لا ثم لا للإقناع

لا أظنك تختلف معي أن العالم كله يسعى لتسيّس الناس لتحقيق مصالحه، ومن أبرز الوسائل في ذلك زرع الإقناع سواء للأتباع أو الأصدقاء أو الأعداء.

الإقناع 

لذا ظهرت دراسات وكتب ومؤتمرات ومراكز أبحاث جلَّ همها موضوع الإقناع، ولا أظن أني أبالغ حين أقول إنه في كل يوم نحن نمارس الإقناع أو يُمارس علينا بشكل أو بآخر، في التسويق والاعلام وغيرها من شؤون الحياة، ومن أبرز الفئات المُنظِرة والممارسة لقضية الإقناع هم أصحاب الرسالات والمبادئ مهما كانت تلك القيم، فكل صاحب رسالة يجتهد ويتفانى من أجل إقناع الآخرين برسالته، فإذا كان موضوع الإقناع بتلك الأهمية، لِمَ لم يُذكر في القرآن الكريم وفي سيرة سادة الناس أجمعين، ورِسل ربِّ العالمين؟

القرآن الكريم والإقناع

أليست مهمة الأنبياء –عليهم السلام-إقناع الخلق بعبوديتهم للخالق ؟ كيف إذا عرفنا أن أكثر من ثُلُثُ القرآن هو في سرد قصصهم ودعوتهم! ربما لم يِذكر باللفظ نفسه، لكن بكلمات مرادفة!، فما تلك الكلمات؟

بالنظر إلى القرآن الكريم والتدقيق فيه تبين أن أقرب الكلمات هي “البلاغ المبين”. ففي أكثر من 14 آية حصر القرآن الكريم مهمة الرسل –عليهم السلام-بكلمتين:

  1. “البلاغ” كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، إن لم تَفعَل فما بَلَّغَّتَ رِسَالَتَهُ﴿٦٧ المائدة ﴾، وقوله” فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ  ﴿40 الرعد ﴾ ، “وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ … ﴿20 آل عمران ﴾، وغيرها من الآيات.
  2. “البلاغ المبين”[1] كقوله: “فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٣٥ النحل ﴾، وقوله:” فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴿ 12التغابن ﴾وغيرها من الآيات.

ما أسرار عدم استخدام القرآن الكريم لمصطلح “الإقناع”؟

ولكن بقي السؤال الكبير: ما أسرار عدم استخدام القرآن الكريم لمصطلح “الإقناع”؟ وإذا كانت “البلاغ المبين” هي أقرب المصطلحات لـ ” الإقناع” فما الفرق بين المصطلحين؟

الاقناع يدور حول معاني الموافقة والتذلل والقَبول والرضا، وبطريقة أخرى السعي في التأثير على المقابل لتحقيق الرضا والقبول بالفكرة أو السلوك أو المعتقد الجديد والمختلف كلياً أو جزئياً عما يمتلكه، ومن أجل تحقيق ذلك تُستَنفَر كل الوسائل الممكنة (المسموعة والمقروءة والمنظورة وغيرها)، بما في ذلك وسائل التأثير النفسي والعقلي مثل البرمجة اللغوية العصبية ونظرية العقل الباطن وغيرها.

ومن هنا ظهرت-ولا تزال تظهر-نظريات وأساليب جديدة بين فترة وأخرى حول العقل البشري وإمكانية السيطرة عليه أو التأثير عليه لتوجيهه نحو هدف محدد، ومن أبجديات التأثير عدم اشتراط معرفة المقابل بكل ما يدور حوله، بل إن نجاح الإقناع هو بجعلِ المقابلِ يرضى ويقبل دون أن يشعر !!، بل وأبعد من ذلك أن تكون قوة التأثير كافية لجعل الإنسان مُغيَّب ولو لفترة بسيطة.

ضحايا الإقناع

وهناك تفاصيل أخرى كثيرة حول الإقناع لا يسع الحديث عنها الآن، لكنها بالعموم تدور حول السيطرة على إرادة الإنسان واختياره-ولو جزئياً-بحيث تُسيّره إلى طريق محدد، لذا نسمع عن “ضحايا الإقناع” والذين يكون قرارهم تحت تأثير معين، وبعد زوال ذلك المؤثر يتبين لهم عدم صحة قرارهم وأنهم اُستغلّوا بطريقة أو بأخرى.

قد يظن البعض أنه لا يتأثر، وأنه حرٌ في اتخاذ قرارته ومواقفه في كل شؤون حياته، لكن الحقيقة تقول أنَّ جلَّ الناس-إن لم يكن كلهم-واقعٌ تحت تأثير وسائل الإقناع بشكل أو بآخر، ومَن فتَّش في حياته أدرك ذلك.

وبالموجز فالإقناع يتدخل في توجيه إرادة الإنسان دون أن يشعر، أي يَسلبه شيئاً من حريته في اتخاذ المواقف والسلوك والمعتقد.

البلاغة في القرآن الكريم

أما البلاغ فهو إيصال الرسالة المطلوبة، والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم الخشية من الناس، خاصة إذا كانت الرسالة تخالف معتقداتهم وأفكارهم وسلوكياتهم، أو يستنكرونه، وينهاهم عمّا ألفوه، ومن هنا كانت معاناة الرسل والأنبياء.

ويضيف القرآن الكريم كلمة جميلة وهي “المُبين”، فلا يكفي إبلاغ الرسالة بل لابد أن يكون بلاغاً مبيناً واضحاً لا لبس فيه ولا غبار عليه ومما لا شك فيه أن الإبانة تحتاج إلى منظومة من المعلومات والأخلاقيات والمهارات وهي التي عرضها القرآن الكريم في سير الأنبياء لتكون عبرةً وعِظة، ومنهجاً يسير عليه مَن بعدهم.

والمقصود من المُبين هو أن يكون مبيناً واضحاً للمقابل لا للرسول، فالرسول لا يحتاج إلى إبانة فهي عنده واضحة لا لبس فيها، ومن هنا نفهم أن المقصد من إرسال الرسل هو “البلاغ المبين” دون التدخل في إرادة الاختيار وحريته، فالإنسان أُعطيَّ إرادة كاملة لا ينبغي لأحد السيطرة عليها، لأنه هو الذي سيتحمل نتيجة تلك الإرادة والاختيار.

الفرق بين البلاغة والإقناع

إذن الإقناع محوره التركيز على الآخر، والبلاغ المبين محوره التركيز على الإنسان نفسه ومدى تحققه للإبانة بدرجة كافية، والإقناع هدفه تحقيق الرضا والقبول لدى الآخر، والبلاغ المبين مهتمة توضيح الرسالة بشكل واضح وجلي وبجميع أبعاده.

الإقناع يعرض القضية لكنه قد يضخم وجه ويًقزِّم آخر، قد يُقدِّم أمر ويُؤخِّر آخر، قد يبالغ في نقطة ويُصغِّر أخرى، قد يُخفي جزء من الحقيقة ويُبرز آخر، قد يستر فيلاً ويُبرز نملة، قد يُظهر الحق باطلاً والباطل حقاً، كل هذا وغيره لتحقيق الرضا والقَبول.

ويبقى الفرق الأساسي أنَّ الإقناع يسلب شيئاً من حرية الإنسان في الاختيار ويتدخل في توجيه إرادته، بينما البلاغ المبين يحترم إرادة الإنسان ويعطيه الحرية الكاملة في الاختيار، ولعل هذا هو أحد الأسرار في استخدام القرآن لـ ” البلاغ المبين” دون ” الإقناع” والله أعلم.

وعليه أقول لا للإقناع في حوارنا وكلامنا وسلوكنا، لا للإقناع ولندع الإنسان يتمتع بكامل إرادته، ثم لا للإقناع الذي يجعلنا أسرى دون قيود، ولا للإقناع حين يُلبِسنا ثوباً لا نريده.

فهل توافقني؟

 [1] وردت في سبع مواضع من القرآن الكريم: المائدة 92، النحل 35، النحل 82، النور 54، العنكبوت 18، يس17، التغابن 12.

فيديو مقال لا ثم لا للإقناع

أضف تعليقك هنا