غربةُ ألمٍ…

غرفة غسيل الكلى

في غرفةٍ معتمةٍ رغم الإنارةِ، باردةٌ رغم الدفء، وجافةٌ رغم التفاف المحبين، امتلأت غرفة غسيل الكلى بأطفال لا يتعدى أكبرهم سن الخامسةَ عشر؛ يقبعون على أسرةٍ وأجسادهم متصلةٌ بأجهزة تُخيف من يراها لأول وهلةٍ، خراطيمٌ وأسلاكٌ، صناديقٌ بلاستيكية وأكياسٌ. باتت تلك الغرف سكنَ الأطفال المُوجع، يتركوها يوماً ليعودوا إليها بعد يوم آخر، يمضون ساعات بلا متعة، فحياة الطفولة اندثرت؛ ليستوطن البؤس وجوههم.

صمتٌ رهيبُ يجوب الغرفة رغم ضجيج الأجهزة التي تحاول تطهير الكلى مما يعكر صفوها؛ ألمٌ ونضحٌ من المآقي لا يشفي غليل المرار والشفقة، وجعٌ لا يعرفه إلا من عانى ويلات تجربة انتظار الخلاص من أمرٍ لا خلاصَ منه.

جلستْ بجوار أيمن طفلها الذي لم يتعدَّ العاشرة من عمره، أرغمته وحشية الغسيل على ترك مقاعد الدراسة من عامه الأول فيها، تبكي بصمتٍ ووجوم دون أن يراها، تحاول مع كل صرخة منه أن تتمالك قلبها كي لا يتهشم أمامه.

نراها ونستغربُ من أين لها هذا الصبر!

ندرك أن الأزمة تصنع من الإنسان وجهين رُغماً عنه، أولهما مبتسمٌ وضاحكٌ يبثُ الأملَ في كيان من يحبهم وآخرٌ خفيٌ لا يكشف سترته إلا أمام مالكه كي لا يرهقَ أحبته أو يكشفَ أسرار آلامه.

  • مُرٌ شعوري يا أمي، تُرهقني تلك الخراطيم وتُوجعني إبرةُ الوريد، ليتني أتخلص من هذا. أشتاق لحياة اللعب ومقاعد الدراسة.

لم تنبس بحرف؛ ولم تتمالك دمعتها هذه المرة حضنته كما لو كان رضيعاً. فالكلمات عجزت عن ترجمة وجعها باستحالة عودته إلى طفولةٍ لا زالت تسكن جسده.

كلٌ الأوجاع سكنت عقلها مسلوب القدرة على بث الحياة في روحه، رغم محاولتها مده بإحدى كليتيها، لولا الإجراءات الطبية التي كسرتْ خاطر تجانس الأنسجة لتبقى أسيرة انتظار موته بين لحظة وأخرى.

وتستمرُ الأوجاع في قصصِ أجساد لا تشبه جسد أيمن إلا في يفوعها.

فيديو مقال غربةُ ألمٍ…

أضف تعليقك هنا