قانون الوسط المستبعد عند برتراند رسل وعلاقته بالصدق

بقلم: فاطمة الشبلي

إن معرفتنا تشتق من ثلاث مصادر هي:

1- معتقدات (أو جمل) لها علاقة بطراز معين مع أحداث معينة .

2- قواعد الإستنباط المنطقي

3- قواعد الإستنباط فوق المنطقي

لا يمثل المصدر الثاني أي مشكلة بخصوص معرفتنا،ولكن للمصدر الأول والثالث يشكلان تساؤلات مهمة وصعبة بدرجة كبيرة. ولنبدأ بالمصدر الأول (الجمل/المعتقدات).

وعليه: إن ما أعرفه يجب أن يكون صادقا،ولكن الصدق أوسع من المعرفة في جانبين:

الأول:

هناك جمل صادقة،ليس لنا رأي بخصوصها على الإطلاق.(بحسب قانون الوسط المستبعد).

ثانيا:

هناك جمل صادقة،نصدقها ولكننا لا نعرفها لأننا وصلنا إليها من تسبيب خالص.

مثال: “قابلت مرة أحد الدارسين للمسيحية،حيث اعتقد وفقا لأسباب مشتقة من الكتاب المقدس أنه وخلال وقت قصير ستحدث بعض المتاعب في مصر،وقد حدث ذلك فعلا إعتقاده كان صحيحا ولكنه ليس معرفة”.

“صادق” و “زائف” خبران يخصان المعتقدات،لأنه عندما يكون معتقد فعلي ويعد صادقا فهو صادق بفضل أحداث معينة يسميها برتراند رسل “حيثيات”،مثال: أنا أصدق أن قيصر قد أغتيل” حيثية هذه الحقيقة هي الأحداث الفعلية التي حدثت في مجلس الشيوخ منذ زمن بعيد.

قانون الوسط المستبعد:

الصعوبة تكمن أنه إذا عرفنا الصدق بعلاقته مع المعرفة فسوف ينهار المنطق،والعديد من الأسباب المقبولة بما في ذلك جزء كبير من الرياضيات،ولكن إذا التزمنا بقانون الوسط المستبعد فسوف نجد أنفسنا ملتزمين بميتافيزيقا واقعية،ربما في روحها وليس في نصها.

فلننظر إلى بدائل بروير مثلا: فهو ليس مهتما بالجمل التي هي من الناحية النحوية عديمة المعنى،وإنما بالجمل الصحيحة نحويا ومنطقيا،وهو يجادل بأن “صادق” تعد مفهوما بلا فائدة ما لم تكن لدينا وسائل لاكتشاف ما إذا كانت مقدمة صادقة أم لا،ولهذا يضع “قابل للتفنيد” محل “صادق” ولا يسمي مقدمة “زائفة” إلا إذا كان نقيضها “قابل للتفنيد”.

فتبقى إذا فئة وسطية من المقدمات غير قابلة للتفنيد ولا نقيضها من المقدمات القابلة للتفنيد وهي التي يرفض بروير أن يسميها صادقة أو زائفة،وبالنسبة له يعتبر قانون الوسط المستبعد خطأ.

رد برتراند رسل: لم يصل أحد حتى الآن إلى تعريف “صادق” على أنه “ما هو معروف” فالتحديد المعرفي لصادق هو ما يمكن معرفته،كلمة “قابل للتفنيد” تستعمل عموما وتكون المقدمة قابلة للتفنيد إذا أمكن تفنيدها،يؤدي ذلك في الحال إلى صعوبات،لأن القابلية مفهوم غريب،إذا كان للتعريف أن يكون محددا فإن المقصود ب”القابلية للتفنيد” يجب الكشف عنه وهو “برووير” يصر على أن مقدمة مثل “كل البشر فانون” والتي تعد غير قابلة لإثباتها بصورة كاملة يجب أخذها على أنها صادقة إذا عرفت حالات كثيرة لصدقها ولم تعرف أي حالة لزيفها.

إن قانون الوسط المستبعد يكون صادقا لقسم خاص من المقدمات،وهي التي يمكن مواجهتها بالمدركات،إذا أطلقت الصواريخ النارية في الخامس من نوفمبر وقلت “إحذر سوف يحدث إنفجار” فإما أن هناك إنفجار وإما أن الصواريخ رطبة ولم يحدث إنفجار،وفي هذه الحالة بيانك إما صادق أو زائف،وهناك حالات أخرى مشتقة من هذا الطراز يمكن أن نطبق عليها قانون الوسط المستبعد.

وعندما يفشل قانون الوسط المستبعد يفشل قانون التعارض المزدوج بالتبعية،فإذا كانت أ ليست صادقة/زائفة فإنه من الزائف أن أ زائفة،وإذا انطبق قانون التعارض المزدوج فسوف يعني: أن أ صادقة بينما وفقا للفرض أ ليست صادقة أو زائفة،في هذا المنطق من الزائف أن أ زائفة ليست مكافئة ل أ صادقة.

التعميم الإستقرائي 

نقول مثلا: إن الكسوفات حدثت في أزمنة ما قبل التاريخ كما يقودنا علم الفلك إلى الإفتراض،ولكننا سنقول ذلك بدرجة من التردد مناسبة للتعميم الإستقرائي المكون لقوانين الفلك.

الصعوبات تأتي من المقدمات فوق المنطقية التي لا نجد عليها دليل،مثلا:

سقط الجليد على جزيرة منهاتن في الأول من يناير في العام الأول بعد الميلاد،ولنسمي هذه المقدمة ب، ولقبولنا التعميم الإستقرائي فإنه يخبرنا التاريخ أنه كان هناك عام أول بعد الميلاد،وتؤكد لنا الجيولوجيا أن جزيرة منهاتن كانت موجودة عندئذ،ونعرف أن الجليد يتساقط هناك في الشتاء،وعليه نحن نفهم ب كما لو أنها على علاقة بسقوط الجليد الذي يعرف في السجل التاريخي،نظريا يمكن حساب واستنتاج المناخ الخاص بالأزمنة السابقة مثلما يستطيع عالم الفلك استنتاج الخسوفات،لكن فعليا هذا مستحيل ليس لأن الحسابات ستكون شديدة الصعوبة ولكن لأن معطيات أكثر ستكون مطلوبة بما لا يمكن توفيره،لا بد بالتالي التسليم بأننا لا نملك دليلا على ما إذا كانت ب صادقة أم زائفة،وبالتالي نستنتج أنه إذا أمكن تعريف الصدق بالمعرفة فإن ب ليست صادقة أو زائفة.

ولكن كل هذا متفق عليه بقبولنا التعميم الإستقرائي،وبالسماح لأنفسنا بالإعتقاد بأن جزيرة منهاتن ربما وجدت في التاريخ،لو سمحنا بالإستقراءات من هذا الطراز فلن يوجد سبب لرفض توسيع قانون الوسط المستبعد ليشمل كل مقدمة يؤيدها أو يعارضها دليل مهما كان بسيطا.

قد يوجد بسهولة دليل على أن مناخ جزيرة منهاتن لم يتغير كثيرا في السنوات الألفين الماضية،وفي هذه الحالة فإن سجلات المناخ تعطي احتمال سقوط الجليد في أي يوم من السنة،ونستنتج بالتالي أن ب إما صادقة وإما زائفة،فبالرغم من عدم قدرتنا على التقرير فإننا نعرف شيئا عن رجحان أي من البديلين.

بالنسبة للحديث عن “المجموعة”

عندما نقول “كل البشر فانون” فهل نقول شيئا أم أننا نقوم بمجرد إحداث ضوضاء عديمة المعنى؟ أنا لا أسأل إذا كان البيان صادقا،وإنما أسأل هل هو جوهري؟

1- لا نستطيع محاولة اختزال المقدمة إلى إدراك حيث إذا رأيت إنسانا سوف أحكم بأنه فان المناسبة التي أرى فيها إنسانا من المستحيل عدها استحالة عد البشر،قد أقول “كل البشر الذين قابلتهم فانون” لأنهم في هذه الحالة يمكن عدهم،ولكن إلى أن يتم ذلك فإن المجموعة تتحدد فكريا فقط.

2- لا نستطيع أن نقول “البيان عن مجموع يكون مشروعا عندما توجد مجموعة من الخبرات تغطي المجموعة بكاملها وليس العكس” فإذا حاولنا تعريف “خبرات ممكنة” فإن هذا يأخذنا إلى نفس الفكرة التي نريد الهرب منها،فكيف نعرف ما إذا كانت خبرة معينة ممكنة؟ يتطلب هذا معرفة تفوق الخبرة الفعلية.

3- لا يمكن حصر “كل البشر فانون” في الخبرة الماضية حيث إنه في هذه الحالة يجب أن تعني كل البشر الذين ماتوا حتى الآن كانوا فانين.

عندما نفهم كلمة “إنسان” و “فان” نستطيع فهم كل البشر فانون دون أن يكون علينا معرفة كل إنسان مفرد،بالمثل نستطيع أن نفهم كل الأرقام إما فردية أو زوجية باستقلال عن التعدد.

عند مناقشة الجليد في السنة الأولى بعد الميلاد فإننا سمحنا بقبول التعميم الإستقرائي وعندما نشك في قانون الوسط المستبعد لن يكون لنا أي حق في عمل ذلك إلا في استنباط المدركات مثلا: الاستقراءات في العلوم الفيزيائية دائما تصاغ بمدلولات واقعية،أي أنها تفرض أن ما تشاهده يمكن أن يقع دون مشاهدته في حال توفر ظروف مناسبة لوقوعه.

إذا وصلنا إلى جزيرة غير مأهولة ووجدنا مساحات خضراء رائعة فسنستنتج أنها أمطرت رغم أن لا أحد رأى الأمطار تهطل،من وجهة نظر المعرفة المنطقية يمكن أن نفترض أنه لا توجد أحداث غير مشاهدة كما يفعل علماء الطبيعة،فإنه مهما كان عدد وطراز الأحداث التي لم يشاهدوها لكنهم يجعلوا من السهل صياغة قوانين لأحداث مشاهدة.

وهناك سؤالان أساسيان في هذا السياق هما:

الأول:

هل هناك جوهرية في افتراض أن شيئا لا يخبره أحد موجوا؟

الثاني:

هل هناك جوهرية في افتراض أن شيئا يوجد ليس مشابها لأشياء الإدراك،أو كما نفترض أن الأحداث تكون موجودة حيث نكون غير مدركين لها؟

بالنسبة للسؤال الأول،فلا صعوبة هناك،فحقيقة أننا نخبر ظاهرة ليست جزءا ضروريا من فهمنا للظاهرة،وإنما مجرد سبب لمعرفتنا أنها تقع ولا يوجد عائق منطقي لافتراض أن الظاهرة يمكن أن توجد وتكون غير مدركة.

هنالك صعوبة أكبر بالنسبة للسؤال الثاني،هل هناك أية جوهرية في افتراض أن الظواهر الطبيعية طبقا لاختلافها عن مدركاتنا هي كما يجب أن تكون إذا كانت ليست مرئية أو مسموعة وليست من الطراز المألوف؟ هذه الظواهر تقع داخل الزمن وفي مكان ما وإن كان ليس مماثلا لما اعتدناه في الإدراك،إن المكان الفيزيائي أي مكان حدوث الظاهرة ليس محسوسا بصورة مباشرة وإنما يتحدد بعلاقته بالأماكن المحسوسة.

يمكن تعريف المدركات على أنها أحداث لها علاقة فراغية مرحلية بجسم حي له أعضاء مناسبة،افترض أنك تريد قياس سرعة الصوت ولهذا الفرض تطلق بندقية بينما يقف رجل على بعد ميل ويلوح بعلم لحظة سماعه الصوت،عبر المكان الذي يفصلهما تقع أحداثا هي موجات من الهواء،وعندما تصل هذه الموجات من الهواء إلى الأذن يحدث لها العديد من التحورات مثلما يحدث لضوء الشمس،أحد تلك الأحداث ينتج من أثر موجات الصوت على الأذن،وإذا كانت الأذن متصلة بمخ طبيعي فإنه يحدث ما يسمى “السمع” للصوت،بعد ذلك تسير سلسلة المسببات من المخ إلى الذراع مؤدية إلى التلويح بالعلم.

القاعدة المنطقية هي أنه لا يوجد مقدمة لما يحدث في جزء معين من المان-المكان تتضمن منطقيا أي نسبة مما يحدث في جزء آخر من الزمان-المكان،وبتعبير آخر “المقدمات الإدراكية المشتقة من حدوث مدرك معين لا يمكن منطقيا أن تتضمن أي مقدمة عن أي حدث آخر.

إنه خارج نطاق الرياضيات أهم طرق الإستنتاج،وهي التشابهية والإستنباطية،نحن نقبل بالفيزيائية متى مكنتنا من التنبؤ بمدركاتنا المستقبلية،فالرجل الذي يقيس سرعة الصوت قد يقول وفقا لذلك “خلال خمس ثوان سوف أرى العلم ملوحا به” ولكن لا يقول “خلال خمس ثوان سوف يلوح بالعلم”،وبدون هذه التنبؤات سيكون العلم مستحيلا حيث سيصبح الأساس المنطقي الخاص بنا غير مهم.

الخاتمة

يعتقد رسل أن الصدق والمعرفة يختلفان،وأن المقدمة يمكن أن تكون صادقة على الرغم من عدم وجود طريقة لاكتشاف أنها كذلك،ويعرف الصدق بعلاقته بالأحداث والمعرفة وعلاقتهما بالمدركات(يتحدث عن الصدق اللامنطقي) أنه مفهوم أوسع من المعرفة،عندما نبدأ في بحث ما نفترض أن المقدمات التي نبحث عنها إما صادقة أو زائفة،قد نجد دليلا وقد لا نجد،فقبل “السبكترو سكوب” كان يبدو مستحيلا التأكد من المكونات الكيماوية للنجوم كما أننا لا نعرف إن كانت هناك حياة في الكون غير الموجودة على سطح الأرض،ولكننا لى صواب في إحساسنا بالتأكد في أنها إما موجودة وإما غير موجودة،إذا نحن بحاجة إلى الإستنباط قدر حاجتنا إلى المعرفة،لأن حدود المعرفة ليست مؤكد أولا،وثانيا لأنه بدون قانون الوسط المستبعد لن نستطيع أن نسأل الأسئلة التي تؤدي إلى إكتشافات.

المراجع

ما وراء المعنى والحقيقة،برتراند رسل،ترجمة محمد عمارة،المجلس الأعلى للثقافة.

الفصول:

الفصل السادس عشر

الفصل العشرون

 

بقلم: فاطمة الشبلي

أضف تعليقك هنا