السعادة والشباب وسن الخمسين 

سن السعادة

يقول الباحثان البلجيكيان في علم الاجتماع مارك إلكاردوس ووندي سميتس: “يشعر الشباب بين سن الثامنة عشر والخامسة والعشرين بسعادة تفوق المعدل المتوسط، ثم بعد ذلك تتراجع السعادة حتى بلوغ سن الخامسة والخمسين، لترتفع مجدداً، وعليه فإن المرحلة العمرية الأقل سعادة هي تلك التي تتراوح بين السادسة والأربعين والخامسة والخمسين عاماً، في حين أن المرحلة الأسعد هي تلك التي تتراوح بين الستين والخامسة والسبعين عاماً”؛ وإن ذلك التقدير نسبي، ومفهوم السعادة بمعايير البحث الاجتماعي، ليست بالضرورة هي ذاتها السعادة بمعايير البحث الديني، أو وفق محددات كل إنسان بخصوصه، فما هو من أسباب سعادتي ليس بالضرورة أن يكون مثله مسبباً لسعادة غيري.

أسباب السعادة

السعادة في الرضا، وفي حديثٍ صحيح عند ابن حبان: (أربع من السعادة : المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء)، ووفق حديث آخر حسن الإسناد، يرويه البخاري في الأدب المفرد فإن السعادة في الأمن والصحة والكفاية، (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ،  عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)، فأسباب السعادة كثيرة، وهذه الأحاديث ليس بينها تعارض، بل هي تعني أن أسباب السعادة متعددة، وهذه المذكورة من أهمها؛ والحقيقة أن أصل السعادة شعور نفسي، قد يجلبه السبب المادي أو لا يجلبه، فقد تتوافر جميع الأسباب الملموسة، ومع ذلك تتخلف النتيجة، لسبب غامض، ضامر في النفس، أو ظاهر في السلوك أو القول أو الملامح.

سر السعادة الأكبر

لا شك أن الرضا، والتصالح مع الذات ومع الواقع، هما سر السعادة الأكبر، بهما يتضاءل السبب المادي مهما عظم، فيصبح ذا تأثير ثانوي عابر، فبدون الرضا والتصالح مع النفس والأقدار، لن يشعر أحدٌ بلذة شيء، ولا يمكن أن تحصل الراحة النفسية التي يسمونها السعادة، أما الأشياء الأخرى التي وردت في الأحاديث الشريفة فهي وسائل لتحصيل السعادة، لكنها ليست الأرض التي تنبت فيها، فأرض السعادة وتربتها الرضا، أما ريها وغذاؤها فيكون بسائر الوسائل؛ ولو افترضنا بتعبير آخر أن السعادة جسم، فالرضا منه يكون بمكان الرأس وتكون الوسائل السبعة الواردة في الأحاديث الشريفة هي أعضاؤها التي بها ترى وتسمع وتتنفس وتتكلم وتتحرك.

مراحلٌ من الحياة

لقد وقع كلام الباحثين البلجيكيين من الواقع موقعه، فهو عندي كلام دقيق إلى حد بعيد، فالمرحلة ما بين سن السادسة والعشرين إلى الخامسة والأربعين مرحلة ثرية بتجارب الحياة، لذلك تكثر فيها النجاحات والإخفاقات، والانتصارات والهزائم، والتمرد على السائد مع بلاغة اللسان، والقدرة على التأثير، وصياغة الأفكار التي تبدو للسامع سديدة؛ لكن ذلك العنفوان والاتقاد، معه أيضاً المسؤولية الملقاة على العاتق، فإذا هي الشغل الشاغل، وهي المحفز، ربما إلى التقدم والرقي في أي مجال، أو إلى مزيد من الكد والتعب لتحصيل الحد الأدنى من ضرورات الحياة!.

أما المرحلة التي قبلها فهي هادئة، حالمة، ثرية بالنشاط الثقافي، والتحصيل العلمي، لخفة المسؤولية في تلك الأثناء، إنها المرحلة من الثامنة عشر إلى الخامسة والعشرين، إنها هي إحدى مراحل التكوين، التي تتلامس فيها الأحلام والواقع تلامساً لطيفًا، فيتولد العزم ويتغذى الطموح، وتزيد الرغبة في الحياة، لذلك يكون الشعور فيها بالذات كبيرا، والاستمتاع بالحياة رغم الندرة عظيما، أضف إلى ذلك أن تلك المرحلة ما بين الثامنة عشر والخامسة والعشرين، هي مرحلة الشباب، ففيها من التوهج الجسدي والتوقد العقلي والطموح ما عليه ستتحدد ملامح الشخصية في المستقبل القريب،

فإما أن تكون طفرات مرحلة الشباب سبباً في الوقوع إلى مهاوي التسرع والعجلة، أو سبباً إلى مزيد من البذل والتحصيل والبذر والحرث والعمل والإبداع، لكي يجدَ أحدُنَا بعد ذلك نفسه وهو على أعتاب سن الكهولة مع حصاد حرثه وبذره، ونتاج عمله.

الخطأ الفادح

إن أهم أخطاء الشباب، هي التسرع، والعجلة، وعدم التركيز على هدف محدد، فلا يوجد شباب بلا طموح، ولكن أيضاً لا ينبغي أن يكون طموح بلا عمل، كما لا ينبغي عمل بلا تخطيط، فالتخطيط يضمن السير على نسق منتظم، وتحديد الهدف يوفر الجهد والوقت، ولا يمكن لمن يفقد ذلك أن ينجز العمل كاملا تاما في الوقت المطلوب، وهكذا بدون هذه الثلاثة مجتمعة، (هدف محدد وتخطيط سليم وعمل جاد في اتجاه الهدف)، فإننا نجدنا مع تقدم السن وعدم الإنجاز قد تبددت طاقاتنا من مكامنها، تاركة  معظم الأحلام صفحات فارغة باهتة أوهنها التشتت، وعدم التركيز على هدف، وإذا بالحياة لم يعد يصلح أن تخط الأقلام فوق صفحاتها الفارغة، إنما هي فقط في هذه السن (بعد الخمسين)، لا تحتمل سوى التقليب الحذر حتى لا تتمزق الأوراق قبل بلوغ نهاية الكتاب؛ إن تعدد الأهداف، هو أعظم الأخطاء، لأنه يبدد الطاقات، ثم إن الزمن لم يعد يسمح بذلك التعدد، ولا يدعمه، ناهيك عن ضعف القدرة الذاتية على ذلك التشعب في الواقع، لذلك فإن تعدد الاهتمامات مع كثرة الأعباء، هو في الحقيقة شُغلٌ عن التقدم، وتعطيلٌ عن الإنجاز.

شخصيات لا تتكرر

لقد كانت شخصيات الأسلاف النابغين من أمثال ابن جرير الطبري الذي برع في التفسير والتاريخ معاً، وابن تيمية الذي برع في أصول الدين، والرد على المخالفين، والأديان، والفقه، بدرجات متساوية، والغزالي الذي برع في أصول الفقه والرقائق والرد على أهل الكلام، ومن قبلهم الشافعي الذي برع في الشعر وجميع علوم الدين، والرازي الذي كان فليسوفا وشاعرا ومفسرا ومؤرخا، والعقاد ذلك الرجل الذي لم يدخل الجامعة ولكن جلس تحت قدميه يتعلم منه كبار أساتذة الجامعات، إن شخصية هؤلاء الأفذاذ محل تقدير وإعجاب دون شك، لكن الظرف التاريخي مقارنة بالواقع ينبغي ألا يكون مغرقا في الوهم، حتى لا نهدر الكثير من الوقت في قراءات لا داعي لها، ونعكف على مطالعات لن نتخصص فيها، فنحن في زمن التخصص، بل والتخصص الدقيق أيضاً، ومن ظن نفسه موسوعياً فهو في الحقيقة عالق في الوهم بين جميع التخصصات.

محاسبة النفس

إن رسالة المنفلوطي تثير أشجاني: حين قال: (أبكيك يا عهد الشباب، أبكيك يا عهد الشباب, لا لأني تمتّعت فيك براح أو غزل, ولا لأني ركبت مطيّتك إلى لهو أو لعب، ولا لأني ذقت فيك العيش بارد الهواء كما يذوقه الناعمون المترفون، أمَّا اليوم وقد بدأت أنحدر من قمّة الحياة إلى جانبها الآخر فقد احتجب عني كل شيء، ولم يبق بين يدي ما أفكّر به لنفسي إلا أن أعدّ عدتي لتلك الساعة الرهيبة التي أنحدر فيها إلى قبري؛ مضى عهد الشباب وتقاربت خطواتي, وبدأت أزور الأطباء، ونعى الناعون إليّ كثيراً من أصحابي وأترابي وكأنهم نعوا إليّ نفسي، ودعا لي الداعون بالقوة والنشاط وطول البقاء وحسن الختام، أي أن حياتي على وشك الانحدار إلى مغربها، وما أنا بخائف من الموت، فالموت غاية كل حيّ، ولكني أخاف من كتابي الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاً أحصاها، والله يعلم أني ما ألممت في حياتي بمعصية جرتني إليها نزوة الشباب والعنفوان إلا ترددت قبل الإلمام بها ثم ندمت بعد وقوعها واستغفرت وتبت إلى الله، وورائي أطفالاً صغاراً لا أعلم كيف يعيشون من بعدي، ولولا ما أمامي ومن ورائي ما باليت أسقطتُ على الموت أم سقط الموت علي، وأنا ولله الحمد ما شككت يوماً من الأيام في وحدانية الله وآياته وكتبه وملائكته ورسله وقضائه وقدره، ولا أذعنت لسلطان غير سلطانه وعظمته. وداعاً يا عهد الشباب، فقد ودّعت بوداعك الحياة، وما الحياة إلا تلك الخفقات التي يخفقها القلب في مطلع العمر فإذا هدأت هدأ كل شيء وانقضى كلّ شيء).

نصيحتي لكل غادٍ

لقد لامَسَتْ رسالة المنفلوطي رحمه الله شغاف قلبي، لكنها في الجانب الأهم حفزتني إلى تقديم النصح لكل غاد، لا تستنزف زمن الشباب في لا شيء، لا تضيع فرص المعونة الإلهية بالركون إلى الراحة واللذة العابرة، ولا تضيع عمرك فيما لا يحقق لك إنجازاً في الواقع، لقد أضعتها أنا، وزمني غير زمنك إذ زمنك أقسى وأعقد، فلا يمكن لأحد الآن أن يعيد تجربة العقاد، ولا يمكن لأحد الآن أن يكون كابن تيمية والرازي أو الشافعي، الزمن ليس هو الزمن، ونمط الحياة والتعليم والتثقيف والقدرات الشخصية والملكات العقلية والنفسية ليست هي هي، ناهيك عن أشياء أخرى تتعلق بتعقيدات الحياة ومتطلبات الواقع، احذر هوى نفسك، وضعفك، انهض، فأمامك عمر حافل، الرحلة شاقة، وخير نبراس لها بعد الاستقامة هو التخصص، والتخطيط، وتعيين الهدف. أما السعادة التي بشر بها الباحثان البلجيكيان فلعلها تأتي في ذلك الموعد، أو قبله، ولربما لا يكون للسعادة سنٌ كما يدعيان.

أضف تعليقك هنا