ذكريات أول يوم في المدرسة

لماذا أذهب إلى المدرسة في الصباح ؟!

سؤال يتبادر إلى الذهن في أول خاطرة تجول برؤوسنا حين كنا صغارا  نحب اللعب وفقط ، إذ كنا دون سن المدرسة، وهذا السن يبدأ في مصر من عمر السادسة أو السابعة أو الثامنة حسب المدرسة ولائحة قبولها للتلاميذ الجدد، تجول هذه الخاطرة عندما يقترب سن الطفل من دخول الروضة أو المدرسة كل حسب تقدير الأبوين .

الشعور السيء في أول يوم دوام في المدرسة

فليس كل من يدخل المدرسة يبدأ دخوله من الروضة، بل من الممكن أن لا يدخل الروضة ولا الكتاب، وإنما يدخل المدرسة مباشرة كان يحدث هذا في جيل الثمانينات، حيث يبدأ الوالدان في تدريب الطفل وتعليمه حروف الهجاء وجدول الضرب والعمليات الحسابية البسيطة ، حتى يقبل الطفل في المدرسة، حيث كانوا يجرون اختبارات للأطفال عند دخولهم المدرسة أو الروضة ولقد انتظمت في فصول الكتاب لمدة عامين قبل التحاقي بالمدرسة، كان في مدرستي الإبتدائية مبنى خاص بالحضانة أو الروضة كما نسميها اليوم ، أذكر أنني في أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة في الصف الأول الإبتدائي بكيت كثيرا وغضبت على الأكل طول اليوم .

لم يكن يشغلني وقتها إلا أن أخرج من هذا المكان الكئيب، الذي لا فيه حرية للعب والجري والإلتقاء بالأصدقاء، كنت لا أريد أن يخرجني أحد من عالمي الذي كنت أحيا فيه بين ألعابي وأصدقائي وحرية الخروج والدخول من البيت وإليه .
أحيانا كنا نلعب في الشارع ، وأوقاتا أخرى نلعب في نادي رياضي بالحي  ندخله في الصباح ولا نخرج منه إلا في المساء .

وصف الطالب لمدرسته

كانت صورة المدرسة في مخيلتي أنها مبان جميلة المنظر من الخارج ، لكنها من الداخل مكان للتأديب وتنفيذ العقاب ، وفرض القيود على حرية الحركة، هذا وفضلا عن كتابة الواجب والمذاكرة والإستعداد للإمتحان أخر كل شهر، بالإضافة إلى امتحان الفصل الدراسي، كان لي أصدقاء من الجيران استقصيت منهم عن بعض الأمور التي تسير في المدرسة.

كانت مدرستي يحيط بها سور عال مرسوم عليه لوحات جدارية جميلة، وهو كذلك من الداخل، والمدرسة لها بابان كبيران ، وكأنهما بابان سجن، الأول منهما كان في واجهة المدرسة، كنا ندخل منه في الصباح، والثاني في ظهرها نخرج منه في المرواح، فإذا دخلنا وأقيم طابور الصباح أغلق الباب ولم يدخل أحد بعده إلا ويعاقب ضربا بالعصا، فإن انتهت الحصة الأولى لا يدخل أحد أبدا ويعتبر غائبا.

كنت أنظر من النوافذ إلى الشارع والمارة فيه والباعة الجائلين بشغف بالغ، وأتسائل في نفسي متى ينتهى اليوم الدراسي حتى أمشي في ذلك الشارع الممنوع عني، نعم سوف أشترى من ذلك البائع كوز الذورة ومن ذلك البائع الفطائر الساخنة.

المهم أنني بعد مرور أسبوع تعودت على المدرسة واندمجت في مجتمعها الجديد، وصار لي أصدقاء كثر، كان سلوك المدرسين معنا يترواح بين الشدة واللين والعقاب أحيانا أخرى، منذ أول أسبوع من الدراسة كان المدرسون يضغطون على التلاميذ بالشدة والملاحقة بالعقاب، وكثرة التكليفات الدراسية حتى يظهروا لأولياء الأمور أن مستوى الأبناء متدني للغاية ولابد من الدرس الخصوصي.

طريقة بعض المعلمين في إعطاء الدروس

أما المناهج الدراسية فكانت أثقل من أن يحملها تلميذ على ظهره كل يوم ، أغلب الكتب كانت محشوة بموضوعات مكررة لا فائدة من تكرارها عبر سنوات دراسية متتالية، مقررات عصية على الفهم، تعودت في الصفوف الأولى أن أحفظ الدرس من قراءة المعلم له في أول مرة، ثم يدور المعلم قراءة الدرس على الفصل كله حتى نحفظه، ثم يشرع في شرح الدرس شفاهة، ثم يكتب بعض النقاط الرئيسية على السبورة، ويطلب منا كتابتها في كراسة الحصة، ثم يعطينا الواجب وهو حل أسئلة الكتاب، كان بعض المعلمين في تصرفاتهم وسلوكياتهم التي تشي بالغلظة والفظاظة دوما ، منفرون ومكروهون بالنسبة لمعظمنا، كنا نطلق على هؤلاء ألقابا كسخرية منهم، فعندما نذكرهم في شيء يتعلق بالدراسة، نذكرهم بألقابهم الساخرة التي أطلقناها عليهم، ذلك فيما بيننا.

خوف الطلاب من عصا معلم الحساب الشديد

وأذكر أنه كان هناك معلم حساب دائما ما كان يخيفنا بالعقاب، و التلويح بوضعنا في حجرة الفئران، فلن يتغير شيء دخلنا عنده درس أم لا، في كل الأحوال أنه لن يفت يوم، إلا وسيضرب أحدا منا أو بعضنا أو جميعنا، كان اسمه فؤاد وعصاه اسمها عزيزة !….لم يكن لها إلا أن تطيعه، إذ لم تفعل مثلما فعلت فؤادة من مقاومة عتريس ذلك الطاغية المتجبر، وكيف لها ذلك وهي جمادة خشبية !
لا تتحرك إلا بحركة صاحبها !
تبا لها ولصاحبها !
لكم مرة ضربت بها !
من هذه اللحظات الفارقة جعلت أكره هذا المعلم وأكره المدرسة، وأكره مادته هذه اللعينة، كان يصطحب عصاه في يده دائما ، وكأنها عصا موسى، صنعها بيديه، فهي خشبية عرضها تقريبا 5 سم ، وسمكها تقريبا 2,5 سم ، وطولها تقريبا 30 سم ، وبها عدة ثقوب في وسطها على مسافات متساوية، كان يضع فيها أقلامه حينما يضعها أمام دفتره على مكتبه في الفصل.

كره الطلاب لمعلمة الحساب صباح

فلما ترقيت في صف دراسي آخر جاءتنا معلمة حساب لا تقل سوءا عنه، هذه المرأة العجوز صباح بدينة الجسم ، غليظة الطبع ، منفرة ، كنت لا أفهم منها شيئا ولا أحب أن أفهم منها شيئا أصلا ، كنت أكرهها وأكره مادتها أشد الكره، وكنت أذاكرها بالكاد حتى أنجح فيها، كانت تفرق بيننا في المعاملة، أغلب الفصل كان داخل عندها درس خصوصي ، اللهم إلا القليل جدا وأنا منهم.

كانت تشعرني دائما أنها تدرس لنا كيفية صنع الذرة من العدم،  وكأنها تعدنا في معملها الخاص بها لأن نصنع قنبلة ذرية ، تحارب هي بها أعداءها من تلاميذها الأغبياء الذين لا يريدون أن يفهموا طريقتها الفذة في الشرح .
تبا لك أيتها الصباح !
لا صبح لك ولا نهار .!
هي كالشمس الحارة ، تحرق ولاتنفع !
لا فائدة منها غير التدمير والإفساد، أجيال وراء أجيال تربت على يدي هذه العجوز، وأظن أن لا أحدا انتفع منها بمعلومة واحدة.

أهمية العلم في تطور الأمم و صناعة الحضارات

حينما ترقيت إلى الصفوف الإعدادية ، درس لنا معلم رياضيات شرحه جيدا ، ودود بعض الشيء ، غليظ الطبع أحيانا أخرى ، فحينما يسأل ويخطأ التلميذ في الإجابة ، فلا يعفيه من الضرب أبدا ، بل يدفعه ذلك إلى اختبار الفصل كله ليرى هل نذاكر درسا بدرس أم نهمل دروسنا ! لقد أحببت طريقته في الشرح ، والمادة كذلك ، كنت أذاكر الجبر والهندسة بجد واجتهاد ، لا لأفلت من الضرب ، وإنما لأني أحببت المادة جدا ، وأعجبتني هذه الرياضة البحتة والإلغاز بها، حتى لأني أذكر بعض مفرداته في الشرح ، وقد مضى عليها أكثر من عشرون عاما .

لقد أدركت وأنا في الصف الثالث الإعدادي، أن العلم مهم جدا في حياة البشر، فليس لأن التعليم هو وسيلة لإكتساب خبرة ومهارة في مجال ما نتخصص فيه حين التخرج ونعمل فيه بعده، وإنما العلم هو الهواء والماء والتربة التي تعمر بها الأرض، هو العمل الصالح والذرية الصالحة والدعاء الصالح، والصدقة الجارية، طبعا كل انسان له نظرته الخاصة التي تشكلت من خلال ثقافته ودينه وبيئته ؛ فالمسلم نظرته للأمور والحياة تختلف عن نظرة غيره من أهل الأديان الأخرى.

لا أدري ماذا عن رؤية العلم والتعليم بالنسبة للإنسان الغربي، ربما تتقارب من أفكارنا، فنحن من أصل بشري واحد، حينما حدث الإنقلاب العسكري في أثينا في زمان حضارتها القديمة، فر هاربين بعض الفلاسفة الحكماء الذين كانوا يحكمون أثينا في ذلك الوقت، خوفا من قتلهم من قبل الإنقلابين .

كان من الهاربين الفيلسوف العظيم، أفلاطون الذي زار مصر وأعجب بها أيما اعجاب، وذهل من طريقة تدريس الهندسة والجبر  في المدارس المصرية آنذاك، لقد التقى ببعض الكهنة المصريين وتعرف منهم على الكثير من العلوم المصرية والتقدم العلمي والحضاري .

لابد من التحام الجهود بين المدرسة والبيت

كانت مصر في ذلك الزمان منارة للعلم والعمل به، رغم ما يردد أن كان الأغلبية من الشعب أميين، وأن العلم والتعليم كان صعب جدا، في ذلك الزمان كانت مهنة المعلم تحيطها القداسة الدينية والهيبة والاحترام، إن مهنة المعلم لهي من أرقى المهن واعظمها به تبنى الأمم، وبغيابها تنسحق أمم من الوجود، فلابد من أن نصلح المنظومة التعليمية كلها، المقررات الدراسية، المعلم، الإدارة التعليمية ، حتى نلحق بركب الأمم المتقدمة، لابد وأن يغيير التلميذ نظرته السلبية للمدرسة وللمعلم ولزملائه.

وعلى العكس لابد وأن يغيير المعلم نظرته للمهنة وأن لا ينسى أنه رسالة يؤديها لأمته ووطنه، وإلا فليبحث له عن مجال أخر يكتسب من المال الوفير الذي يريده في تأمين مستقبله وأبنائه.
وعلى الدولة والحكومة بكافة مؤسساتها الإضطلاع بمسؤوليتها تجاه شعبها وأمتها، وعلى المجتمع المدني أن يساند في ذلك المشوار ويساعد بكل ما يملك في تعظيم ذلك الدور ، لصناعة أجيال تحافظ على وطنها وتساهم بشكل كبير في نهضته .
وعلى الإعلام والدراما تفكيك بنية الفساد والإفساد التي يساهمون فيها بغير قصد ، في تفريغ أجيال بلا هوية وبلا وعي ، يسودهم الأخلاق الذميمة والعنف، يقلدون في ذلك ما اكتسبوه من الدراما والإعلام .

فالبيت يربي الأجساد والمدرسة تربي العقول الأفذاذ، فلابد من التحام الجهود، لكي نصنع جيلا قادرا على التحدي والصمود في مواجهة الصعاب .

وأخيرا / سلام على مصر وأهلها .

بقلم: أشرف القيمي

فيديو مقال ذكريات أول يوم في المدرسة

 

أضف تعليقك هنا