فقه الصداقة (1)..الصداقة و مراتب العلاقات الإنسانية

الصديق …..

ما الصديق ؟………

وما أدراك ما هو؟……..

إنه كلمة فوق الكلم، ومعنى فوق المعاني يعجز المرء العاقل العالم عن وصفه ، فما بالك والمرء البسيط المتواضع يتلعثم لسانه وتعجز كلماته عن أن يحيط بهذه الكلمة العجيبة…….. تلك الكلمة التي أطال الشعراء فيها واختلفوا ، وأطنب الحكماء فيها و انقسموا ، سئل عنها الفلاسفة فأجابوا ، وسئل عنها الحكماء فأفتوا ، أدلى فيها علماء النفس بدلوهم ، وشارك فيها علماء الشرع برأيهم ، أصاب من أصاب وأخطأ من أخطأ ويبقى المعنى الحقيقي سرا مكنونا بين قلبين متحابين ، ولغزا مبهما للعاجزين عن معناها المتحيرين في بلوغها ، افتقدها أقوام فظنوها خيالا ، وفاز بها أقوام فعدوها سعادة الدنيا ، بحث عنها أقوام فأعياهم المسير ، وزهد عنها أقوام و رضوا بوحشتهم ووحدتم فكان بئس المصير ، ووجدها أقوام فسعدوا ووجدها آخرون فشقوا و افتقدها آخرون فهاموا … فما سر تلك الكلمة ؟ وما حقيقتها ؟ وما أصلها ؟ وما اشتقاقها ؟

لا شك أن الصديق لفظ اشتق من الصِدق فقد قال بذلك الكثير من أهل اللغة ، فالكذابون لا يكونون أصدقاء ……….

قال الراغب : الصداقة صدق الاعتقاد في المودة وقال ابن منظور : صدق النصيحة والإخاء

وقال ابن هلال العسكري : اتفاق الضمائر على المودة

وفصل أبوعامر النجدي فقال : الصديق من صدقك عن نفسه ليكون على نور من أمرك ويصدقك أيضا عنك لتكون على مثله لأنكما تقتسمان أحوالكما بالأخذ والعطاء في السراء والضراء والشدة والرخاء فليس لكما فرحة ولا ترحة إلا وأنتما تحتاجان فيهما إلى الصدق والانكماش والمساعدة على اجتلاب الحظ في طلب المعاش…………………

و قيل للأندلسي مم أخذ لفظ الصديق ؟ قال أخذ من الصِدق وهو خلاف الكذب ومرة قال : الصَدق لأنه يقال رمح صَدق أي صلب وعلى الوجهين الصديق يصدق إذا قال ويكون صَدقا إذا عمل …………

وقال بعض المتفلسفين :إن الصديق ( صاد ) صدق و (دال ) دم واحد و (ياء ) يد واحدة و( قاف) قلب واحد !

والصديق له مرادفات فهو الخليل وقد ورد في القرآن في قوله تعالى ( و اتخذ الله إبراهيم خليلا ) والصديق هو كذلك الخدين والخدن وهو الصفي ّ والجمع أصفياء فقال ناصح الدين الأرجاني :

يا صَفيّي من الأخلاِّء والعَيشُ  ***     حَرامٌ إلاّ مَع الأصـــــــفياء

وهو كذلك السَّجير و الجمع سجراء ، قال اللواح :

وإني لراض بحكم القضا *** ومما يلاقي سجيري ألاقـــي

والصُديّق بصيغة التصغير أخص الأصدقاء.

وقال السيرافي : الصديق يكون واحدا و جمعا ومذكرا ومؤنثا وعقب المرواني فقال : هذا والله من شرف الصديق….

معنى لفظ صديق

ورد جمعا في المرة الوحيدة التي ذكر فيها في القرآن في قوله تعالى (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أ َوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ) أي : بيوت أصدقائكم.

والعرب أحيانا يطلقون على الصديق ابن العمّ ، انظر لقول الشاعر :

ورب ابن عم تدعيه و لو ترى *** خبيئته يوما لساءك غائـــــــبه

فإن يك خيرا فالبعيد ينالـــــه *** وإن كان شرا فابن عمك صاحبه

هذا في وسط اللغويين و الأدباء من الزمن الجميل ، أما علماء النفس المحدثين فمنهم إنجلش عرف الصداقة فقال : الصداقة علاقة بين شخصين أو أكثر تتسم بالجاذبية المتبادلة المصحوبة بمشاعر وجدانية تخلو من الشهوة.

ومن كل ما سبق يمكن أن نستخلص تعريفا جامعا فنقول : الصداقة صدق متبادل في الحب والإخاء بين شخصين له لوازمه و أركانه .

إن ما قدمناه إنما هو تعريف وجيز كل الإيجاز في تعريف الصداقة و تفصيله سيأتي في مقالاتنا القادمة.

ولما كنت الصداقة علاقة إنسانية اجتماعية وجب التفريق بينها وبين علاقات أخرى ظنها كثير من الواهمين صداقة واعتبرها كثير من المخدوعين خلّة – وما أكثر الواهمين و المخدوعين! -، فوجب التفصيل والتفريق وعلى كل منا أن يصنف علاقاته مع من حوله في صنف من الأصناف التالية الذكر بلا تعصب أو تحيز…………

لا بد للمرء أن يعلم أن الناس ثلاثة أصناف في تعاملهم معه:

1- معارف و زملاء …. 2- أصحاب أو قرناء……3- أصدقاء أو خدناء

وعلينا أن نعلم جيدا أن وجود الأصناف الثلاثة في حياتنا شيء ضروري لاستمرار الحياة ، ولكن العيب كل العيب أن تقتصر على النوع الأول والثاني ونهمل أهمها وهو الثالث .

ولا بد أن نعلم أن لكل نوع خصائصه تميزه عن الآخر، والمشكلة أن كثيرا من البائسين التعساء قد خلطوا بين كل منها فاختلت موازين الأخوة عندهم فصار النحاس والذهب لديهم سواء !!

ولعل أبا حامد الغزالي كان مقتضبا حين قسم الناس أصدقاء و معاريف ومجاهيل ، فلا شك أن هناك حلقة بين الأصدقاء و المعاريف وهم الأصحاب ، ولعل علماء النفس كانوا مفصلين منصفين حين قسموا الناس إلى صديق مقرب و صديق اجتماعي و مشارك في النشاط و معارف ، فهو يؤدي نفس معنى تقسيمنا المذكور آنفا .

1- الزمالة و المعرفة:

وهي أدنى مراحل التعامل مع الناس، وهي أول مرحلة في بدء العلاقة وهي تقتصر على علاقة اضطرارية حكم بها العمل أو العلم أو النشاط الاجتماعي أو المسكن- فالجار هو زميل المسكن – أو أي ظرف أدى إلى اجتماع اثنين أو أكثر بلا سابق اختيار أو إرادة……….. فهي علاقة جمعتها المصلحة ابتداء..ً

وأصل الزميل في اللغة الرديف على البعير فمن يركب معك بعيرك فهو زميلك والزميل كذلك الرفيق في السفر

والزمالة أو المعرفة وإن كانت أدنى مراتب العلاقات الإنسانية – ضرورة من ضروريات الحياة لا تكتمل الحياة بدونها ، قال الله تعالى ( وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ) وفي ذلك يقول معروف الرصافي :

يعيش الناس في حال اجتماع ***      فيحدث بينهم طرق انتفاع

وتكثر للدواعي والتفـــــادي *** على الأيام بينهم الدواعـي

ولو ساروا على طرق انفراد ***  لما كانوا سوى همج رعـــاع

رأيت الناس كالبنيان يسمو *** بأحجار تسيّع بالسيـــــــاع

فيمسك بعضه بعضا فيقوى ***     ويمنع جانبيه من التداعــــي

كذاك الناس من عجم وعرب *** جميعا بــــين مرعــــيّ وراع

قد اشتبكت مصالحهم فكل *** لكل في مـــجال العيش ساع

ولولا سعي بعضهم لبعض *** لعاشوا عيش عادية الســـباع

( * السياع : الطين الذي تلصق به حجارة البناء ( الأسمنت))

فالزمالة و التعارف من خصائص الإنسانية والاقتصار عليها نقص وعيب وقد تتطورالزمالة إلى ما هو أعلى منها ، ألا هو الصحبة

ونجد في هذه المرحلة خاصية مميزة وهي أن العلاقة سواء أكانت مقابلات أو اتصالات مقصورة على فترة الدراسة أو العمل فإذا زال العمل أو الدراسة بعطلة أو ترك للعمل أو الانتقال إلى مرحلة دراسية أخرى تفتر العلاقة بل تنقطع ، وهنا تتمايز الصفوف فالصديق يستمر ويدوم مهما اختلفت الأحوال ، أما من دون ذلك فهو رهين مرحلة ينقطع بانقطاع المرحلة ، فالصداقة لا تنتهي بانتهاء المراحل.

ولا داعي لمزيد كلام على الفرق بين الزميل والصديق فهو بائن لكل ذي عينين وإن كان أخطأ بعض في التمييز بين خصائصهما مثل معروف الرصافي حين قال :

شكواي بُحت بها إليك وليس في ***       شكوى الزميل غَضاضةٌ لزميله

إن المريض ليستريح إذا اشتــــكى ***       ما به لطبيـــــبه وخليلــــــه

حيث أخطأ خطأ فادحا على رغم علمه الفرق بين زميله و خليله إذ إنه بث له شكواه وشبهه في سماع الشكوى بالخليل وشتان بين هذا وذاك فلا شك أن الصديق يباح له بالشكوى والسر وهو ما لا يستقيم في حق الزميل الذي هو أقل ارتباطا بزميله وأقل حبا ووفاء فقد يكشف سره وقد يستثقل شكواه فتصير شكواه مذلة ونقصًا ..

2- الصحبة:

الصاحب أو القرين وهو المرحلة التالية بعد الزمالة ؛ فالقرين كان زميلا يوما ما ثم تحول إلى صاحب أو قرين ، وهو الملازم لصاحبه الكثير الاقتران به ،

وهنا ملحوظة أن الصحبة لا يشترط لها سابق زمالة فقد تكون لسبب آخر غير الزمالة مثل التعارف عن طريق وسيط آخر ولكن هذا نادر فقلما وجدت صحبة بغير سابق زمالة….

وفي هذه المرحلة تحدث عدة تطورات ينبغي ألا نخلط بينها وبين ما يحدث في الصداقة :

– كثرة المقابلات والاتصالات والحوارات

– وجود قدر من التجاذب بين الطرفين

– عدم اقتصار العلاقة على المصلحة الاضطرارية

– الدراية الأكبر عن أحوالك وظروفك ومعيشتك

– التوافق في بعض الأمور

ومن هنا علمنا أن هذه الأشياء ليست مؤشرا يدل على الصداقة وإنما مقدمات بين يدي الصداقة الحقيقية ؛ فليس كل من خرج معك وشاركك فسحك وتنزهاتك بل ضحك معك ومازحك وكثرت مقابلته لك يكون صفيا لك تبث له أدق أسرارك وتشكو له ألطف همومك ، يقيل عثرتك و يحمل همومك ويكنّ لك حبا يملأ الأرض ، وهنا تزل الأقدام وتكثر التوهمات ويُظن من ليس بصديق صديقا فالصداقة ميثاق غليظ و عقد رفيع من تعاقد عليه و وقع على شروطه كان أهلا له ومن لم يوف شروطه فسمه صاحبا أو سمه زميلا أو سمه أي شيء آخر ولا تدنس الصداقة بمن ليس من أهلها…………….

3- الصداقة:

وهي المنزلة الرفيعة والدرجة السامية التي ضل عنها جل الناس وعساهم أن يكونوا جُلا وإلا فهم كلهم وإلى الله المشتكى.

والصديق أو الخدين هو آخر المحطات بعد معارك طاحنة من أهوال الحياة، يجدها المرء بين الناس في النهاية وهي منزلة أسمى وأشرف لمعاني الإنسانية من مجرد الصحبة الخالية من معاني القرب والعمق الوجداني.

ولكنها عقد وثيق وبناء له أركان من بناه مستكملا أركانه فهي الصداقة ومن نسي ركنا أو بناه فهدمه بطيشه وحماقته فليس من الصداقة في شيء فأركانها بكل إيجاز (( حبٌ وإيثار ، وبوح بالأسرار ، مشاركة في الهموم وتقارب أفكار ، عتاب و تزاور وإحساس بمن تختار! ))

وهذا هو موضوع مقالاتنا القادمة إن شاء الله.

فيديو مقال فقه الصداقة (1)..الصداقة و مراتب العلاقات الإنسانية

أضف تعليقك هنا