التأثير الموريسكي في الحضارة المغربية (ج1)

إن العلاقة بين المغرب والأندلس هي علاقة مترسخة فرضها الواقع الجغرافي، فلا يفصل إلا ممر بحري ضيق بين العدوتين الشمالية والجنوبية كما تتحكم فيها الراوبط الضاربة في أعماق التاريخ الإسلامي، إذ بدأت مع الخلافة الأموية وتعمقت مع الوحدة السياسية التي أرسى دعائمها المرابطون ثم توطدت مع توالي السلالة الحاكمة في المغرب ،و منذ تلك الفترة انصهر مصير الطرفين معاً في لحمة مقدسة قوامها المصير المشترك والروابط الدينية.

ولقد ظل المغرب محافظاً على هذه اللحمة المقدسة، وملتزماً بوصايته على الأندلس  حتى في أحلك فتراته مانحاً كل أشكال الدعم لأخوانه في الدين بالعدوة الشمالية، من منطلق واجب الجهاد ونصرة المستضعفين وفي سبيل الحفاظ على الوجود الإسلامي في الأندلس، وجعلها جبهة متقدمة لصد خطر الهجمات المسيحية على العالم الإسلامي.

وحتى في حالات التراجع والهوان الذي أصابه أواخر العهد الموحدي بعد هزيمة العقاب الساحقة سنة 1212م أمام الجيوش المسيحية، فقد كانت أبوابه دوما مشرعة في غمرة حروب الاسترداد المسيحي لاستقبال موجات اللجوء الأندلسي، بلغت ذروتها مع السقوط  المفجع لمملكة غرناطة الاسلامية سنة 1492.

المحنة الموريسكية

تشتق تسمية الموريسكيين من كلمة “المور” التي أطلقت على سكان شمال إفريقيا خلال العهد الروماني، فهذه الكلمة الإسبانية هي تصغير لكلمة “موريسكوس” وتعني المغربي الصغير وتحمل دلالة عن الاحتقار الذي كان يكنه الإسبان لرعايهم من الأندلسيين المسلمين حيث اعتبروهم مجرد أحفاد للغزاة المغاربة الذين احتلوا إسبانيا القوطية فيما مضى، وبالتالي نفي انتمائهم للوطن الأم.

وارتبط سياق تداول هذه التسمية بفترة حرجة بعد سقوط غرناطة آخر الممالك الإسلامية وتسليمها للملكان الكاثوليكيان “فرديناند وإيزابيلا”، منهياً بذلك قرابة 8 قرون من الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الأيبيرية، إذ شهدت تزايد وطأة التحرشات والمضايقات المسيحية بحق الأقلية الأندلسية المسلمة التي فضلت خيار البقاء والتشبث بتراب الوطن على الهجرة نحو أرض الإسلام.

ولقد أثبتت العقود الموالية أن هذا الخيار الذي تمسك به الأندلسيون والذي كان بدافع الأمل في إمكانية التعايش مع الأغلبية المسيحية كان خياراً غير صائب على الإطلاق،  فعلى الرغم من أن معاهدة الاستسلام التي وقعها الأندلسيون مع الإسبان نصت على عدة شروط أهمها: التعهد بحماية الممتلكات، وضمان حرية ممارسة الشؤون الدينية واحترام الخصوصية الثقافية إلا أن ذلك تم نقضه والتنصل منه لغياب أي ضمانات وسيادة منطق الكراهية والتعصب.

تحت نشوة النصر الغامر بعد القضاء على آخر الكيانات الإسلامية بصفة نهائية من شبه الجزيرة الأبيرية، وظفت  الأوساط المسيحية الكنسية التي تملكتها روح الحروب الصليبية كل ثقلها السياسي والروحي لتنصير الأندلسيون بالقوة واجتثات ثقافتهم العربية الإسلامية، والتي اعتبروها عائقاً أمام بناء الهوية الإسبانية المسيحية وترسيخ وحدتها الدينية والثقافية ثم التخوف من احتمالية كونهم طابور خامس، ووجود اتصالات لهم بالأقطار الإسلامية المعادية لإسبانيا في شمال إفريقيا أو العثمانيين.

وفي أوج حقب التعصب الديني الذي ميز سلوك السلطة والمجتمع بعد الوحدة السياسية بين “إيزابيلا” القشتالية و “فيردناند الأرغوني” في إسبانيا، تنامت نزعة التعصب للعقيدة الكاثوليكية لحمايتها من المهرطقين من أتباع الديانات الأخرى، فعانت الأقلية الأندلسية المسلمة جراءها من اضطهاد وقمع شرس أججتها فشل المحاولات الودية لادماجهم، وبهدف إرغامهم على التنصر ومحاربة كل عناصر ثقافتهم الخاصة فصدرت عدة مراسيم ملكية تمنع الأسماء العربية والشعائر الإسلامية من أداء الصلوات الخمس والذبح بالطريقة الاسلامية وحرقت الكتب الاسلامية والعربية خاصة المصاحف كما حُظرت العادات الإسلامية في الزواج والدفن والختان وارتياد الحمامات العامة وارتداء الملابس الأندلسية الزاهية، وتم إجبار النساء على خلع النقاب والخروج سافرات وكل ذلك لتدجين الأندلسيين وفصلهم عن إرثهم الحضاري الاسلامي وخلق مجتمع إسباني متجانس دينياً وثقافياً لا وجود فيه للأقليات.

تقية في مواجهة محاكم التفتيش

أمام اشتداد حملات القمع والاضطهاد وتوالي استصدار مراسيم التنصير القسري التي قوضت أي إمكانية للتعايش والتسامح مع الأقلية المسلمة، فبعد أن تم تخييرهم بين التنصر أو الطرد اضطر الأندلسيون خوفاً على مصيرهم وتشبثاً بدينهم إلى الاتصال سراً بفقهاء أقطار شمال إفريقيا للاستفتائهم حول هذه النازلة الأليمة التي حلت بهم و سبل مواجهتها.

و ان من أهم الفتاوى التي حصلوا عليها لمواجهة التنصير المفروض عليهم؛ فتوى مفتي وهران “أحمد بن جمعة” الذي حثهم على تمسك بدينهم وأجاز لهم ممارسة التقية اي إخفاء هويتهم الدينية والادعاء بموالاة النصارى في شعائرهم الدينية، فبدأ الأندلسيون بتصنع اعتناق النصرانية باتخاذ التسميات المسيحية الإسبانية إلى جانب أسمائهم العربية كما باتوا أكثر حرصاً على حضور قداسات الكنسية وتعميد أبناءهم وفق الطقوس المسيحية مع التمسك في الوقت نفسه على تعاليم الإسلام من خلال الصلاة في البيوت ليلاً فرادى وجماعات وصيام رمضان وعدم تفويت الاحتفال بالأعياد الإسلامية، وتنظيم حلقات دينية لقراءة القرآن والاستماع للخطب الدينية وكل ذلك في سرية تامة.

ومن بين الوسائل التي ابتدعها الموريسكيين للحفاظ على تراثهم الحضاري وعناصر ثقافتهم الخاصة هي “الالخميادو” وهي لغة خاصة إسبانية كتبت بالحرف العربي و استعملت للحفاظ على التراث الديني والأدبي، مما يوضح مفهوم الهوية لدى الموريسكين كان متجذراً، لم يفلح الاضطهاد الممارس الازدواجية التي طبعت حياة الأندلسيين بين اصطناع المسيحية وممارسة الإسلام في إفقادهم الأمل؛ بل كان عاملاً أجج نزعتهم المعروفة في الثورة والاستقلال.

قاد القمع الشديد الذي ضيق على الأندلسيين حياتهم اليومية، وجعلهم في أدنى الطبقات الاجتماعية إلى اندلاع عدة انتفاضات وثورات أهمها ثورة “جبال البشرات” (1568-1570)، التي قادها أندلسي سليل للأسرة الأموية وهو “فرناندو دي بالور” الذي سمى نفسه “محمد بن أمية”، استطاعت هذه الانتفاضة العارمة التي يمكن أن نسميها بمصطلحات عصرنا الحرب الأهلية، أن تكبد جيوش إسبانيا التي كانت تتجه في ذلك الوقت الى أن تتحول الى أكبر قوة عسكرية في العالم خسائر فادحة، بفعل عوامل شتى أهمها توظيف الخصائص الجغرافية والتحصن بالتضاريس الجبلية الوعرة والمنيعة التي أعاقت تحركات الجيش الإسباني المدجج بالعتاد العسكري الثقيل ثم شراسة المقاومة الأندلسية المدفوعة بروح قتالية وجهادية عالية، انخرطت فيها كل الطبقات الاجتماعية وكل الفئات العمرية من شباب وشيوخ ونسوة.

إلا أن قدر الأندلسيين لم يكن رحيماً حينما كتب على انتفاضتهم الفشل الذريع بسبب تضافر العديد من العراقيل، منها الصراعات الداخلية بين الأندلسيين خاصة على مستوى القيادة والتنظيم ثم ضعف التسليح وغياب الدعم العسكري والمالي من الأقطار الإسلامية على الرغم من رسائل الموريسكيين التي توالت عليها، فالمغرب عانى وقتها من احتلال ايبري لسواحله كما شهد صراعاً حاداً بين الوطاسيين والسعديين، بينما لم تكن النجدات العثمانية كافية لتغيير موازين القوة في شبه الجزيرة الايبرية.

ترتب عن الفشل الذريع في سياسات تحويل الأندلسيين إلى نصارى حقيقيين وتسرب أنباء عن ممارستهم للشعائر الاسلامية سراً، إطلاق السلطة الإسبانية حملات للتتبع الخارجين عن العقيدة المسيحية ومعاقبتهم عرفت بمحاكم التفتيش، وهي في الأصل هيئة أمنية تشبه أمن الدولة أسست من قبل الكنيسة البابوية في روما لتتبع الخارجين عن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية من البروتستانت واليهود، واستطاع الاسبان إقناع البابا ليحدث فرعاً لها في إسبانيا لقمع الأقلية الأندلسية المسلمة حيث شكلت ما يقارب 82% من ضحاياها، وتعتبر الشواهد التاريخية أن ما اقترفته من تعسفات ومظالم ليعد أبشع الجرائم التي ارتكبت في تاريخ البشرية.

سياسة الكنيسة الكاثوليكية ضد الموريكسيين

ففي كتاب الدين والدم يسرد المؤرخ “ماتيو كار” بعض فصول من مآساة التي تعرض لها الموريسكيون من محاكمات صورية وتعذيب، للحصول على اعترافات باعتناق الديانة الإسلامية بوسائل وحشية منها العروس الحديدية، حيث كان يحشر المتهم وسط هيكل حديدي مملوء بالمسامير، ثم يضغط عليه حتى تغرز في جسمه لينزف، وبعد الإدانة كان يتم إعدام المتهمين عبر الخازوق أو الحرق، وحتى في حالة تبرءة المتهمين فقد كانوا يفقدون كل ممتلكاتهم التي تصادر لتمويل تكاليف المحاكمات الطويلة.

وتعاظمت المآساة أكثر مع بدأ عملية التطهير العرقي حينما عمد “فرديناند الثالث” إلى إصدار مرسوم يقضي بطرد كل الموريسكيين و إجلائهم عن إسبانيا سنة 1609 و ترحيلهم إلى البلدان الإسلامية، وكان هذا القرار الملكي مدفوعاً بضغط كبير من الطبقات الشعبية التي رأت يد عاملة ماهرة ورخيصة التكاليف مزاحمة على فرض العمل و كذلك معارضة الكنيسة الكاثولية لإدماجهم لكونهم أقلية تنمي إلى حضارة شرقية إسلامية تشكل تهديد محتمل للنقاء الديني والعرقي الخالص لإسبانيا الغربية المسيحية.

ويعتبر العديد من المؤرخين أن طرد الموريسكين من عوامل التي ساهمت في ذلك الانحطاط والتراجع الخطير الذي أصاب إسبانيا بعد أن فقدت نخب فكرية ويد عاملة ماهرة بل اعتبرها آخرون مثالاً عن العواقب الوخيمة حينما تنحاز الدولة إلى صف التطرف الديني أو القومي عوضاً عن ضمان مصالحها الاقتصادية، وإذا كان للتهجير الموريسكي آثار جسيمة على المجتمع والاقتصاد الإسباني، فعلى الضفة الجنوبية من حوض البحر الأبيض المتوسط كانت عاملاً مهماً في تشكل الحضارة المغربية وانبعاث ذاتها الحضارية و إغنائها برافد ثقافي غني، ويكفي للدلالة على ذلك المكانة المهمة التي تحظى بها الموسيقى الأندلسية في المغرب.

فيديو مقال التأثير الموريسكي في الحضارة المغربية (ج1)

أضف تعليقك هنا