الموطن الأصلي للساميين (1)

قلنا إن الساميين ينتسبون لسام بن نوح، وقلنا أيضاً أنه ليس من الضروري انتسابهم جميعهم لسام بن نوح بل كان بينهم حاميون ويافثيون، وربما جموع أخرى تنتسب لبعض أبناء نوح غير المذكورين، وتعتبر السامية تسمية لغوية حيث تطلق على الذين يتكلمون اللغات السامية والتي تضم كل من اللغة الأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية والفينيقية والآرامية والعبرية والحبشية والعربية، وأهم نواحي التشابه ضمن هذه المجموعة اللغوية هي:

وجود الفعل الثلاثي كمصدر أساسي ووجود زمنين للفعل هما الماضي والمضارع وتصريف الفعل يتبع نفس الأسلوب والتشابه بين الكلمات الأساسية كالضمائر الشخصية والأسماء التي تدل على القرابة والأعداد وأعضاء الجسم الرئيسية.

وقبل أن ندخل في دراسة انتشار الساميين في الشرق القديم سنتطرق للنظريات التي تقول إن   الموطن الأصلي للساميين هو جزيرة العرب ومنها خرجوا على شكل هجرات إلى الشام ومصر والعراق وغيرها من البلدان.

هناك نظريتان رئيسيتان تتعاوران هذا الموضوع، ترى الأولى أن الموطن الأصلي للساميين هو منطقة الشمال الغربي الإفريقي، وترى الأخرى أن موطنهم الأصلي هو منطقة الجزيرة العربية.

النظرية الأولى – موطن الساميين في الشمال الغربي الإفريقي:

يرى أصحاب هذه النظرية أن الجزيرة العربية لا يمكن أن تكون مهداً للساميين وذلك أن هذه المنطقة في كثير من أجزائها جافة جداً ولا تصلح أن تكون مهداً للشعوب.

ويستند أصحاب هذه النظرية على حجة لغوية مفادها أن اللغات السامية متصرفة أي أنها لغات يؤدي تبدل جذور كلماتها بوساطة إضافات إلى تبدل المعاني، وهي تشترك في هذه الخاصية مع لغات إفريقيا الحامية واللغات الهندو أوربية في أوربا وآسيا، ويدفع هذا إلى القول: إن هذه المجموعات الثلاث قد تشكلت في مواطن متجاورة، لأنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن نشأة النمط اللغوي المتصرف حدثٌ حصل مرة واحدة خلال تاريخ اللغة.

ونظراً لإمكانية انطلاق الساميين والحاميين من شمال غربي إفريقيا، فمن المحتمل أن يكون الموطن الأصلي لأقدم الناطقين باللغات المتصرفة هو منطقة شمال غربي إفريقيا وغربي أوربا، وتبعاً لذلك كان الساميون والحاميون يشكلون أول الأمر كياناً مستقلاً هناك منذ نحو تسعة آلاف إلى اثني عشر ألف سنة، وكانوا يتميزون عن الهندو جرمانيين بشكل أكبر ثم تطورا وانفصلوا عن بعضهم مع مرور الزمن، ولعدم توافر المصادر الكتابية الحامية فإن الصيغ المبكرة لهذه اللغات بقيت مجهولة.

وترجح هذه النظرية أن الحاميين احتلوا أجزاء كبيرة من شمالي إفريقيا في زمن مبكر، وبقي القسم الأعظم منهم هناك زمناً طويلاً دون احتكاك بحضارات حوض البحر المتوسط، أما الساميون فقد بقي قسم منهم في شمال غربي إفريقيا أسلاف البربر المتأخرين، واستمر اتصالهم مع الحاميين الشماليين الغربيين هناك، ولكن مجموعات أخرى منهم انتقلت نحو الشرق وكانت الظروف الطبيعية اللازمة لمرور الهجرات في المناطق الصحراوية التالية مناسبة بشكل غير مألوف بعد أواسط الألف الخامس قبل الميلاد، وذلك بسبب اتصاف المناخ برطوبة متميزة، فاستوطنت مجموعات كبيرة منهم بلاد مصر، لذلك يمكن ملاحظة وجود عناصر سامية وحامية في اللغة المصرية القديمة، بينما وصلت مجموعات سامية أخرى خلال الألف الرابع قبل الميلاد إلى جنوب غربي آسيا، وربما انطلقت مجموعات منهم من المنطقة الليبية إلى غربي الجزيرة العربية عبر مصر السفلى وشبه جزيرة سيناء، بينما اختار بعضها الآخر عبور النوبة أو جنوبي مصر والبحر الأحمر إلى هناك، ولا تتوافر لدينا مبدئياً أية دلائل على معلومات دقيقة عن تلك الهجرات.

نقد النظرية

إن هذه النظرية تعتبر النتيجة الطبيعية لمعاداة الغرب للشرق، ومحاولتهم إبعاد أي نشوء حضاري في الشرق لإثبات أن الشرق كان ملتقى حضارات ولم يكن في يوماً من الأيام مهد حضارات، فهذه النظرية تستند لحجة واحدة هي الحجة اللغوية والتي مفادها أن اللغات السامية والحامية والهند أوروبية تشترك في خاصية أنها لغات متصرفة، مما يدفع إلى القول بأن هذه المجموعات الثلاث قد تشكلت في مواطن متجاورة، لأنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن نشأة النمط اللغوي المتصرف حدثٌ حصل مرة واحدة خلال تاريخ اللغة.

ونحن نتفق مع أنصار هذه النظرية في أن المجموعات البشرية الأولى كانت تقطن بنفس المنطقة، ولكن نختلف معهم حول المنطقة التي تجمعت فيه هذه الشعوب لما كانت أقواماً صغيرة غير متمايزة، فالشمال الغربي الإفريقي والجنوب الغربي الأوربي، على اعتبار أنهما كانا متصلين في وقت لم يكن مضيق جبل طارق قد تشكل، لا يمكن عدهما من المناطق المفتوحة على العالم القديم كمنطقة جبل الجودي وذلك لعدم توسطهما في العالم القديم، كما أن عملية الهجرة التي تمت عبر الشمال الإفريقي باتجاه الشرق يشوبها الكثير من الغموض والشك والتناقض.

فهم دحضوا النظرية التي تنص على أن الجزيرة العربية هي موطن الساميين الأصلي باعتبار أن الجزيرة العربية في كثير من أجزائها أرض مجدبة وصحراوية وبنفس الوقت يبررون عبور الهجرات السامية لصحراء إفريقيا الكبرى بأن المناخ قد اعتدل وصار رطباً مما مكن تلك الأقوام من التحرك شرقاً، وعند هذه النقطة بالذات نقول لهم إنكم تثبتون بأن الجزيرة العربية كانت أيضاً تتصف بمناخ معتدل ورطب معاصر للمناخ الذي كان سائداً في الصحراء الكبرى، وبالتالي فإن هذه الحجة مدحوضة بذاتها خاصة وأن علماء الجغرافية أثبتوا أن الجزيرة العربية والصحراء الكبرى قد شهدتا فعلاً مناخاً معتدلاً وجواً رطيباً.

النظرية الثانية – موطن الساميين الأصلي في الجزيرة العربية:

يرى كثير من الباحثين أن الموطن الأصلي للساميين هو الجزيرة العربية ويستندون في ذلك إلى حجج عديدة منها:

أولاً – الحجة الجغرافية:

ومفادها أن الجزيرة العربية صحراء في غالبيتها وتحيطها البحار من ثلاث جهات، وزيادة عدد السكان تدفعهم للهجرة باستمرار، وبما أن المنفذ البري الوحيد يقع في الشمال فإن ذلك سيدفع بهم باتجاه بوادي الشام والعراق أولاً ومن ثم إلى باقي البلدان، فالطبيعة الجغرافية للجزيرة العربية جعلت منها موطن تخرج منه الهجرات البشرية.

ثانياً – الحجة الاقتصادية:

ومفادها أن الجزيرة العربية قليلة الموارد مما يدفع بسكانها للتزود بالموارد الأساسية من منطقة الهلال الخصيب (الشام والعراق)، وبالتالي ظلت نفوسهم تهفو للخروج إلى تلك البلاد والاستقرار فيها، وما أن تلوح فرصة في الأفق لوضع قدمهم على أطراف تلك البلاد حتى يندفعون إليها على شكل هجرات متتالية.

ثالثاً – الحجة التاريخية:

ومفادها أن التاريخ يحدثنا عن العديد من الهجرات التي انطلقت من الجزيرة العربية باتجاه الشمال بدءاً بالعموريين والكنعانيين ثم الآراميين ثم الأنباط ثم المناذرة والغساسنة وأخيراً الهجرة العربية العامة المتمثلة بالفتوح الإسلامية.

رابعاً – الحجة اللغوية:

ومؤداها أن اللغة العربية احتفظت في نواحٍ كثيرة بأشد أنواع التشابه مع اللغة السامية الأم، وهذا يؤكد نظريتنا بأن العرب هم أول من سكن الجزيرة العربية بعد الطوفان ولم يسكنها أحد غيرهم كما سنرى لاحقاً في دراستنا لظهور العرب.

خامساً – الحجة العرقية:

وخلاصتها أن سكان الجزيرة العربية وخاصة البدو قد احتفظوا بأنقى الصفات السامية، وذلك لانعزالهم في جزيرتهم عن التأثيرات العرقية الخارجية.

نقد النظرية:

إن هذه النظرية استندت إلى أن الساميين كانوا جميعاً محصورين في الجزيرة العربية، ومن ثم خرجوا منها على شكل هجرات متتابعة إلى الشام ومصر والعراق، وإذا تساءلنا عن السكان الأصليين في الأقاليم التي هاجروا إليها نجد الجواب إما أنها كانت مسكونة بأقوام غير سامية وبالتالي يجب أن يكونوا من الأقوام الحامية أو الهندو أوربية وهذا لا يصح أبداً، وإما ألا تكون مسكونة بتاتاً وهذا أيضاً غير صحيح، وتصطدم هذه النظرية بالحجة اللغوية المستندة إلى التشابه في أسلوب الصرف عند اللغات الثلاث السامية والحامية واليافثية الأمر الذي يحتم تجاور هذه الأقوام في السكن والجزيرة العربية لا تحقق ذلك.

فيديو مقال الموطن الأصلي للساميين (1)

أضف تعليقك هنا