هذا هو أبي

في الصباح ونحن في طريقنا إلى المدرسة. صباح الخير يا أبت….صباح الخير بنيتي الغالية….هل يمكنك أن تقص علينا شيئًا من طفولتك……قلت: ما تريدين منها؟ سليني…استدع لك ما يعلق بذاكرتي….سكتت وسكتُّ. أخذت هي وأخذت معها أفكر، وأستدعي ما يمكن أن أقصه لها وأخواتها من أيام طفولتي، وذكرياتي التي سلفت.

عندما كنت صغيراً

قلت: قد كنت (شطُّورًا) وأنا صغير….وكنت بارعًا في الخط، أجيده وأتميز به … ولا زلت أذكر أن معلمي –أمد الله في عمره- كان يباهي بي زملاء الصف، ومن فرحته بي كان يأخذ دفتري المرتب، وبه العديد من صفحات كتبت بالقلم الرصاص، تمتلئ كلماتها براءة لا تُحدُّ، وتقف خلفها رقة لا توصف، ولطالما كنت أسعد بذلك، وأجد في نفسي فرحًا كبيرًا لا تمتلك عيناي أن تخفيه، ولا يلبث أن يحمر وجهي خجلاً وحياءً من ثناء وُجِّه إلى أو إطراء أُذكَر به.

شريط ذكريات الأب

ثم واصلت الحديث … وأخذ شريط ذكرياتي ينساب كما الماء جاريًا، وأخذت أحدثها وأحدثهم عن ذلك القلم –قلم الرصاص الذي لطالما كان معلمي –أدام الله عافيته– يقوم ببريه بالموسى، وما أسرعه في ذلك، وعن زجاجة من (الميرندا) والتي لطالما كنت أتمنى أن تلامس شفتاي شفتاها، وأرتشف منها ما يجعلني أطير في الهواء، أو أسبح على الماء.

لا سيما لو أنكم عرفتم أن معلمي -أطال الله بقاءه- كان يثقب في غطاء الزجاجة ثقبين بمسمار؛ ليزيد من متعته، ويعلي من نشوته، فتراه يشرب منها كما الجمل في الصحراء، بل هو الغيث يروي الصحراء القاحلة.

ثم واصلت حديثي واستجمعت ذكرياتي….فلم ألبث أن مر بخاطري، وجال بخيالي … يوم أن كنت في الصف السادس الابتدائي …. وفي اختبار نهاية العام….فقد كنت أخرج بعد انتهاء الاختبار….وكنت لا أخرج إلا مع دق الجرس في آخر دقيقة منه…فأخرج ولا أجد إلا أغلى الناس….لا أجد إلا مَن حياتُه من أجلي، وسعادتٌه في سعادتي، وفخرُه في تفوقي، وعزُّه في رفعتي ونجاحي.

أخرج…فأجده….وقد أمسكت يمناه بما اشتهيته دومًا، وما كانت عيناي تعشقها إذ كنت أراها بين يدي معلمي…زجاجة من الميرندا الباردة … وفي يسراه العديد من قطع البسكويت التي لا تعرف طعمها إلا وقد اقترنت بماء الميرندا البارد ….حينها فاضت عيناي…وانفجرتُ بكاءً لا ينقطع، وغمرتني دموعٌ لا تتوقف، ونحيبٌ تكاد تسمع صوته من بعيد….فتوقفت عن الكلام، وتوقف معه شريط الذكريات…فكم من غالٍ سرعان ما يرحل، وكم من حبيب لا تعرف قيمته إلا بعد الرحيل….ذلك هو أبي.

فيديو مقال هذا هو أبي

أضف تعليقك هنا