أسرار القراءة

بعد يوم حافل بالأحداث المهمة، والأفعال الطيبة منها والآثِمة، تحاول أن تَشغل نفسك قبل النوم بكل الوسائل التي جادت بها التكنولوجيا. لكنك تشكو في الغالب من نفس الإحساس الذي انتاب ديكتاتور محمود درويش في إحدى خطبه الموزونة:

ضجَر

ضجَر

ألا تشعرون ببعض الضجر ؟

ثم تعبث أصابعك بالهاتف الذكي. فتشعر أنْ لا شيء من هذه التطبيقات المألوفة يُسلِّي وحدَتك ! ويجُول بصرُكَ في أنحاء الغرفة، فيقع على كائن لطيف تركتَه يوما على مقاعد الدراسة أو خلف أسوار الجامعة. تُقلب أوراقَه بحسرة.

آه.. ما أجمل تلك الأيام ! كانت القراءة طقسَك اليومي، ونافذةً مُشرعَة على الأماني والأحلام.  لمّا يلفَحُكَ الواقع بشمسه وغباره، تُسرع إلى الكتاب لتنعَم بظله ، وتحظى بين دفتيه بالنشوة والسكينة!

هل هناك شيء أفضل من الجلوس بجوار مِدفأة برُفقةِ كتاب ؟

وعندما تتذكر ما قاله “ليون” في رائعة (مدام بوفاري) للروائي الفرنسي غوستاف فلوبير:” هل هناك شيء في العالم أفضل من الجلوس بجوار مِدفأة برُفقةِ كتاب ؟”، تقررُ العودة لكن شيئا ما يعترض سبيلَك ويهمس في أذنك : لا يكفي أن تُمرِّرَ العقل والعين بحرص على السطور، فللقراءة أسرارُها التي تحقق لك المتعة والفائدة، وبهجة الانفعال. إذن لا بد من كشفها والتنقيب عنها في رفوف مكتبتك التي علاها الغُبار !

أسرار القراءة

حين تقف أمام عشرات، وربما مئات، العناوين والأغلفة الزاهية والمثيرة، ينكشف السر الأول: إن عناوين الكتب مثل أسماء الناس، يقول أورهان باموق، الأديب التركي الحائز على جائزة نوبل عام 2006، فهي تساعدنا على تمييز الكتاب من بين مليون كتاب آخر يشبهه. لكن أغلفة الكتب مثل وجوه الناس: إما أنها تُذكرنا بسعادة عرفناها ذات يوم، أو أنها تَعِدُ بعالم مبارك مازال أمامنا أن نستكشفه.

وما إنْ تُلامسْ أناملُكَ غلافَ كتابٍ قرأتَه قبل سنوات، حتى تعود بك الذاكرة إلى يوم بعيد، تكورتَ فيه على مقعد الحديقة أو في أحد أركان الغرفة لتَلِجَ عوالمه المُخبأة, عندها ينكشف لك سر ثان مفادُه:  بعض الكتب لا تشعر بدفئها إلا بعد قراءة ثانية وثالثة، فما يعنيك ليس هو المحتوى بل تلك الهندسة الخفية التي تنقلك من انفعال إلى آخر لتستعيد أشواق الطفولة، وشغب المراهقة وتلصُّصَها على عوالم الكبار. فَتقلب الصفحات بلهفة بحثا عن فقرة أرّخت لبعض أحلامك، وأخرى ارتطمت بها أمانيك لتتناثرَ هجرةً، وفراقاً، أو مغامرةً يائسة.

السر الثالث للقراءة

دعني أخبرك عن سر ثالث تغذي به القراءة بساطتنا في عالم شديد التعقيد، وضُعفَنا أمام تقلبات الحياة. إنه التعويض عما نلاقيه في الواقع من خيبة وعوائق .لقد كان العقاد في مرضه الشديد الذي ألمَّ به، تتجه يداه إلى نوعين من الكتب بينهما اختلاف واضح في الموضوع، النوع الأول تغلب عليه النزعة الجسدية والمُتَع المادية. والثاني يهتم بالبحث عما وراء الطبيعة، وسبرِ حقائق الروح وعالم الغيب. إلا أن الصلة التي تجمع بينهما هي التعويض النفسي: تعويض الكادح والمتعب في عالم الخيال بما لا يجده في عالم الواقع!

السر الرابع للقراءة

ولاشك أنك مثلي، لَقَّنوك في المدارس أن قراءة الكتب العظيمة تتم من أجل الفائدة لا المتعة. لم يرغبوا أن نكون قُراء، بل جرى تكييفنا لنخدُم من هم أقل حظا منا. وحين جرت مياه كثيرة تحت الجسر تَنبَّهنا إلى أن القراءة فعل اتصال بعالم متحرك لا يهدأ.  لذا تمتع دون أن تصدق كل ما تقرأ؛ ذاك هو السر الرابع المبثوث بدهاء في ثنايا آلاف الكتب، فحين تستعيد هِمَّتك القرائية  تنمو في وعيك قناعاتٌ متضاربة، وآراء ومقولات متباينة، غيرَ أن حرصك على مواصلة القراءة  يعزز قدرتك على الاختراق بدل العيش في خط مواز للسائد والمألوف.

أنواع القرّاء

إن ثمة ثلاثة أنواع من القراء، يقول الأديب الألماني وُلفغانغ فون غوته في رسالته إلى يوهان روشيلتز: النوع الأول يستمتع دون تقييم؛ والثالث يُقيم دون استمتاع؛ النوع الآخر في الوسط ، يُقَيم اثناء الاستمتاع ويستمتع أثناء التقييم. الفئة الأخيرة تعيد حقا إنتاج عمل من الفن بشكل جديد. وبتعبير آخر لألبرتو مانغويل في “فن القراءة ” : القارئ المثالي يُدمر النص، القارئ المثالي لا يأخذ كلمات الكاتب كحقيقة مُسلَّم بها !

وعندما تنهمك في القراءة يزداد فهمك للنصوص وقدرتك على سبر أغوارها. وهنا تمنحك القراءة سرها الخامس: جرِّب أن تتذوق ..جرِّب تلك اللذة المتولدة عن فهم اللغة والمحتوى، ثم العمق الذي يكشف لك نفسية الكاتب، ومحيطه الاجتماعي والثقافي. بل إن بعضَ النصوص تأخذك إلى حدود الأعماق اللاشعورية، تماما كما فعل فرويد في تعامله مع نصوص أدبية كقصة ( جراديفا) لِجِنْسِن، وحكايات أوديب وهاملت والإخوة كارامازوف، حيث جعل منها مرجعيات جوهرية لأهم مقولاته وجهوده الخاصة بالتحليل النفسي. القراءة اكتشاف !

من زاوية أخرى تعرض عليك القراءة آلاف الشخصيات التقية والآثمة لتُجردك من كبريائك. وذاك هو سرُها الآخَر وليس الأخير : أن تصبح إنسانا أفضل، لأن سحر القراءة يكمن في تحويل المعرفة والنصوص المتراكمة إلى تجربة، ثم إلى هوية شديدة التداخل مع شغفك اللاحق بالكتب.

هل للمحيطين بك دور في تنمية مهاراتك القرائية؟

عادة ما يكون الطيبون سببا في بلوغك هذه المرتبة. تقول دونالين ميللر في دليلها المميز “الهامسون بالكتب” : كانت أمي هي عالمي، وهي التي أدخلت القراءة إلى هذا العالم. وعندما أسترجع كيف قضيت طفولتي منكبة على قراءة الكتب على الدوام، أتساءل أحيانا إن كانت أمي قد ندمت على أنها حفزتني على القراءة في هذه السن المبكرة !

في محيط يبدو فيه القارئ إنسانا غير اعتيادي، يُداهمك صدى بعض هذه الكلمات : لا تحتاج أن تقرأ مكتبة بكاملها، يكفيك الانتفاع بقدر من التوازن المناسب بين المعرفة و الجهل ! لكن حين تصبح شخصيتك مزيجا من آلاف الشخصيات المبثوثة في كتب أحببتها، تدرك أن من العسير عليك حقا قضاء حياتك مع شخص لا يقرأ !

فيديو مقال أسرار القراءة

أضف تعليقك هنا