سبعة قوانين لفهم الكتاب المبين

نعم نحن نقرأ القرآن الكريم، نعم نحن نحفظ القرآن الكريم، نعم نحن نعتني بالقرآن الكريم، نعم نحن نقدِّس القرآن الكريم، كثيرةٌ هي “نعم” عن القرآن الكريم ، ومن أعظمها نعم نحن نسعى لفهم القرآن الكريم، لكن الملاحظ أن القلة هم مَن وُفقوا لذلك. نعم نحن نسمع الكثير والكثير ممن يرغب في فهم القرآن الكريم ويحرص على ذلك، والنادر مَن يدرك الطريق للفهم الصحيح، ومن أسرار ذلك الحرص على القراءة ابتغاء الأجر دون التركيز على المعنى والحِكم الربانية في هذا الكتاب المعجز.

قوانين وإرشادات تعينك على فهم القرآن

وقبل الدخول إلى عالم القرآن الكريم لابد من قوانين وإرشادات عامة تعتبر الركيزة الأساسية التي تعينك -بعد الله – على فهمه والاغتراف من معينه الصافي، وبفضل الله جمعت مجموعة من القوانين المهمة والتي ستكون مفتاحاً لفهم القرآن، وبدونها سيكون الفهم صعباً وربما ملتبساً. وبعد النظر والتأمل لاحظت أنها تكون كثيرة وكبيرة، فاجتهدت في تلخصيها واخترت أهمها ودونتها هنا لتكون عقداً يسهل لبسه لكل راغبٍ في فهم كتاب ربه، والله أسأل ان تكون خالصة لوجهه، معينة لعباده على فهم كتابه، وإليك إياها:

  1. “بلا مقررات” حين تفتح المصحف فلا تطلب منه ما يوافق ما في رأسك،بل اجعل ما في رأسك يوافق ما تقرأه، كما يقولون :”استدل ثم اعتقد”، فلا تدخل إلى القرآن الكريم بمقررات سابقة لتفرضها على القرآن، ولكن سلِّم للقرآن سواء كان في المعتقدات أو الأخبار أو غيرها.

كلنا نشأ في بيئة معينة لها عاداتها ومعتقداتها والتي نتشربها منذ الصغر ونتربى عليها ونؤمن بها ، وهي تصاحبنا فتلقي بظلالها على ما نقرأ من القرآن فنفسره أو نفهمه بناءاً عليها لا على ما يريده القرآن، نعم قد يتوافق الاثنان لكن القيادة يجب أن تكون للقرآن لا لغيره مهما كان.

  1. وازن” أحد أهم مغازي القرآن الكريم هو تحريك القلب والعقل واستثمارهما في تحقيق الرسالة القرآنية على أرض الواقع، وهذا يتطلب استصحاب ذهنك وقلبك مع الآيات القرآنية ولا تكن جامداً مصمتاً.

ومن الأخطاء التي يقع فيها البعض هو تحريك العقل دون القلب أو العكس مما يسبب خلل في التوازن في فهم النص ما بين تفخيم العقل وتعظيم القلب، فالذي قال “أفلا يتفكرون” ويعقلون وغيرها هو الذي قال ” تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ” وهو الذي قال”  إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ”. فنحن بين أربعة أصناف: تعطيل العقل والقلب والثاني تعطيل العقل وتشغيل القلب، والثالث تعطيل القلب وتشغيل العقل، والرابع وهو المطلوب تشغيل العقل والقلب.

  1. التفرد“: اقرأ معي هذه الجملة “نصٌ حكيمٌ قاطعٌ له سِرّ” تلك الجملة جمعت الحروف المقطعة في سور السور كاملة، والمغزى هنا هو أن هناك في القرآن ما تفرد الله وحده في معرفة حقيقته، فلا تُجهد نفسك كثيراً في إدراك حقيقته، مع السعي في معرفة معناه، وسأذكر خمس ملاحظات على تلك الحروف المقطعة من باب التأمل:
  • الحروف المقطعة هي أربعة عشر حرفاً من الحروف الأبجدية في (29) سورة أي (25%) من القرآن الكريم.
  • جاءت هذه الحروف على (14 هيئة) :الم – المص – الر – المر – كهيعص – طه – طسم – طس – يس – ص – حم – عسق – ق – ن.
  • لم تأتي الحروف المقطعة إلا في بداية السور.
  • بعد الحروف يكون الكلام عن القرآن في 23 سورة ما يعادل تقريباً 80%، والبقية في قضايا مختلفة.
  • تنوعت الحروف بين حرف واحد3سور،وحرفين 9سور، ثلاثة أحرف 13 سورة، أربعة4 أحرف سورتان، خمسة أحرف سورتان. هذا فقط مثال واحد وهناك أمثلة أخرى لا يسع المجال لذكرها هنا.
  1. فن القصص” أكثر من ألفي آية(2000) تتحدث عن قصص أي ما يعادل ثُلُث القرآن ، وربما أكثر ، والمتأمل سيلاحظ أن القرآن الكريم لا يوجد فيه أي تاريخ لأي حادثة، أي أنه لم يذكر أنه في سنة كذا حدث كذا ، وهذا فيه ملمحٌ مهم وهو أن القرآن الكريم ليس كتاباً تاريخياً وأن سرد القصص في القرآن فن جميل وبديع يختلف عن السرد البشري. ومن المفيد جداً- وربما ضروري- مراجعة مقدمة كتابنا “مشاهد قرآنية” فقد ذكرت فيه عشرة فروق بين السرد الرباني والسرد الإنساني للقصص بما لايسع المجال لإعادته هنا.[1]
  2. بلا عِضين” ماذا لو قال لك أحدهم أن شرب الخمر جائز وفيه منافع بدليل قوله تعالى :”يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا..” ؟ نعم تلك آية من كتاب الله -أو جزء منها- لكن الحُكم لايُؤخذ من آية واحدة دون الآيات الأخرى في الموضوع نفسه، فالخمر حرام بدليل قوله تعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ..”[2].

وهكذا في بقية القضايا، والشاهد هو أنه لابد من جمع الآيات التي تتحدث عن الموضوع والنظر إليها بشمولية للخروج بالحكم النهائي، وإلا ستكون نظرتنا قاصرة بل غير صحيحه، وربما فاسدة ومنكرة، ومَن تأمل العديد من المحاورات والمناقشات يرى أن بعض المتحدثين يقتطع من الآيات من يوافق رأيه، وهذا ينطبق عليه ماذمَّه الله في كتابه حيث قال :” الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ” أي جزّءوه فجعلوه أعضاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. ومن أخطر القضايا في هذا القانون قضية كسر الإلتباس أو رد الشبهات والتي تناولها القرآن الكريم بشكل بديع ولكن بجمع الايات في القضية الواحدة دون بترها أو فصلها عن بعضها.[3]

ومن صور الجمع أيضاً الحديث عن الصفات البشرية للممدوحين والمبغوضين أو للصالحين والطالحين، من أجل توضيح الطريق للسالكين ليجتهدوا في اكتساب سمات أهل الصلاح والفلاح وتجنب سمات أهل الطلاح والخسران. والمتأمل في القرآن سيدرك أنه يعرض صفات الفئتين بأكثر من مكان وبعدة أساليب، مما استدعى لطالبي تحقيق تلك الصفات جمعها من مواطنها المختلفة للخروج بالصورة الكاملة لأهل تلك المنزلة سواء في الفلاح أو الخسران.

فالمؤمنون والمتقون والمحسنون وغيرها من أهل الثناء في القرآن، تكرر ذكر صفاتهم في عدة مواطن، وهذا استلزم جمعها وتصنيفها تمهيدا للتخلق بها و الحصول على درجة أهل تلك المنزلة، وفي المقابل الكافرون والمنافقو والفاسقون وغيرهم من أهل الذم في القرآن ذكرت سماتهم في عدة مواطن، وهذا تطلب جمعها للسعي في التخلص منها إن وجدت أو عدم التخلق بها من الأصل. وسأكتفي بمثال واحد وهو صفات المؤمنين، ذكرت في القرآن الكريم في خمس مواطن وأربع سور، وفي كل موطن تذكر صفات قد تختلف وقد تتفق، والجدول التالي يوضح ذلك:

م السورة الصفات
1.        الحجرات آمنوا بالله ورسوله لم يرتابوا جاهدوا بأموالهم جاهدوا بانفسهم
2.        النور آمنوا بالله ورسوله يستأذنون
3.        الأنفال آمنوا هاجروا جاهدوا في سبيل الله آووا نصروا المؤمنون حقا
4.        المؤمنون في صلاتهم خاشعون عن اللغو معرضون للزكاة فاعلون لفروجهم حافظون لأمانتهم وعهدهم راعون على صلاتهم يحافظون
5.        الأنفال وجلت قلوبهم عند ذكر الله اذا تليت آياته زادتهم ايمانا على ربهم يتوكلون يقيمون الصلاة مما رزقناهم ينفقون المؤمنون حقا

ومن اليقين أنك ستسأل ما السر في تغيير سمات المؤمنون من موطنٍ لآخر؟ اترك الإجابة لك لتطبق قانون “الملاحظة مفتاح”.

  1. لا تناقض” من أبجديات الايمان بالقرآن الكريم أنه ليس فيه تناقض :” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” ومن صور الاختلاف التناقض، لكنك ربما تقرأ آيات يعارض بعضها الآخر، وقد أشرنا إلى أهمية إعمال العقل والقلب، فلا ينبغي أن تصمت ولا تتأمل، بل الواجب أن تتأنى وتسأل، فمثلاً قوله تعالى:” “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ “(56)القصص تدل بوضوح على نفي الهداية عن الرسول ﷺ وحصرها لله وحده فقط، لكنك تقرأ بعد ذلك ” ..مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ “(52)الشورى. وهي واضحة الدلالة بكونه ﷺ يهدي، بل إنها مؤكدة باللام “لتهدي”، وبـتأمل قليل مع جمع النصوص في الهداية يتبين أن الهداية نوعان: هداية إرشاد وبيان وتوضيح وهذه ممكنه للبشر ومنهم الرسول الكريم ﷺ بل هو الذي يرشد إلى الصراط المستقيم وهذا ما أثبته له القرآن الكريم، والنوع الثاني هداية توفيق وهذه خاصة لله وحده الذي يعلم ما في القلوب وهي التي نفاها القرآن الكريم عن الرسول العظيم ﷺ .
  2. الملاحظة مفتاح” وهذا القانون كنزٌ ثمين وبوابة مهمة للدخول إلى عالم الإبداع والإتقان في كتاب ربنا الرحمن، ومن الأشئلة المهمة جداً: ما الذي أعجز العرب والعجم على أن يأتوا بسورة من مثل القرآن – وأقل سور القرآن 10 كلمات 42 حرف–؟ وبمعنى آخر ما وجه الإعجاز في القرآن الكريم؟

تذكر أن هذا التحدي قائم في كل سورة من سور القرآن كله (114 سورة). إنه النظم والسياق القرآني في صناعة الجمل من حيث الاختيار والتركيب والإبداع والبيان العربي الذي لايستطيع على مثله الإنس ولا الجن. ولمعرفة شيئ من هذا الإبداع لابد من التدريب على الملاحظة لكل النسق القرآني ابتداءاً من الحركات والأحرف ثم الكلمات والجمل ثم المقارنات في التعبير وغيرها كثير.

وهذا مقام يطول شرحه، فمثلاً قوله تعالى “عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ” وردت مرتين والملاحظة هنا أن القرآن الكريم استخدم حرف الباء وليس حرف من، والعادة أننا نعبر بالشرب بحرف من فنقول نشرب من، فما أسرار اختيار حرف الباء هنا دون حرف من[4]؟  وقد سطرت بعضه في كتابي: “مدكر”[5] و “ماسات قرآنية” يمكنك الرجوع إليها فهي مهمة جداً في هذا الباب، فبفضل الله جمعت فيهما أكثر من ثلاثين(30) اسلوباً مبنياً على الملاحظة.

فمن الخطأ الاعتماد على موطن واحد وبيان صفاته على أهل صفات المؤمنين وحدها، لكن جمعها بهذا الشكل يعطيك دلالة واضحة على عناصر الإيمان المذكورة في القرآن تجمعها وتنسقها لتخرج بحقيقة سمات المؤمنين[6].

تلك سبعة قوانين هي بوابة الدخول إلى العالم البديع عالم القرآن الكريم، والموفق هو الذي يجتهد في تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع، فيقرأ ويتدبر ويعمل لعله أن يحصل على تلك المنزلة الرفيعة التي أخبر عنها رسولنا الكريم ﷺ :”إنَّ للَّهِ أَهْلينَ منَ النَّاسِ قالوا: يا رسولَ اللَّهِ ، من هُم ؟ قالَ: هم أَهْلُ القرآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وخاصَّتُهُ[7]

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وشفاء أسقامنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

فيديو مقال سبعة قوانين لفهم الكتاب المبين

 

أضف تعليقك هنا