أساتذة دار العلوم بالقاهرة

لا زلت أذكر كلمة الأستاذ زكي مبارك لأستاذي المؤرخ محمد رجب البيومي حينما كان يراجعه ويناقشه في مسألة الردود الأدبية بينه وبين الأستاذ السباعي بيومي، ودار بينهما نقاشٌ طويلٌ استوقفتني منه عبارة (الدكاترة) زكي مبارك: “لقد حدثني الأستاذ محمد خليفة الجعلي أنّك من أبناء كلية اللغة العربية، والسباعي أستاذٌ بدار العلوم فلماذا تتعصب له هكذا، وبين الأزهريين والدرعميين ما بين الأوس والخزرج في الجاهلية ؟!”

بعض عوامل نهضة الأدب وانتشاره

هذه المعاركُ الأدبية التي تفتقدها الساحة الأدبية والعلمية في الواقع المعاصر كانت من عوامل نهضة الأدب وانتشاره، ولها الأثرُ الكبيرُ في انشغال الشباب وتعلقهم بالثقافة، فهي معارك أدبية علنية على صفحات المجلات الأدبية، ولعلّ المعركة الأدبية مع الأستاذ السباعي بيومي مِن أقسى المعارك التي خاضها الأديب زكي مبارك على حد تعبير الأستاذ أنور الجندي، مع أنّه قد خاض قبلها الكثير من الردود، ولا تخلو أغلبها من مشاكسات.

المعركة الأدبية بين الأديب ” زكي مبارك” والأستاذ “السباعي بيومي”

شرحَ الشيخُ الأديب سيد بن علي المرصفي كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد في عدة أجزاء في شرحٍ أسماه (رغبة الآمل في شرح الكامل)، وكان من الأعمال الأدبية المتعلقة بكتاب (الكامل) التي خرجت أيضاً من رحم كلية دار العلوم تهذيبه للأستاذ السباعي بيومي في جزءين بعنوان (تهذيب الكامل) حيث فصل النثر عن الشعر، فجعل النثر في جانب، والشعر في جانب آخر.

بدأت المعركةُ بإلقاء الأستاذ السباعي بيومي محاضرة ذات يوم عن كتاب (الكامل) في نادي كلية دار العلوم بالقاهرة مثنياً فيها على كتاب (الكامل) وصاحبه، فتعقبه أحد الحاضرين من طلبة كلية دار العلوم بقوله: إن الشيخ سيد بن علي المرصفي أخذ في شرحه على المبرد أخطاءً كثيرة، وحين سمع ذلك السباعي ردّ عليه بقوله: إن الشيخ المرصفي كان في ردوده مغروراً لم يفهم كلام المبرد.

هاج الحضورُ بعد سماع قولته عن الشيخ المرصفي، ثم انتقل العراك الأدبي على صفحات المجلات الأدبية كمجلة “الرسالة” لصاحبها بلدينا الأستاذ أحمد حسن الزيات، فكتب أحد الطلاب مقالاً بعنوان: “تلميذٌ يجرح أستاذه”، وكان هذا المقال إذناً وإعلاناً وتعبئة للحرب الأدبية بين الأدباء، فانقسموا فريقين: فريقاً مؤيداً للشيخ المرصفي، وفريقاً أعلن تأييده للسباعي.

قام بعدَ هذا العدد مباشرة أحدُ الطلاب بالرد على المقال السابق، وأشار في مقاله أنه بموافقة الأستاذ السباعي بيومي، ومما جاء فيه: إذا كان المرصفي مقدساً عند البعض، ولا يجوز نقده أو التعقيب عليه .. أفليس من الأولى أن يكون المبرد مقدساً من باب أولى؟!

بعدها كثرت الخطابات الموجهة إلى (الدكاترة) زكي مبارك تحثه على الردّ على ما ادعاه السباعي مما دفعه إلى كتابة قوية وُصفت عند البعض بالاندفاع والتجريح، فكتب مقالاً جريئاً بعنوان: “الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي”، بين فيه منزلة المرصفي وعلو شأنه في علوم اللغة والأدب، ومما جاء في مقاله: “إن لم يعتذر السباعي فسأنزل عليه غضبي”، فكان ما بينهما مما هو مسطورٌ في المجلات الأدبية، وسُطر في كتاباتٍ كثيرةٍ عن الأستاذ زكي مبارك.

بعض أعمدة اللغة والأدب في دار العلوم الساهمين في نهضة الأدب وانتشاره

وإن كنتُ أنسى فلن أنسى دورة أقامتها كلية دار العلوم في صيف سنة 2006م بالتعاون مع مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية، وكنتُ من طلاب هذه الدورة وخريجيها، ومكنتي هذه الدورة من التعرف على أعمدة اللغة والأدب في كلية دار العلوم، وتعرفتُ فيها على أساتذة أجلاء استمرت المعرفة والتواصل معهم بعدها، وأطلعتني على مميزات هذه الكلية العريقة وجهودهم في خدمة اللغة العربية فقد كانت غائبة عني هذا الوقت.

درستُ في هذه الدورة النحو والأدب والعروض والنقد مما كان له الأثر في حبي لهذه الفنون، وإن كانت دراستي الأزهرية المتخصصة بعيدة عن هذا المجال، وأذكر مِن أبرز مَن تلقيتُ عنهم في هذه الدورة الأساتذة العلماء الأجلاء الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف والدكتور أحمد كشك والدكتور أحمد درويش، فهؤلاء الثلاثة ممن انتفعتُ بعلمهم، وتأثرت بهم، واستفدت من كتبهم فيما بعدُ.

“الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف” من أدباء دار العلوم الداعمين لنهضة الأدب

أما أولهم فهو من أبرز علماء العربية في العصر الحديث، نحوي، ولغوي، وشاعر، وناقد أدبي، كان نائباً لرئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وتدرج في الوظائف الأكاديمية إلى أن صار وكيلاً لكلية دار العلوم سنة 2001م، وله الكثيرُ من المصنفات والدواوين الشعرية لعلّ أشهرها وأهمها كتاب “في بناء الجملة العربية”، وتوفي سنة 2015م، فرحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، وكانت لوفاته أثرٌ كبير في نفوس طلابه، وآخر ما كتبه (جزاء سنمار):

لم أفعَلِ العُرْفَ لا خوفاً ولا طمعاً  .. لكنّه اللهُ والأخلاقُ والدَّارُ

ما كنتُ أبغِي سِوَى حُسْنِ الوِدَادِ به  .. وقد جُزِيتُ كما يُجزَى سِنِمَّارُ

يَكْفِي جَزَائي أنّي قَد سَعِدْتُ بِما   .. أتيْتُ مِنْ عَمَلٍ واللهَ أَخْتَارُ!

“الدكتور أحمد كشك” أبرز الأدباء الذين ساهموا في نهضة الأدب

وأما الثاني فهو العميد الأسبق لكلية دار العلوم، عالمٌ من علماء العربية، له الكثيرُ من المؤلفات والتحقيقات العلمية منها “القافية: تاج الإيقاع الشعري”، و”النحو والسياق الصوتي”، و”النحو ودوره في الإبداع” و”من وظائف الصوت اللغوي”، و” الزحاف والعلة”، و”التدوير في الشعر: دراسة في النحو والمعنى والإيقاع”، وغيرها.

“الدكتور أحمد درويش” من المساهمين في نهضة الأدب

وثالثهم علامةٌ موسوعي، وشاعر، وناقد متخصص، ومترجم يترجم ويكتب الشعر بالفرنسية أيضاً، فهو سوربوني حَصلَ على الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية في النقد الأدبي والأدب المقارن من جامعة السوربون بفرنسا، وتدرج في السلك الأكاديمي إلى أن صار وكيلاً لكلية دار العلوم سنة 2004، وله كثيرٌ من الدواوين الشعرية والمؤلفات النقدية، وحاز على كثيرٍ من الجوائز والأوسمة.

تمددت صلتي ومعرفتي بغيرهم من العلماء الدرعميين كشيخنا العلامة حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية، ونلتُ شرف الأخذ والتلقي عنه في الجامع الأزهر، وشيخنا الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب، والدكتور عبد الحميد مدكور، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور محمد السيد الجليند، والدكتور عبد اللطيف محمد العبد، والدكتور محمد نبيل غنايم، وغيرهم.

لا يسعُ مقالٌ وكتابةٌ قصيرة ٌكهذه لذكر مآثر أساتذة كلية دار العلوم وجهودهم في إحياء اللغة العربية والنهوضِ بدراسة الشريعة، ولعلّي أعودُ للتعريج على سير هؤلاء الأعلام، ومعرفة جهودهم في خدمة الثقافة، فلهم حقوقٌ عليّ يجب أن أوفيها لهم، وقبلها لهم منّي التقدير والدعاء والعرفان ووافر الحب والاحترام، رحم الله ميتهم، وحفظ وأطال عمر مَن بقي منهم.

فيديو مقال  أساتذة دار العلوم بالقاهرة

أضف تعليقك هنا