الماجريات

بقلم: غدير رشاد علي ياسين

تناولت أحد الكتب التي عزمتُ على قراءتها العام، والتي شملتها في قائمتي 2023، وتهيأت للمطالعة، فإذا بخاطر يدفعني لثوثيق هذه اللحظة على مواقع التواصل الاجتماعي، فإذا بي قد غرقت في العالم الافتراضي، وفي خلدي أن ألتهم دقيقتين من وقتي فقط.

هذه لقطة مقتطعة من حياة تلميذة الحياة التي عزمت على أخذ العبرة من عصورها دون ممارسة الحياة كلها في عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا. إن هذه عملية اختلاس شبكي للوقت دون شعور، لذا، قررت تسليط الضوء على هذه الإشكالية، فهناك تباريح شقاوة وتوسلات وشفاعات.

ما بال الشباب صرعى على جنبات شبكات التواصل!

فما بال الشباب صرعى على جنبات شبكات التواصل في السنوات الذهبية لصنع تاريخهم، رغم أني أرى في الشباب نمو الوعي بالواقع وتطور لغته، فالشاب أصبح لديه مخزون واضح من تفاصيل الأحداث يستثمره في البرهنة أثناء نقاشاته، فهل هذه خبرات ممتازة يكتسبها طالب العلم؟ أم انقلاب لاواعي في المهمه الأساسيه، وتبادل مواقع بين الهامش والمتن؟ سرعان ما ظهر الأثر واضحاً في تعطل البناء العلمي، فلم نعد نلمس جديداً معرفياً.

ثمة ضيف خفي يزاحم برامجهم اليومية، ما يهبط العزيمة، لذا فإن معالجة هذا الموضوع مركبة، فنحن نحتاج لنموذج فكري نعايش جزءاً من تجاربه، واستثمارها في مداواة أسقام الدافعية التي ولدها الاستغراق في الماجريات، فعلينا التمييز بين فقه الواقع والغرق فيه، والتمييز بين المتابعة المتفرجة والمنتجة، والتمييز بين زمن التحصيل وزمن العطاء، والتمييز بين توظيف الآلة والارتهان لها.

البناء اللساني

ذكر الإمام ابن تيمية الماجريات من ما الموصولة بمعنى الذي، وجرى بمعنى وقع وحدث، وأدخلت عليها اللواصق كـ (ال) التعريف، و جمعت الجمع المؤنث السالم، فأصبحت “الماجريات”. ولا شيء يتواطؤ عليه أهل العلم اليوم كالشجى من حجم التحديات أمام المجتمع المسلم، كالحاجة إلى النهضة بإمكانيات المجتمع المدنية، ومطالبه الحقوقيه لتنسجم مع ثقافة الغالب على مستوى الثقافة والتصور، ومناهضه التيار الجارف لبث التدهور القيمي، ولا يمكن ذلك دون استيعاب أنماط تشكله وصيغ تفكيره، وطبيعة احتياجاته، وحدود إمكاناته دون الهبوط إلى دركة مطاردة المهاترات الفكرية ومماراة المسائل الصغيرة، وتبخر الانكباب على الجهود الجادة في المعرفة والإصلاح، لئلا نصل إلى كثرة الكلام وقلة العمل.

ولقد لمسنا في مدرسة البشير الإبراهيمي فقهاً للواقع وإصلاحاً له دون الذوبان في ماجرياته، حيث كان تاريخا من التكوين الجاد في حفظ العلم وضبطه، ومكث يدرس مجتمعه زمناً، و يصمم مشروع الإصلاح الواقعي الحصيف، واجتهاده في العمل الإصلاحي الفعلي، وصبره على البلوى، وتحذيره للشباب من الانهماك المفرط في جدل الماجريات عن العلم.

ومر بنا هتافات مالك بن نبي الحارة للأمة بأن الطريق ليس الانخراط العام في الخطابات والجدليات، والإفراط في لغة الحقوق والمطالبة، وإنما ما يسميه “منطق العمل” الذي يحول الأمة حسب تعبيره إلى “ورشة للعمل المثمر”.

إن تقصّي الأنباء اليومية المتدفقة وجدل الناس حولها، وتعقّب مسلسل الشطحات العقدية والشذوذات الفقهية والتقليعات الفكرية التي تتناسل على شبكات التواصل، والدوران اللاواعي في مثل هذه الدوامة، وخصوصاً عبر الهواتف الذكية اللصيقة، يفضي بالمرء إلى الانفصال التدريجي عن روح العمل والتنفيذ والإنتاج، والشعور بأن المشاهدة والتعليق هي الحالة الطبيعية التي يعيشها طالب العلم والمصلح.

حالة الاستغراق على مواقع التواصل الاجتماعي

وتؤدي حالة الاستغراق هذه في النهاية إلى انحلال الدافعية وهبوط العزيمة، ويؤدي إدمان هذا الأمر إلى حالة “التفكير الأفقي” حيث لا يُبصر المرء إلا الغلاف والقشرة الخارجية من المتغيرات، ولا يعرف إلا المنتج النهائي من التصورات الذي يُقدَم للمستهلك العام، لأنه بكل اختصار غادر معامل الإنتاج إلى رفوف التسوق. لذا، ينبغي للمرء أن يكون حاذقاً في صرف طاقته الذهنية في المواد المجدية.

ومن أجمل الاستشهادات كلام الإمام ابن القيم حين قال “وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، ودفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها… ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا، وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا، وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء”.

إغراء أم مهرب؟

إنَّ العديد من الدراسات والأبحاث أكدت أنَّ إدمان التواصل الشبكي والاستغراق فيه وتفاصيله دون نتيجة؛ هو آلية هروب نفسي للفرار من تعقيدات المهام والمطالب العلمية والعملية، ويستشهد بقول أحد الباحثين: “هذا النوع من التفكير المكروب يؤدي إلى استخدام قهري للإنترنت لتوفير آلية هروب نفسي من المشكلات الحقيقية أو المتخيلة”. ونشير إلى أنَّ التجارب الشخصية للطلاب يظهر فيها الإلحاح النفسي لزيارة مواقعهم المفضلة في أوقات ضغط المهام أو أوقات العبادة ونحو ذلك، ليس لإغراء هذه المواقع، بل حيلة ذاتية للتنفس خارج ضغط المهام المكتظة والثقيلة!

فالناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، بهذا الاقتباس لشيخ الإسلام، ندرك خطورة استمراء مواطأة النظراء، بحيث يخفى ألم الضمير عند طالب العلم الذي انهمك لمتابعة الماجريات حينما يجد نظراء له يفعلون ما يفعل! فمبدأ سقوط الثقل، وقوع الأنس بكثرة السماع. فعجباً من ابن آدم يتذمر من ضيق الوقت، وينوح من الالتزامات والانشغالات! ثم إذا خلا بنفسه أطعم وقته مسبعة الماجريات.

بقلم: غدير رشاد علي ياسين

 

أضف تعليقك هنا