منظومة التعليم العتيق “جدلية التقليد والتجديد”

في سياق الجدل الإعلامي حول منظومة التعليم العتيق وما يوجه من انتقادات للمسؤولين عن هذا القطاع من العبث به من خلال إلحاقه بالتعليمي النظامي واعتماد نظام المراقبة المستمرة والامتحانات الإشهادية وبرنامج عطل مدرسية وغيرها من الإجراءات القانونية والتربوية المنظمة لسير المؤسسات التعليمية.

ثم إن تغيير المقررات الدراسية ومنهجية التدريس جعلت بعضهم يتساءل عن سبب إزاحة كتب الشيوخ والمجلدات الضخمة وتغييرها بمقررات مدرسية واعتبر ذلك لبنة أساسية لإسقاط التعليم العتيق من خلال الانعكاس السلبي على التحصيل العلمي للطلبة، لنرى إذن مدى صحة هذا الادعاء؟.

أسس علم التدريس

إن غياب التكوين البيداغوجي في انتقاء أساتذة التعليم العتيق هو ما جعلهم يوجهون سهام النقد لهذه التغييرات التي طرأت عليه، ذلكم أن علم التدريس يقوم على أسس متعددة أهمها:

  • الأساس البيداغوجي

    • المؤطر للعلاقة بين المدرس والمتعلم.
  • الأساس السكولوجي

    • من خلال معرفة خصائص الفئة المستهدفة بالتدريس (سكولوجية الطفل والمراهق).
  • الأساس الديداكتيكي

    • المتمثل في الوثائق والمذكرات التربوية التي تنظم التدريس في مادة معينة.

فتغييب هذه المعطيات خصوصا السكولوجية منها في عملية اختيار من ينتصب لتدريس التعليم العتيق، وتسليط الضوء على الأساس المعرفي فقط من خلال التحكم في التخصص العلمي مع إهمال الأسس السابقة الذكر هو مكمن الخلل.

يقول الإمام الطاهر بن عاشور في كتابه أليس الصبح بقريب” …فمن الواجب ألا ينتخب للتعليم إلا من تمرس به وعرف مراتب الأفكار ليعلم التلامذة كيف ينتبهون إلى دروسهم ويفهمونها بدلا من الضجر الذي يصيبهم فيها ويقلل النبوغ فيهم ولذلك وجب ان تدرس صناعة التعليم قبل انتصاب المدرس للتدريس”.

المقاربات البيداغوجية الحديثة في التدريس

مكانة المتعلم في العملية التربوية فالمقاربات البيداغوجية الحديثة في التدريس خصوصا المقاربة بالكفايات التي دخلت حيز التنفيذ سنة 2000 مع صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين تنص في أغلب مضامينها على:

  • التركيز على الكيف بدل الكم.
  • وأن المتعلم له دور فعال في بناء العملية التعليمية التعلمية.
  • و المدرس يجب أن يمتلك مهارات وقدرات وكفايات تجعله قادرا على النجاح في مهمته باعتباره مرشدا وموجها لا ملقنا.

لأن النظام التعليمي القائم في بنيته على مدرسة التلقين والحفظ مع الاكتساب السطحي للمعلومات والترديد الببغاوي لها يشكل عائقا أمام نماء قدرات وملكات المتعلمين التي من مخرجاتها تكوين متعلم قادر على حل الإشكالات الواقعية المحيطة به، وتنمية القدرات التواصلية لديه ودفعه للابتكار والإبداع وهي أسس كفيلة بتحقيق رهانات مستقبلية.

إعادة هيكلة التعليم العتيق وإصلاحه

إن إعادة هيكلة التعليم العتيق بما يوافق المستجدات التربوية أمر في غاية الأهمية من أجل سد بعض مكامن الخلل في هذه المنظومة ،هيكلة يجب أن تطال في نظري كلا من المقررات الدراسية لتتماشى وفق القدرات الذهنية للمتعلمين استجابة لمبدأ مراعاة الفروق الفردية، وعدم تكليفهم بما لا يطاق في مراحل عمرية أولية.

بالإضافة إلى منهجية التدريس من خلال تنويع الطرق( حل المشكلات والمناقشة و الحوار والمشاريع) واستعمال الوسائل البيداغوجية الحديثة وتكنولوجيا الإعلام والاتصال دون أن ننسى زمن التعليم المرهق والقاضي بإنهاك القوى الذهنية لهذه الفئة وسبب ذلك عرو التعليم عن ملاحظة المصالح الصحية من خلال اعتماد برامج مكثفة وأنظمة صارمة في التدريس.

نظرات في الإصلاح كل ما سبق ذكره أعلاه هو نظرة من نظرات الإصلاح في المنظومة التعليمة ليس عند المحْدثِين فقط حتى لا نقول إن الغرب بنظرياته البيداغوجية الحديثة يحاول فرض مقارباته لإفساد تراثنا وتاريخنا وحضارتنا.

فضل المسلمين الأوائل في نقل العلوم

إن التفريط في التراث الإسلامي مع الاقتيات على موائد الآخرين هو ما جعل القارئ يغفل عن فضل المسلمين الأوائل في نقل كثير من العلوم التي يزعم الغرب اليوم تولي الصدارة في اكتشافها والتأصيل لها.

فتراثهم غني بالعلوم والنظريات وكنوزهم لو فتحت واستخدمت استخداما جيدا لأغنتنا عن كل دخيل في ثقافتنا وحضارتنا، ولعل من أشرف وأهم العلوم التي برع فيها المسلمون وكانت موضوع اهتمامهم ونقاشهم وتدويناتهم، علم التربية والتعليم الذي تطور فيما بعد بنظرياته الحديثة ومسمياته المعاصرة ليصبح فلسفة تتبناها الدول في مناهجها الدراسية منذ نشأة الجامعات والمدارس وتأسيسها في كل بقاع العالم.

ولا يخفى على كل باحث أهمية التربية في تقدم وازدهار الحضارات والمجتمعات باعتبارها ظاهرة اجتماعية وعملية عامة يشارك في تحقيقها كل من الأسرة والمدرسة والبيئة والمحيط.فلا حضارة بدون علم ولا علم بدون تعليم الفكر التربوي عند المسلمين وسأنقل هنا نماذج لنصوص تربوية عند علمائنا تؤصل لنظرة الإصلاح هاته في المنظومة التعليمية سواء في التعليم العتيق أو النظامي.

الجودة في التعليم والرقي بالمنظومة التعليمية

لنبين أن جل القضايا التربوية التي يكثر عنها الحديث اليوم في علم التدريس، والتي توصي الدول الرائدة عالميا في هذا المجال باعتمادها في المناهج والبرامج البيداغوجية كفلسفة تربوية كفيلة بالإجابة عن سؤال الجودة في لتعليم والرقي بالمنظومة التعليمية، هي في الحقيقة مستقاة من التراث الإسلامي ومن مصادر الوحي( القرآن والسنة) فلنأخذ على سبيل المثال مبدأ التعلم الذاتي الذي يهدف إلى إخراج المتعلم من دائرة التلقين والسلبية في تلقي المعلومة إلى الإبداع والمشاركة في إنتاجها.

مبدأ التعليم الذاتي

نجد أن القرآن الكريم قد أرسى أسس هذا المبدأ في قصة طير إبراهيم” وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تِؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا” .

مبدأمراعاة الفروق الفردية

وإذا رجعنا إلى السنة النبوية نجدها مليئة بالنظريات والمبادئ التعليمية كمبدأ مراعاة الفروق الفردية واستعمال الوسائل التعليمية لتقريب الفهم كالخط والإشارة والقصص وضرب الأمثال:

  • قال الإمام الغزالي في الإحياء عن الوظيفة السادسة من وظائف المعلم: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم حيث قال نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقوله” ص: 57 .
  • وقال برهان الدين الزرنوجي في كتابه تعليم المتعلم طريق التعلم ” فيجب على المربين مراعاة الفروق بين المتعلمين فليست كل العقول واحدة وليست قدرتها على الفهم والاستيعاب متماثلة، فمنهم من تعلم وفهم ومنهم من رغب في الاستزادة في العلم والتعمق في الفهم فوصل على درجة عالية من العلم…”
  • ويقول ابن خلدون في مقدمته متحدثا عن نظرية الملكات في التدريس” اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدا إذا كان على التّدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب.

ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد [1] عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلّا أنّها جزئيّة وضعيفة. وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله.”ص: 735

فيديو مقال منظومة التعليم العتيق “جدلية التقليد والتجديد”

 

أضف تعليقك هنا