الثقافة والثقافة المجتمعية جدل العام والخاص

إن العلاقة بين الثقافة والثقافة المجتمعية هي: علاقة قائمة على أساس مبدأ العام والخاص، ومعنى العام في اللغة هو: <<الشامل، من عمّ يعم عموماً وعاماً. يقال: عمهم بالعطية. أي: شملهم.>>(1) وأما الخاص فهو: في اللغة ما يقابل العام. والتخصيص لغةً: الإفراد.

الثقافة

والثقافة بوجه عام هي: ذلك النسيج الكلي من الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد والاتجاهات فـي مجتمع ما.  وهي كذلك القيم من مقبول ومرفوض في أي مجتمع. وهي أساليب التفكير وأشكال السلوك والعادات وطريقة الملابس. و كل ما ينتج منها من ابتكارات فـي حياة المجتمع. كم أن الثقافة يتعلمها كل عضو من أعضاء المجتمع في عملية تسمى “التنشئة الاجتماعية”.

أولاً: معنى الثقافة لغةً واصطلاحاً:

أ: معنى الثقافة لغةً:

لقد ورد في معجم مختار الصحاح: << ثقف الرجل من باب ظرف صار حاذقاً خفيفاً  فهو ثقف مثل ضخم فهو ضخم ( ثقف) ومنه المثاقفة وثقف كعضد والثقاف ما تسوى به الرماح وتثقيفها تسويتها وتثقفه من باب فهم صادفه وخل ثقيف بالكسر والتشديد أي حامض جداً مثل بصل حريف >> (2)، فالثقافة في اللغة العربية هي من ثقف بمعنى حذق وفطن.  وأما Culture في اللغات الأوروبية فهي من كلمة << كلتور Caltura  اللاتينية بمعنى الفلاحة والتهذيب، ويستخدمها البعض بمعنى الحضارة، وإن كانت الحضارة هي الثقافة في مرحلتها المتقدمة، حيث الحضارة من الحضر والتحضر، تفيد التمدين>>(3)

وقد استمرت كلمة Culture تفيد معنى الإنماء والحرث، حتى نهاية القرن الثامن عشر، ثم بدأ هذا المفهوم يكتسب معنى جديداً يشير إلى المكاسب العقلية والأدبية والذوقية، وهو يقابل في اللغة العربية مصطلح الثقافة.

ب: معنى الثقافة اصطلاحاً:  

تعرف الثقافة اصطلاحاً بأنها المعرفة التي تؤخذ عن طريق الإخبار والتلقي والاستنباط، كالتاريخ واللغة والأدب والفلسفة والفنون من وجهة نظر خاصة عن الحياة، فالثقافة بمعناها العام هي مجرد المعرفة النظرية، فالثقافة هي الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات. ولقد عرف المفكر الفرنسي “روجيه غارودي” الثقافة بقوله:<< هي كل ما نضيفه إلى الطبيعة، وكل ما يصنع منا إنساناً وليس مجرد حيوان أرقى أي يصنع من شيئاً آخر غير الحيوان: إنه ما نتعالى به>>(4)

وإذا أردنا تتبع تطور مصطلح الثقافة عبر العصور، فسوف نلحظ أن كلمة ثقافة كانت تعني لدى اليونان الاهتمام الموجه إلى حقل نظري بعينه، وقد استمر استخدامها بهذا المعنى طيلة العصور القديمة والوسطى، وحتى مطلع القرن التاسع عشر، وفي بداية عصر الأنوار، استخدم الفيلسوف ورجل القانون ” صمويل فون فندرون ” كلمة (ثقافة) لأول مرة بمعنى قريب من ذلك الذي نستخدمه اليوم بهدف التمييز داخل النشاط الإنساني، بين ما هو طبيعي فطري يعود إلى أسباب حيوية، وبين ما هو ثقافي مكتسب.

وهو العمل الذي طوره الفيلسوف الألماني  “عمانوئيل كانط”  حيث أنه عرف الثقافة على أنها مجموعة من الغايات التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقاً من طبيعته العقلانية، وبهذا تكون الثقافة في نظر ” كانط ” أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه على مستوى الوجود الإنساني، وقد تلاحق بعد ذلك عدد من التعريفات التي أغنت المفهوم كتعريف  “هيردر” الذي عرف الثقافة بأنها الصورة أوالهيئة العامة لحياة شعب أو أمة، وقد عرفها المؤرخ الإنجليزي ” أرنولد توينبي ” في كتابه (الثقافة والفوضى ) بأنها محاولتنا الوصول إلى الكمال الشامل عن طريق العلم بأحسن ما في الفكر الإنساني مما يؤدي  إلى رقي البشرية. ولم يتردد الفيلسوف الأمريكي  “جون ديوي”  من تأكيد أن الثقافة هي التهذيب ومحاولة الوصول إلى الكمال وأنها جماع المعرفة الإنسانية، فهي ثمرة تفاعل الإنسان مع البيئة.

أشهر تعريفات الثقافة

ولعل من أشهر التعريفات لمفهوم الثقافة وأكثرها ذيوعاً هو تعريف الانثروبولوجي الانجليزي “إدوارد تايلور” والذي قدمه في كتابه  “الثقافة البدائية”  والذي يذهب فيه إلى القول:<< الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والقانون والأخلاق والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان، بوصفه عضواً في  المجتمع>>(5)

ثم بعد ذلك طور “تولكت بارسونز” وهو من أبرز علماء الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة الأمريكية  مفهوم الثقافة ليصبح نظاماً من الرموز المشتركة، المكتسبة بالتعلم، التي تضفي على خبرة الإنسان أهمية خاصة، وتزوده بإطار ذي معنى يوجهه في تكيفه مع نفسه ومع الآخرين وباختصار شديد تكمن الثقافة في نظر ” بارسونز” في أنظمة رموز منظمة تعمل على توجيه الفعل والعناصر الذاتية الشخصية الفاعلة، والأنماط المؤسسية للأنظمة الاجتماعية. << وفي الربع الأخير من القرن العشرين لوحظ ميل إلى التركيز على المعنى الأنثروبولوجي ثم السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ذهب هذا المفهوم مذاهب وصفية وتحليلية وإحصائية وتنقيبية بعيدة جداً، وركز تركيزاً شديداً على التصرفات الفردية والاجتماعية والمجموعات المحلية. وعلى المناحي السياسية، مع إصرار على ربط الثقافة بعادات الناس وسلوكهم، وطرز عيشهم، والعناية بالظاهرة المشتركة لدى الفئات الاجتماعية والمستويات المختلفة للجمهور، وتتضح هذه الاتجاهات في الفهم الميداني للثقافة من خلال كتاب جديد صدر بالعربية في منتصف عام 1997م ويتضمن ترجمة لكتاب أمريكي عنوانــه نظريــة الثقافة Cultural theory، يمكن أن يمثل هذه المجادلة بين مفهومات الثقافة، وذلك من خلال التصنيف التالي لعناصر الثقافة:

1ـ التحيزات الثقافية

2ـ العلاقات الاجتماعية

3ـ أنماط وأساليب الحياة>>(6)

أما في فرنسا.. ففي آخر طبعة لمعجم الأكاديمية الفرنسية الصادرة ما بين عامي 1932ــــ 1934م، فقد أعطت الثقافة التعريف التالي:<< كلمة الثقافة تعني مجازاً الجهد المبذول لتحسين العلوم والفنون وتنمية المواهب الذهنية ومواهب الفكر والذكاء >> (7)

وأخيراً فقد عرفها جميل صليبا بقوله: << إن الثقافة هي تلك المجموعة المعقدة من المعارف والتقاليد وكل القابليات والتطبيقات ( أنماط السلوك ) التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما والتي أنشأها هذا المجتمع في عملية تطوره التاريخية، إنها طريقة حياة الناس وكل ما يملكونه ويتداولونه اجتماعياً >> (8)

ثانياً: أنواع الثقافة: 

تُصنّف الثقافة إلى نوعين رئيسييّن، وهما:

1: الثقافة المادية: ويُعتبر العنصر البشري في هذا النوع من الثقافات هو العنصر الأساسيّ في تكوينه، وذلك بإقامة المباني والمنشآت، وتطوّرات ملموسة.

2:الثقافة اللاماديّة: وهي عبارة عن العادات والتقاليد والمفاهيم والقيم والاتجاهات والاعتقادات التي تؤمن بها شعوب معيّنة، ومجتمعات دون غيرها.

تصنيفات الثقافة حسب الموضوع

وكما يمكن تصنيف الثقافة إلى أنواع أخرى، فلقد تعددت أنواع الثقافة باختلاف وتعدد الموضوعات التي تتناولها، فمنها ما يركز على السياسة، ومنها ما له علاقةٌ بالمجتمع ومنها ماله علاقة بالاقتصاد …إلخ، ونذكر من الأمثلة على أنواع  الثقافة :

1:الثقافة الاجتماعية: التي تتناول المجتمع والناس وعادات وتقاليد المجتمعات وسلوكياتهم .

2:الثقافة السياسية: والتي تشتمل على معرفة كل التفاصيل والنظريات والظواهر السياسية وأخبار الدول والبلدان والحدود والعلاقات الدولية وغيرها.

3:الثقافة الاقتصادية: التي تتناول موضوعات الاقتصاد والشركات والاستثمارات والبورصة والعملات والأسهم وغيرها.

4:الثقافة التاريخية: التي تركز على الأحداث الماضية والحضارات الغابرة والقامات التاريخية المهمة والأماكن الأثرية وغيرها.

 5:الثقافة الدينية: التي تشمل كل موضوعات الدين من عبادات الصلاة والزكاة والحج وغيرها بالإضافة إلى الأخلاق والمعاملات والأعياد ونظام الحياة.

ثالثاً: الثقافة المجتمعية:

وبالعودة إلى الثقافة المجتمعية نجد أنها: نوع من أنواع الثقافات التي تعكس ظروف وبيئة الشعوب، ويقال عنها “مجتمعية” لأنها تضم الإطار السلوكي والقيمي للمجتمع… إن “الثقافة المجتمعية ” تبين الارتباط القوي بين الثقافة والمجتمع لأنها تعبر عن تاريخ وتطور المجتمعات وتعكس النشاطات الموجودة فيها.

والثقافة المجتمعية هي نتاج المجتمع نفسه، من خلال ما يقوم به أفراد المجتمع ويفكرون به، فالمجتمع تكوين يتم التعرف إليه عبر ثقافته المجتمعية كما يرون علماء الاجتماع بغض النظر عن تطور هذه الثقافة أو تخلفها ولذلك هناك لغة محددة اسمها التكوين المجتمعي ومنتجاته الفكرية والثقافية وقيمه وعاداته وتقاليده والتي نستطيع من خلالها أن نشّخص مجتمعاً بعينه.

وعلى الرغم من أن التغيير قانون يطال الأشياء المادية والمنتجات الفكرية ومنها بطبيعة الحال الثقافة، إلا أن تغيير ثقافة المجتمع لا يمكن أن يحدث خلال وقت قصير؛ بل ربما يحتاج للأزمنة طويلة لكي يحدث لأنّ الثقافة الاجتماعية يتمّ توارثها عبر الأجيال، وقد يكون جزء من الثقافة الاجتماعية مستورداً من ثقافات أخرى، كما هو الحال في معظم  المجتمعات، فبالرغم من المحافظة على العادات والتقاليد المتوارثة من الأباء والأجداد، تظهر العديد من الأمور الدخيلة على المجتمع نتيجةً لتطوّر الحياة وتداخل المجتمعات ببعضها البعض بسبب وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، وسهولة السفر والتنقل بين هذه الدول والمجتمعات.

وفي هذا السياق تبرز العديد من الأسئلة المحورية والهامة فيما يخص موضوع الثقافة المجتمعية مثل: كيف نبني ثقافة مجتمعية سليمة؟ ماهي مقاييس ومعايير الثقافة الصحيحة؟ ثم ماهي الوسائل والأدوات؟ ومن هي الجهات المعنية الذي يقع على عاتقها هذا البناء؟

رابعاً: المثقف والمجتمع:    

إن الحديث عن الثقافة والثقافة المجتمعية يأخذنا تلقائياً نحو الحديث عن المثقف والمجتمع، فالمثقف هو ابن مجتمعه كما أن ثقافة المجتمع هي نتاج أبناء المجتمع من المثقفين في شتى صنوف المعرفة.

وجماع القول: إن هناك علاقة جدلية بين الثقافة بمعناها العام وبين الثقافة المجتمعية، لا يمكن تجاهلها إذ أن العلاقة بينهما علاقة تبادلية وتكاملية، ولا تقتصر على علاقة الكل بالجزء والعام بالخاص، حيث يقدم كل منهما الكثير للأخر، كما أنه لا بد من حدوث التناغم والانسجام بينهما حتى تحدث عملية النهوض والتحول الحضاري، ومن ثم الوصول إلى التقدم والارتقاء الحضاريين. فالمجتمع هو الحاضنة التي تحتوي المثقفين، وهو المرتع الخصب الذي يمدهم بمقومات الإبداع وبأوليات المعرفة، وبالمقابل المثقف هو الذي يستطيع أن يستقرئ ماضي أمته، ويدرك ويستوعب حاضرها ويتنبأ بمستقبلها ويشخص علاتها ويقدم بناءً على ذلك كله، الحلول المناسبة للارتقاء بواقعها، ويستطيع أن يقدم الاستجابات المناسبة على التحديات التي تعصف بمجتمعه وذلك كلما واجه مجتمعه تحدياً ما أو أزمة معينة.

وقد بين لنا عالم النفس جان بياجيه هذه الفكرة حينما قال:<< إن المجتمع وحدة عالية أما الفرد فإنه لا يصل إلى ابتكاراته وأعماله العقلية إلا بمقدار ما يحتل مكاناً في تفاعل الجماعات، وبالتالي في إطار المجتمع ككل. إن كبار الناس الذين خطوا اتجاهات جديدة لم تكن إلا نتاج تفاعل وتركيب لأفكار أعدت في إطار تعاوني مستمر>> (9) وهذه الفكرة يؤكدها لنا العالم الفيزيولوجي “جيرارد” بقوله: << إن تصوراتنا المبدعة بكاملها ليست نتاج لدماغ إنسان معزول، بل لدماغ كان مرتبطاً بالتفاعل مع الناس الآخرين. >>(10)

وخلاصة القول: إن مسؤولية بناء الثقافة الاجتماعيّة هي مسؤولية جماعية تطال جميع أفراد المجتمع، ولكن في العصر الحديث وزمننا المعاصر أصبح دور المؤسسات بمثابة عصب الحياة وبالتالي، فإن المؤسسات الثقافية والتربوية والإعلامية يقع على عاتقها الجانب الأكبر في بناء ورعاية الثقافة بكل أنواعها وفروعها، ولاسيما الثقافة المجتمعية بوصفها فرع أساسي من فروع الثقافة.

المصادر والمراجع:

1: ابن منظور، جمال الدين محمد ، لسان العرب، ، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1955م،12/426.

2: بن عبد القادر، الرزاي محمد بن أبي بكر.(د.ت). مختار الصحاح، دار القلم، بيروت، ص84+85.

3: الحفنى، عبد المنعم.( 2000م). المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ط3، مكتبة مدبولي، القاهرة ، ص233.

4: غارودي، روجيه.( 2002م). كيف نصنع المستقبل، ترجمة: منى طلبة وأنور مغيث،ط3، دار الشروق، القاهرة.

5: بن عبد الحي، محمد.( 1992 م).  المثقف المنزلة والدور، مجلة المعرفة، العدد (347 )، وزارة الثقافة، دمشق،   ص 162.

6: محمود، حواس.( 2007م). واقع الثقافة العربية في عصر العولمة، مجلة المعرفة، العدد (521)، وزارة الثقافة، دمشق،  ص336.

7: عروسي، سهيل.( 2001م).  حوار الحضارات بين الواقع والطموح، دار الينابيع، دمشق،  ص21.

8: صليبا، جميل المعجم الفلسفي، الجزء الأول، المصدر السابق، ص 275+276.

9: روشكا، ألكسندرو.( 1989م). الإبداع العام والخاص ، ترجمة: غسان عبد الحي أبو فخر، سلسلة عالم المعرفة، العدد (144)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،  ص80.ِ

10: المرجع السابق، ص 81 .

فيديو الثقافة والثقافة المجتمعية جدل العام والخاص

أضف تعليقك هنا

د. زياد عبد الكريم النجم

زياد عبد الكريم النجم