن تخبر نفسك كم أنت سيئ في جوانب كثيرة، وإلى أي حد كنت مريضا يوما ما وأنك ارتكبت خطايا لا بد أن تكفرها طوال عمرك، وستعرف أنك لست ملاكا كما ظننت من قبل، وأنه لا مانع من الخطأ مادمت حيا.

سأشتاق لعشريناتي

حينما تمر عشريناتي سأفتقد كثيرا هذا المعنى وسأفتقد مذاق الحياة، وربما سأقتنع كما علمونا في المدارس أن الماء لا طعم له، وأن الهواء لا رائحة له، بعد أن كنت في عشريناتي مؤمنا ان الماء طعمه حياة وان الهواء رائحته حرية.

لماذا لا يكون عمرك كله عشرين؟

إذا كنت تفضل سن العشرين وتخشى رحيله وربما قد رحل فعلا وتشتاق عودته، فلك فقط أن تستعيد المعنى الذي يغير نظرتك لكل شيء، ستجد ذاك المعنى في كل شيء بسيط، لا تحتاج سوى أن تتأمل قليلا لتدرك، أن تعيش كل حياتك عشرين ومهما مر عليك من عشرين فلا تشعر ولا تعبأ بالرقم فهو مجرد عداد يحاول أن يُحصي لك عدد أنفاسك ليخبرك أن الصباح قد أتى فيدفع عقارب الساعة صراخا في أذنك أن تستيقظ فها هو وقت العمل، وفي المساء يخبرك أن الوقود على وشك النفاذ، ويجب أن تستلقي على فراشك لنوم مكدر يعقبه عمل لا تحبه.

عجبا فلمَ لا تستيقظ وأنت تحب الصباح، وتنام وأنت تنوي إنجازا جديدا يوم غد، هكذا سيضحي المعنى وبهذا لن تنقضي عشريناتك مطلقا. رجاء لا تجعل رقما أصما يحدد وجهتك في الحياة، ولا تصدق قولهم بأن عشريناتك (السعادة) لن تعود، كن مؤمنا أن سعادتك في معنى من تكون وليس كم عمرك يكون.

فيديو مقال عشريناتي لن تعود

أضف تعليقك هنا

إيمان النفيلي

إيمان النفيلي
كاتبة حرة، باحثة في مجال اقتصاديات السعادة ومدربة بالنقابة العامة لمدربي التنمية البشرية.