لعبة الارتفاع

عندما كنت في السابعة كنت أراقب الأطفال من مثل عمري و هم يلعبون الكرة من شرفة بيتنا في الطابق السادس ، كنت أشاهدهم من هذا الارتفاع و هم يهرولون جميعا خلف كرة في جدية تامة .. أحدهم يسدد و أحدهم يصيح و الآخر يسب زميله في الفريق على فرصة هدف أهدرها ، كنت أتعجب من تلك الجدية ، الأمر بالنسبة لي كان سهلا للغاية رغم أنني لم ألعب الكرة يوما ما ، و لكنه كان حقا سهلا !

كرة ..

فقط كرة سأستحوز عليها .. سأمر بها من الجميع و سأودعها هدفا بين حجرين أو بين حذائين ، لم أجد الأمر صعبا مطلقا .. و حين تلقيت بفرحة عارمة موافقة والدتي علي أن أنزل أخيرا للشارع ، انطلقت بفؤاد يخفق لهؤلاء الأطفال و لتلك .. الكرة.

لم يعي عقلي الصغير وقتها ماذا حدث ، و لم تعي قدمي كيفية استلام أي كرة قادمة لي و لا كيفية تسديدها !

الأمر لم يكن بتلك السهولة التي كنت أراها من شرفة شقتنا في الطابق السادس !

و من هنا بدأ عقلي الصغير يتطلع لتلك اللعبة .. لا أقصد الكرة ،

و لكن أقصد لعبة أخرى مذهلة

لعبة الارتفاع ..

مرت سنوات قليلة .. و انتقلنا للسكن في برج .. تلك المرة كان الطابق الحادي عشر .. رأيت من شرفتنا الجديدة أن الارتفاع زاد و الأجسام تضاءلت .. الأمر فيزيائيا يبدو عاديا جدا ، و لكن فلسفيا كان مذهلا بالنسبة لي .. الارتفاع مجددا

العلو الذي أصبحت متيما به

تلك الرحلة المدرسية إلى برج القاهرة .. حينها لم أجد أن الأجسام تضاءلت و حسب ، بل تحولت لنقاط

أصبحت أرى البشر نقاط .. نقاط تتحرك ، و السيارات كحشرات تسير بينها فتفرقهم ، لم أستطع حينها أن أميز حشرة بي أم دابليو من حشرة شاهين أو حشرة 128 .. كلهم كانوا حشرات .. فقط حشرات تسير وسط نقاط

أمرا رائع !

أن تنظر للأمور من الأعلى فتدرك مدى تفاهتها هو حقا أمرا .. رائع

و من هنا بدأت اللعبة .. المذهلة

كنت أطأ بقدمي اليابسة صباحا و أنخرط بين الناس .. تلذذت بمراقبتهم ، و لم أتلذذ بمحادثتهم .. أردت فقط تأملهم من وراء حاجزا شفافا أراهم منه و لا يروني .. أسمع الحكاوي و أسجل الشكاوي ، أصور امتعاضهم و حديثهم الدائم عن المادة ، و عن المال

أو شابا مراهقا و حديثه الدائم عن فتاة لم يفلح في الوصول لقلبها

أدون و أسجل .. و أعود .. الطابق الحادي عشر .. و أنظر من الشرفة علي تلك الأجسام الضئيلة و أسترجع أحاديثهم عن .. اللا شئ

بالفعل .. لا شئ

أنتم نقاط .. فقط نقاط ، و تتنافسون من أجل .. فراغ

فكرة مرعبة !

فكرة شيقة .. أصبحت إدماني

لم أكتف بهذا القدر .. حاولت الارتفاع أكثر . حاولت بلوغ القمة ..

ظننت أني وصلتها حين خرجت بروحي خارج الغلاف الجوي و تطلعت للعالم فرأيته كرة زرقاء ضخمة.. كرة لم أميز فيها أحدا .. لم يصبح البشر هنا نقاط .. بل أصبحوا لا شيء ..

و لكن القمة لم تكن هنا ..

المجموعة الشمسية ..

حينها رأيت تلك الكرة الضخمة أصبحت ضئيلة جدا .. مثلها مثل تلك الكرة التي كنت أراقبهم يركلوها في طفولتي .. كرة ضئيلة و ضعيفة تابعة لنجم عملاق بأمكانه ابتلاع داخله مئة كرة مثلها ، و لكنه لم يكن بدوره عملاقا عندما وقفت علي حافة مجرة درب التبانة ، كان صغيرا وسط مليارات النجوم .. و هنا اختفت الأرض تماما .. و مع ذلك لم تكن تلك القمة.

بلايين من المجرات ، أصبحت الآن أراهم كنقاط منيرة في فضاء شاسع .. تلذذت حينها بمشاهدة الكون .. الكون و هو يتمدد أثر انفجارا عظيما هائلا ما زالت أثاره باقية بعد مليارات السنين .. الأمر كان ممتعا .. النجوم تولد و تشب و تشيخ فتموت و يتحول الضخم منها إلى ثقب أسود .. ثقب أسود يبتلع كل شيء .. حينها تساءلت.

كيف يكون الفراغ مثقوبا ؟

لعله لم يكن أساسا فراغ !

فزياء و فلسفة .. أنشودة رائعة عن نسيج المكان و سر الجاذبية ، التي لم تكن قوة سحرية مطلقا ، بل كانت مجرد التواء في هذا الذي ظنناه فراغا

تصميم رائع ..تصميم عبقري .. أيقنت نفسي حينها أنه من الجحود التام و الضلال المبين أن ننسب تلك الروعة إلى العشوائية .. أن نتجاهل أن تلك النسبية الهائلة منسوبة إلى قوة جبارة حكيمة صنعتها و أوجدتها و حركتها ..

رأيت في حلم نفسي ..

رأيتها تسقط و تداعي من حافة الكون إلي مجرتنا ، إلى شمسنا ، شاهدت الأرض و هي كرة ضئيلة تكبر شيئا فشيئاً و أنا أقترب ساقطا نحوها ، اجتزت غلافها الجوي ، رأيت اليابسة و المحيطات ، لاحت لي تلك النقاط مجددا و هي ما زالت تتحرك في حركة مستمرة ، و حينها كانت المفاجأة ..

رأيت نفسي نقطة مثلهم ..

حينها استيقظت .. حينها أدركت المغزى ..

كنت أطلع من الأعلى، و لكني لست الأعلى

لست أنا من يصدر الأحكام

تلك الكرة .. التي رأيتها لعبة سهلة و أنا في شرفتي في الطابق السادس ، و حين نزلت لألعبها لم أقدر على لمسها

أنا نقطة .. تماما مثلهم

هذا ما نسيته في رحلتي الشيقة

و بدأت رحلة أخرى .. تلك المرة كانت في الأسفل و ليس الأعلى

أردت أن أفهم تلك النقاط

أنسجة .. خلايا .. ذرات .. إلكترونات و بروتنات و نواة .. و طاقة

الطاقة تساوي مربع سرعة الضوء في الكتلة

درسناها جميعا في المدارس ، على أنها معادلة رياضية .. فقط رياضية

ولم نلتفت للفلسفة العظيمة في تلك المعادلة التي ربطت المادة بالطاقة

التي أعلنت بوضوح أن المادة هي تكتل للطاقة

و أن كل شئ .. أصله شئ

أمر رائع .. مذهل !

و لكنه لم يكن بالنسبة لي السر الأعظم

هناك سر رهيب .. بيننا نحن النقاط

لماذا يوجد الصالح و الطالح ؟

الجشع و القنوع ؟

النبيل و الخسيس ؟

ما تفسير تلك النفس البشرية ؟

و ما هي الروح ؟

حينها أدركت فقط أن تلك النقاط التي لا تمثل شيء .. أي شيء في فضاء واسع شاسع ..

هي أعجوبته المذهلة ..

و أنها فقط هي الوحيدة وسط تلك الأجرام الهائلة القادرة على اختيار حركتها و مصيرها

نعم ..

هي فقط من تستحق ذلك الاختبار الذي نعيشه

عدت إلى بيتي القديم ، وقفت في شرفة الطابق السادس ، و شاهدت أطفالا غيرهم يلعبون الكرة ..

تبسمت و هتفت مشجعا لطفل صغير بينهم لم يكن يستطيع أن يلمس الكرة.

فيديو مقال لعبة الارتفاع

أضف تعليقك هنا