التَارِيخ وفَلسفة التَارِيخ عِند هِيجل؛ نحو قِراءة أَولية ومُبَسطَة

بقلم: محمد بوداس

مُلخص البَحث:

جَاءَت فَلسفة هِيجل كَتَتويج للمدرسة المِثالية الألمانية التي وُلِدَت مع إيمانويل كَانط، فمُنذ أن أَصْدَر هذا الأخير كِتابُه “نقد العقل المحض” سنة 1781م، لِتظهر هذه المدرسة القائِمة على أسبقية الفِكرة على الواقع وتَطور الأفكار في التاريخ وتَجَسُدِها في الواقع والتاريخ كذلك…ليأتي هِيجل ويَصِل بها إلى أعلى مَراحِل النُضج والتطور.

حَاول هِيجل في مَشرُوعِه الضخم تَناوُل عِدة مَناحي فِكرية وعِدة فُروع عِلمية، وهذا ما جعل فَلسَفته مُعَقدة نَوعا ما، أي أنها صَعبة المَنَال بعض الشيء؛ استِيعابا وَفَهما. لذلك نَجد المَتنُ الهِيجِلِي قَد تَناولهُ، بعد وفات صَاحِبُه، عِدة شُراح وعِدة نُقاد حاولوا شَرح أفكاره وتفسير مُكْنُونِيها، كما تَعرض تُراث هِيجل المُمتد للنقد؛ سواء من دَاخِل المدرسة الهيجلية نَفسها (تيار اليمين الهيجلي) أو من خَارج هذه المدرسة نَفسها (اليسار الهيجلي)…كل هذا الشرح، التفسير، التحليل والنقد كذلك زَاد المدرسة الهِيجلية غِنا وتَوسُعا وَرَوْنَقا وتَبسِيطا كَي تبلغ إلى أعلى قدر من مُهتمين بِها؛ طبعا شَرحُها وتبسيطها دون الإخلال بركائزها الأساسية على المُستوى الأبستمولوجي، وهذا ما جَعل هِيجل وأفكاره حاضرا في حاضرنا ومُمتدا إلى المستقبل؛ طبعا لأنه فيلسوف نَسَقِي وشمولي وعبقري زمَانِه…

المَفَاهيم المِفتاحيَة: الفلسفة، المِثالية، الهِجيلية، الأبستمولوجية، الديَالِكتيِك، الرُوح المُطلق، الفِينومينولوجيا.

تقديم إشكالي:

هِيجل؛ هُو الفَلسفة بِلحمها ودَمِها، هكذا قال أحدهم[1] مُتحدِثا عن جُورج وِيليام فريدريك هيجل. الذي وُلِدَ بِمدينة شتُوتجَارت الألمانية سنة 1770م، من أُسرة بُرجوازية، وكان هِيجل مُنذ الصِغَر مَهوُسا بِتَتَبع مَا يَقع مِن أَحداث سِياسِية أنداك، وقد عَاصَر مَجمُوعة من المُتَغيرات التي عَرفتها السَاحة الأوربية عامة، وتُعتَبر الثَورَة الفرنسية لِسنة 1789م أَهم أحداث أوربا لِتلك الفَترة، وقد رأى فِيها هِيجل (الثورة الفرنسية) الشَرَارَةُ التي سَتُوقِظ  شُعوب أوربا من السُبات لِبُلُوغ مَرحلة الوعي التي ستؤدي حَتما إلى الحُرِيَة. وقد رَأى هِيجل في وُصُول نَابليون بُونَبارت إلى ألمانيا (بروسيا أنداك) بِمثابة الحُرية فَوق صَهوة حِصان.

كان هِيجل فَيلسوفا عَقلاَنِيا بِامتيَاز، فَقد رَأى في تَطور التاريخ تَطورا للعقل والفكر؛ تطور الأفكار عَبر الثُلاثِيَة المَعروفة في الجَدل الهيجلي (فِكِرَة+ نَقِيض الفِكرَة= فِكرَة جَديدة)، والفِكرة الجَديدة تَتَحول نَفسها إلى فِكرة أو فَرضية أولى ليبدأ مَسَار تَطور الفِكر من جديد وإلى ما لانِهاية، طَبعا الفِكر غَير مَعزُول عَن الوَاقِع، بَل الفِكر يَتجلى فِي الواقع، كما تجلت فِكرة الدولة في التاريخ من خِلال المُؤسسات والدساتير والهياكِل الإدارية ومُختلف الأنظمة السياسية…

تَرَكَ لَنَا هِيجل ثُلة مِن الأَعمال المَعروفة والمَشهُورة، مِن قَبيل: كتاب فِينُومِينُولُوجِيا الرُوح، العَقل في التاريخ، أصول فلسفة الحق… لقد كان جُورج هِيجل مُغْرَماً بِالحضارة والعقلية اليونانية القديمة، وأثناء اشتغاله على مسألة العقلية اليونانية، تَوَصل هِيجل إلى فكرة مفادها أن اليُونان القُدماء كانوا مَهووسين بالمغامرة والإبداع وحُب الحياة…

عكس العقلية التي جاءت بها الديانة والفلسفة المسيحية التي تَكره الحياة، وتَدعو إلى الزُهد وعَدم حُب الحياة والمُغامرة، وبالتالي فالديانة المَسِيحية جَعَلَت الإنسان تَحت رَحمة العَقل المُطلق (الله…) وفَاقِد للإبداع، لذلك فَهِيجل كان يَدعُو لإصلاح الديانة المسيحية كَي تَصبح مُفعمة بالحياة ومُنسجمة مع العصر والتاريخ.

فالديانة اليُونانية كانت تفيض بالحب، وكانت تُعلي بالحياة، لذلك فقد رأى هيجل في الديانة اليونانية القديمة ديانة أُناس أحرار، لا يعرفون وطأة الخطيئة…

يُعْرَفُ هِيجل أَحيانا بِفكرة “جَدَلِيَة العَبدُ والسيِدُ”، والتي تقوم على مسألة جدلية مُرتبِطة بالاغتراب والوعي، فكلما بلغ العبد مرحلة الوعي أدرك الحرية وثار عن السيد، والعكس صحيح؛ كُلما انعدم وعي العبد إلا وارتبط أشد ارتباط بسيده، لذلك يُمكن القول على أن هيجل فيلسوف الحرية: “ربط الحرية بالوعي والعبودية بالجهل”.

أثناء حَدِيِثة عن عَوَامِل ظُهُور الفَلسفة، ورأى في الشعب اليوناني وأرضِهم مَوطنا للتفلسف، ذَهب هيجل في مسار مُعاكس فيما يتعلق بعوامل ظُهور الفلسفة في اليونان بالضبط، حيث ربط ظهور الفلسفة بالدولة والسياسة والحرية في المجتمع الإغريقي، عكس مجموعة من مؤرخي الفلسفة الذين ربطوا ظهور الفلسفة بعوامل جغرافية، مرتبطة أساسا بِموقع المُدن الدول اليونانية، هذا الموقع الذي يتوسط البحر الأبيض المتوسط مما جعل أرض اليونان مُنفتِحة على العالم القديم أنداك وشعوب العالم المتوسطي: الفينيقيون، الأمازيغ، الفرس، الحثيين…

توفي الفيلسوف جُورج ويليام فريدريك هيجل سنة 1831م، بعد إصابته بمرض الكُوليرا، مَات وترك إرث فكري عظيم ونَسَقي، إرث فكري شَمِلَ عدة مجالات معرفية، وانقسم الفكر الهيجلي بعد وفاته إلى: هيجلي اليسار وهيجلي اليمين، وقد كان المُفكر الألماني كارل ماركس من رواد هيجل في البداية (اليسار الهيجلي)، هو الفيلسوف لُودفِينغ فيُورباخ صاحب كتاب “جوهر الدين” والذي ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور نبيل فياض.. بَعد هذه التوطئة، يُمكن لنا أن نطرح هذه التساؤلات التي سنعمل على تفكيكها إلى محاور بُغية الإجابة عنها:

  • ماهي نظرة هيجل إلى التاريخ؟
  • وما هي نظرته تجاها فلسفة التاريخ؟

1.هِيجل والتارِيخ:

في كتابه، أو دَعنا نَقُول في مُحاضراته المُعَنْوَنَةُ بالعَقل في التاريخ، يبدأ هِيجل وَهو يُنَبِهُنَا إلى أنه لا ينوى أن يعرض علينا مجموعة من الملاحظات العامة حول التاريخ أو أن يُقدم تاريخا جُزئيا قوميا، أعني تاريخ أمة من الأمم، بل التاريخ أو التاريخ العام أعني تاريخ الإنسان وتطوره الحضاري بغض النظر عما في هذا التاريخ وهو لِهذا يبدأ بِفحص المَنَاهِج المختلفة التي يُمكن أن يُكتب بها التاريخ[2]. إن تأمل هذا القول يُبين أن هِيجل في الكتابة التاريخية لم يَكُن مؤرخا تقليديا، مؤرخ يهتم بالتأريخ للأحداث والسير من الأشخاص والملوك وتعاقب الدول…وإنما تَسَلْسَلَ بعد تراكم مَعرِفي لِيصِل إلى مرحلة فلسفة التاريخ؛ أي التنظير للتاريخ بِشكل عام، والمحاولة للبحث عن قانون ينضوي تحته سير تاريخ البشرية.

كَما عَمِل هيجل، أثناء اشتغاله في حقل التاريخ، على التنظير للتاريخ في الجانب المُتعلق بالمنهج وطرُق الكِتابة التاريخية. طبعا من أجل تتبع أدق لهذه المسألة، وُجب التعريج حول اهتمامات هيجل في فلسفة التاريخ، والتي تمثلت عند هيجل (يعني فلسفة التاريخ) بِمنظورين أساسيين: المنظور الأول يجعلها دِراسة لِمناهج البحث، أعني الطُرق التي يُكتب بها التاريخ وكيفية التحقق من صيحة الوقائع، والكشف عن مدى صِدق الوقائع ومُناقشة فِكرة الموضوعية في التاريخ، أما المَنظور الثاني لِفَلسفة التاريخ فهو النشاط التَركِيبي، وفِيه لا يدرس الفَيلسوف مناهج البحث وإنما تقديم وِجهة نظر عن مسار التاريخ[3]. طبعا هِيجل عمِل على تنزيل الجانب الأول من فلسفة التاريخ بُغية تطوير مناهج هذا العلم، ذلك من خلال تتبعه للتاريخ الكوني للإنسانية، وفيما يَتعلق بالجانب الثاني من فلسفة التاريخ، فَقد عمِل على إيجاد قَوانين تَحكم سير الإنسانية، والمسار الذي سلكته وسَتَسلكه. والمُتَتَبِع لِلمَتن الهِيجِلِي سَيجد هذا جَلي في مشروعه المُمتد؛ سواء كيفية ظُهُور الحضارة وتطورها، أو العوامل المُتَحكمة في الإبداع البشري بِشكل عام…

2.هِيجل والفَلسفة التاريخ:

مِن الصعب جِدا فَصل أفكار فلسفة هيجل في التاريخ وفلسفة التاريخ والفلسفة بِشكل عام، فهو صَاغ مَشروعه بِشكل نَسقي مُتكامل قَائِم على أَسبقية العَقل والأفكار عن الواقع والوجود. ومَشرُوع هِيجل الذي جاء في سياق تَطور المثالية الألمانية المَولُودَةُ مع إيمانويل كَانط، أو كما يَقول بِرتْرَانْد رَاسل: كَان هِيجل ذِروة الحَركة التي بدأت بِكانط في الفلسفة الألمانية [4]. طبعا وهذا لا يَعني أن هيجل كان على نفس نهج كَانط، بل العكس التام، فَهِيجل خَالف كَانط في عِدة قَضايا كَما سَنُبَين ذلك في مَتن البحث.

طبعا هذا سيجعل من هيجل يرى الواقع والتاريخ كله كتجسيد للأفكار، أو كتجلي للروح المُطلق، فالوجود حسب هيجل غير مُنفصل عن الفكر وإنما مُتماسك معه، لذلك فالواقعة أو المؤسسة قبل أن توجد هي في السابق عِبارة عن فِكرة تَسلُك مَسار ثلاثي، في البداية فِكرة قبل أن تتجسد في الواقع، وفي هذا السياق يأتي قوله الشهير: كُل مَا هُو عَقلي هُو وَاقِعي وكُل مَا هو واقِعي هو عَقلِي، والعَقلي (الفِكرة) يَسِير في تَطور إلى أن يَبلُغ المُطلق الذي يُعتبر حاضِن كُل الأفكَار، أو هو الكُل في تعقيدِه، يَدعُوه هِيجل المُطلق، والمُطلق رُوحي[5]. ومن هنا يُمكن أن نَتَبَين أن الرُوحي أو الفِكري سَابِق، لذلك فنظرة هيجل إلى التاريخ تَرتبِط بِمسألة تَطور العَقل، ومَدى وَعي العقل…

وأثناء عمله كفيلسوف للتاريخ، أكد هِيجل على أن التاريخ هو تطور لِلرُوح، وفي التطور التاريخي للروح كان ثمة ثلاث أطوار: الشرقيون واليونان والرومان والألمان[6]. ومن هنا يُمكن أن نَقُول أن نظرة هيجل للتاريخ هي نظرة تطورية من مرحلة إلى مرحلة، وكل مرحلة لها خُصوصيات ومُميزات عن الأخرى، طبعا لا يجب أن نغفل مسألة تطور الروح أو العقل الذي يجد في البشر والتاريخ وَعيَهُ، وكُلما تَقدم التاريخ إلا وتطورت الأمُور. فَمثلا حَسب هيجل، المُجتمعات الشرقية القدِيمة كانت تتميز بِالعُبودية بِشكل كُلي، أما اليُونان فقد نَزحُوا نَوْعاً مَا إلى الديموقراطية والحُرية، لِتأتي مَرحلة الفِكر الحُر مَع تَطور التارِيخ، طبعا هِيجل يَربِط الفِكر الحُر بِالعقلية البْرُوسِيَة أنداك (ألمانيا).

أثناء حَدِيثه عن الحُرية، رَبط هِيجل أشد ارتباط بين الحُرية والقانون، وهنا يُمكن ان نلمس تَأثِير مَدرسة التنوير الفَرنسية على هيجل، خاصة تأثير جون جاك روسو. فالحُرية عِند هِيجل تَعني مَا نُريد في احترام تَام للقانون، وحيثما كان القانون كانت الحُرية، ولا حُرية بِدُون قَانُون. أثناء اشتغاله حول التاريخ الألماني، رأى هِيجل في الرُوح الألماني رُوح العالم الجديد. هَدفه هو تَحقيق الحَقيقة المُطلقة من حيث كونها حُرية الإرادة اللامحدودة للحرية.

ويُقسم هيجل تاريخ ألمانيا إلى ثلاث حِقب أساسية: الحِقبة الأولى حتى شَارلمان، والثانية من شارلمان إلى الإصلاح، والثالثة من الإصلاح إلى ما بعده[7]. ويرى في الحِقبة الأولى (مملكة الأب) والثانية (مملكة الابن) والثالثة (مملكة الرُوح). وهِيجل في نَظري كان مَهوُوسا بالعقلية الألمانية التي رأى فيها سَيِدَة العَالم، لذلك فقد جَعَل من التاريخ فِكرة دُفِنت في تاريخ وتُراب ألمانيا. والأمر نَفسه مع الحضارة الإنسانية، التي نظر إليها نظرة تطورية، والتي شَبهها بِالشمس؛ التي ظَهَرت وأَشرِقَت مِن الشرق لِتُنِير دُرُوب المُدن الدُول اليُونانية وتغرب فيما بعد في ألمانيا. يعني أن شمس الحضارة، حسب هيجل، ستظل في ألمانيا…

خُلاصة:

عُموما، يُمكن القول أن السياق العام لِفكر هِيجل جاء كتطور للمدرسة المِثالية الألمانية التي ظَهرت مع إيمانويل كانط، لتتطور مع فلاسفة ألمان عَاصرُوا هِيجل، أمثال فِيشْتِه وشْلِينْغ…ويبقى هِيجل أهم من ساهم في تطوير هذه المدرسة (المِثالية) القائِلة بِأسبقية الأفكار والعقل على المادة والواقع.

ولكن هيجل، لم يُكن من رواد إيمانويل كانط بِقدر ما كان نَاقِد لكانط، لِذلك فقد عَمِل على تطوِير وتَجَاوز أفكار كَانط، كَما ذهب بالفلسفة المثالية إلى أبعد حد. فإذا كان كانط قد قسم المعرفة إلى ظاهِر (فِينُومين) وجَوهر (نومين)، فإنا هيجل تَجاوزَ هذا التقسيم الثُنائِي لِلمعرفة ليُعن أن المعرفة والتاريخ والوجود واحد وليس أكثر من ذلك، والكُل خَاضِع للعقل المُطلق في تَطوُرِه، ويَبقى المَنهج الدياليكتيكي السبيل الوَحيد لِتطور الأفكار، هذه الأفكار التي تتجسد في التاريخ لتعطينا الأحداث والمؤسسات والدولة كذلك؛ التي رأى فيها هيجل تَجَسُد لله في التاريخ.

لائحة المراجع:

  • [1]  زكريا إبراهيم، هيجل أو المثالية المُطلقة، مكتبة  مصر، ص. 15.
  • [2]  أُنظر كِتاب العقل في التاريخ، المجلد الأول، من مُحاضرات في فلسفة التاريخ، ترجمة وتعليق إمام عبد الفتاح إمام، ص. 31.
  • [3]  العقل في التاريخ، المرجع مذكور، ص. 30-31.
  • [4]  بِرتْرَانْد راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث، الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، ص. 351.
  • [5]  بِرتْرَانْد راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ص. 353.
  • [6]  نفس المرجع، ص. 360.
  • [7]  نفسه، ص. 363.

بقلم: محمد بوداس

 

أضف تعليقك هنا