سورة العصر (لا خسران)

قال تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
“وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)”. ( سورة العصر )

هذه الأرض، هذا ما تعالجه سورة العصر على قصرها (3 آيات، 14 كلمة):

تبدأ بـ ” والعصر” وهو قسم بالعصر، وهو الوقت أو الزمن، فما سر اختيار القسم بالزمن هنا؟ من أسرار ذلك أن الزمن هو أهم عناصر الحياة، بل هو الحياة، وهو من النعم التي يشترك فيها كل العباد: الغني والفقير، والرجل والمرأة وغيرها، وفيه تلميح لما بعده وهو قضية مرتبطة بكل إنسان، فهذا هو القسم، فما المقسوم عليه؟ لنكمل السورة..

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ” إعلان لخسارة الإنسان (كل إنسان)، والخسارة هي فقدان رأس المال، فكأنها تجارة والإنسان هو الخاسر، وفيه تلميح إلى أن رأس مال الإنسان هو الوقت “العصر”، ولعلك تسأل: ما جدوى إضافة “في”؟ إن حرف “في ” يشير بوضوح إلى استمرارية الخسارة وتكرارها مع مرور الزمن؛ فالإنسان في كل لحظة يخسر؛ فهو في خسارة دائمة مع مرور الزمن (العصر)، وهي تفيد أيضاً أنه كالمغمور في الخسران, إنه أحاط به من كل جهة، وتنكير “خسر” دون “الخسر”  لبيان عِظم الخسارة وتهويلها، وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: تعلمت معنى السورة من بائع الثلج الذي كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله. ومن رحمة رب العالمين وعدله أن وضَّح طريق النجاة من تلك الخسارة المستمرة؛ فاستثنى فريقاً من تكرار الخسارة فقال: “إِلَّا “، فما أحلمك يا رب، يقيني ستسأل:

مَن أولئك المستثنون؟

الَّذِينَ آمَنُوا” أول كلمة هي الذين بصيغة الجمع، بينما في الخسارة بصيغة الفرد “الإنسان “، وهذا يعطينا معنى أن الناجين تجمعهم رابطة الإيمان بمعناه الشامل والمستوعب للحياة كاملة، الإيمان الذين يحقق للعبد الاستقرار النفسي والبعد الإنساني، ثم أضاف صفة ثانية:

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ” الإيمان ليس مجرد نظريات تحفظ وتقال فقط، بل يتبعه عمل، وليس أي عمل، وإنما عمل الصالحات، وهي الأعمال التي تحقق شرطي القبول: الإخلاص لله، ومتابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-  فلا تخالف منهجه؛ فهو إيمان عملي لجميع مناحي الحياة؛ فهو صلاة وصيام وصدقة، كما أنه أخلاق وسلوك للعبد مع أهل بيته، وهو أيضاً سلوك مع المجتمع في الصدق والوفاء بالعهد وحسن المعاملة مع كل الكائنات، وهكذا يكون قد جمع الجوهر والمظهر، وثمة مطلب آخر وهو:

وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ” من شدة محبة أولئك المؤمنين للطاعات وعمل القربات أنهم لا يقتصرون على ما يخصهم، بل يوصون غيرهم؛ فما يحبه لنفسه يحبه لغيره، والتواصي بالحق هو التواصي بالدين كله وبالحياة السعيدة بجميع أشكالها وأصنافها، ثم جاءت السمة الرابعة والأخيرة:

“وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ “ يتعاهدون بينهم في حبس نفوسهم على الطاعات، ومنعها من المحرمات؛ فالنفوس البشرية قد تضعف وقد تقع فريسة للشيطان أو لغيره، وقد يتنكب عن الطريق؛ فيأتي رافد التواصي ليعين السائرين ويرشد التائهين ويأخذ بأيديهم بصبر وتأنٍّ.

وهكذا جمعت الصفتين الأوليتين (الإيمان، والعمل الصالح) النجاة والفوز الشخصي، بينما كانت الثالثة والرابعة لصلاح المجتمع وتثبيت أركانه، وبهذه الأربع تكون سعادة الإنسان ونجاته من الخسران. اللهم جنبا الخسران، ونجنا من النيران، واجعلنا من أهل الإيمان ومناصحة العباد في كل مكان. وصلى الله وسلم على سيد ولد عدنان.

فيديو مقال سورة العصر (لا خسران)

أضف تعليقك هنا