سَفَرٌ مِنَ آلْأَسْفَار

بقلم: عبدالله خطوري

حُكم المنية في البرية جارِ
ما هذه الدنيا بدار قرارِ
فالعيش نوم والمنية يقظة
والمرء بينهما خيالٌ سار
فاقضوا مآربكم عجالا إنما
أعماركم سفرٌ من الأسفار(١)

بداية الرحلة

في البدء كان”آدم”مُنفردا ثم رحل فَمَلَّ آلتنقلَ هنا هناك وحيدا فجاءت”حواء” فرحلا سوية، ثم أصابهُمَا آلبَرَمُ فكانتِ آلخطيئةُ وآلغفرانُ، وبِمُوجِبِ هذا الغرفان نشأتِ الرحلةُ الأزلية للإنسان..[قلنا اهبطوا منها جميعا]..فهَبَطَا من الجِنَانِ إلى الأرض، فآرتبطتِ الرحلة الانسانية منذ البداية بعملية الانحدار والهبوط والنزول من أعلى الى أسفل…

اللبناتُ الأساسُ في بناء الإنسان

إننا لا نعلم الشيء الكثيرَ عن عوالم الأسفار التي كانت قبل هذا السفر الرائد، لأنها أمور وقعتْ قبل تكوين الانسان.. ولنا أنْ نفترض آستنادا للنصوص الدينية التي نؤمن بها على الأقل بأنَّ كَينوناتٍ قد وُجِدَتْ فعْلًا قبل وجود الإِنسان، ولعبت هذه الموجودات دورا أساسا في التكوين الآدمي، إنها اللبناتُ الأساسُ في بناء الانسان أو قُلْ هي لوازم السَّفر الأول:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(٢)..

رحلةُ”عيسى”عليه السلام

فإذا كانتْ رحلةُ”عيسى”عليه السلام للوجود الأرضي رحلةً دون”أبٍ”، دون وسيلة تُمَكِّنُ المُسافرَ من سفره، فإِنَّ الرحلة الأولى كانت دون”أب”و دون “أم”، دون ذكورة وأنوثة..إنهما رحلتان مُعجزتان مع آمتياز للأولى في الأسبقية الزمنية وفي الكيفية التي تَمَّتْ بها عملية السَّفَر…كِلاَ الإِنسانيْن وَجَدَا نفسيْهما في كَينونةِ”كُنْ فيكون”في محطة الوصول دون أن يُدْرِكَا كيفية هذا الوصول ولا نوعية أداة التنقل..إنه سَفَرٌ يَخْرِقُ السَّفَرَ العادي ينزاحُ عنه..فيزيائيَّتُه غير فيزيائية الرحلات التي آعتدناها فيما بعد في ولاداتنا المتكررة عبر الأزمان..

الكينونة الختامية

أو لنقلْ هي فيزيائية مغايرة، فيزيائية غير أرضية غير دنيوية، فيزيائية مجردة من الكيمياء والبيولوجيا..لا طريقَ هنا لا سبيلَ لا آستراحةَ للمُسافر إِلا في كينونته الختامية.. مِثْلُ هذا السفر المعجِز الملغِز لن يتكررَ مرة أخرى.إنَّ وصولنا هنا في هذه الـدُّنَى كان مِن تُرَابٍ من صلصال كالفخار من طين لاصقٍ لاَزبٍ تماسكتْ عُـرَاهُ تلاحَمَتْ وشُدَّ وثاقه بماء من لَدُنِ خبير قدير..إِن هذه الرحلة آعتمدتْ في ماهيتها ومَسَارها وتَكَوّنِها على الماء أصل الكينونات المختلفة.هذا الماء لَحَمَ اللحْمةَ صَهَرَ الأنْسَاغَ وجَمَعَ حُبوبَ الحياة والجزئيات الدقيقة مع بعضها البعض..

لا بد من الماء كَـزادٍ يَرْوِي المُسافرَ في مَفازات الوجودِ ويَقِيهِ أوهامَ السراب في صَحاري اللُّحُودِ..ولا عجب بعد ذلك أن نجد هذا الماء مَتْنا أساسا في كل سفريات بني آدمَ عبر البحار والمُحيطات والفَلاوات آلقفار..إِن الرحلات جميعها هي إعادةُ تشكيلٍ للرحلة البدائية الأولى..إنها حَنينٌ يُعيدُ إنتاجَ السَّفَرَ الأولَ بوسائل وطرق قد تبدو مختلفةً لكن اللبنات الأساس تظل واحدة..ومنذ هذين التنقليْن المُعجزيْن للإِنسان سيستقر حال طريقة السفر وستستقل جميع الحَيَوَات الوسيلةَ نفسها(ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)..

توارث الشعوب والقبائل

سيلعب تخْصيبُ النطف للبويضات دورا كبيرا في عملية الانتقال الجديدة التي ستتوارثها كيفيتَها الشعوبُ والقبائلُ عن طريق التعارف فيما بينها والتزاوج من أجل عِمارة الأرض والمساهمة في آنتصار الحياة.. إنها أمانة مقدسة، ولكل مجتهد نصيب في مساهمته في هذا السفر الكبير..(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)..

النطف، يا سادة، تتسابق فيما بينها كما تُثْبت ذلك الدراسات العلمية من أجل الوصول أولا إلى آلهدف..إنها تعدو تلهث تجري يقصي بعضُها بعضا تتنافسُ تتصارعُ تَقْتُلُ تَسْحقُ الطريقَ تحت سرعتها التي يجب أن تفوق سرعة المنافسين وإلا فالنتيجة الحتمية هي: العدم..لا خيار في هذا السباق المصيري الأزلي، إما الفوز والوصول الى المُبتغى أولا أو الفناء..وشعار المتنافسين في رحم هذا المضمار يظل(أنا أولا ولا أحدَ غيري في الوجود)..ولنتخيل الكم الهائل للنطف التي آنْمَحَتْ كينونتُها وأُوقِفَ سفرُها وألغِيَتْ رحلتُها التي كانتْ تَصْبُو الى إنهائها دون أن تستطيعَ ذلك..

إن وجود الواحد منا هو نتاج رحلات شاقة في صُوَرٍ لنا مختلفة قبل آستقرارنا في أبدان آبائنا ونحن ذرات هنا هناك تطوف تجول في عوالمَ ملتبسة برعاية خبير حسيب، حتى إذا مكثنا في أرحام أمهاتنا بعد أن مارسنا عمليات كثيرة للاغتيال والقتل والاعدام، التقطنا بعض الأنفاس كآستراحة زمنية لمُحاربين يتهيؤون لِمَا يُقْبِلُ من مُواجهات وصدامات في بقية المشوار …

ماذا قدّمت لبني الإنسان؟

إِن وجودي الذاتي الحالي كان على حساب وجود ذوات أُخَرَ لا تُعَدُّ ولا تُحْصى..من هنا فليتساءلِ الواحدُ منا؛ماذا فعل لهذا الوجود العام بوجوده الخاص كي يبرر الكم الهائل “للجرائم” التي يبدو أنه آرتكبها وهو بعد نطفة في حق حيوات كانت يمكن أن تكون محله؟ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)..وإِلا ما الفرق بيننا وبين أعْتَى المُجرمين التاريخيين وغير التارخيين..ما الفرق بين أنَايَ المُسماة “عبدالله” مثلا التي لَمْ تُساهمْ بكرمها وتقواها في إِفادة الوجود الجماعي وبين”هولاكو” و “نيرون”

ماذا فعلت لتبرز وجُودك في الوجود..؟؟

و”هتلر”و”نابليون”و”سلوبودان ميلوشيفيتش” ومقاصل فرنسا في مستعمرات افريقيا وإبادة الهنود في الويلات المتحدة الأمريكية والتفوئيد والكوليرا وايبولا وكورونا وذبابة تسي تسي.. !!؟؟..ماذا فعلتُ لأُبَـرِّرَ وجُودي في الوجودِ..؟؟.. لقد مارستُ العنف والتعنيف والقتل والفتك و الإقصاء والإِفناء، ومَكَثْتُ رَدْها من الزمن أنتقلُ من طور لطور وَحْدي في رَحِمِ مَنْ قُدِّرَ لها أن تكون أمي …(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (٣) ..

لقد عشتُ ذلك كله..سافرتُ سَفَري قبل السَّفَرِ، رحلتُ في الرحلة الواحدة رحلاتٍ مُتعددة قاومتُ وآجتهدتُ، بل تعاركتُ وحاربتُ وقاتلتُ وقتلتُ لأني لَوْ لَمْ أفعلْ لَكُنْتُ أنا الفاني المعدوم في العَدَمِ .. إِنها رحلتنا الأبدية المُترعة بالدماء والجُؤار والصداع والصخب والعنف..لقد نسيتُ ذلك كله عند ولادتي، فهويت سقطتُ مِنَ الرَّحِمِ إِلى الأسفل تجذبني الجاذبيةُ الى مَسقط رأسي مُرْغَمًا لا أستطيعُ مُقاومةَ تيارات مهامه بحار الوجود الأرضي وَضُرِبْتُ،

السنون المُتعاقبةُ والأزمان المُتناسلةُ

نعم صُفِعْتُ، دخل الهواء حلقي حَنجرتي شهقت صرخْتُ وصرختُ زفرت ولازِلْتُ أصيحها صيحاااات في رحلتي هذه مُنتقلا في الأعمار تَلوكُنِي السنون المُتعاقبةُ والأزمان المُتناسلةُ حتى إذا حان حَيْنِي، وبلغتِ الروحُ الحلقومَ سَافرتُ مِنْ جَديد مِنْ بَدني إِلى عَوَالِمَ وحده المستقبلُ سيخطرني بمحطات العُبور فيها وفضاءات الوصول..تجربة الرحلة هذه لم يخطرنا بها أحدٌ لحد الآن، فليس مَنْ يسافر هذا السفر بآيب منه.

إنه سفر في آتجاه واحد..إِلى الأمام دائما ولسنا ندري في الحقيقة أهُوَ أمَامٌ أو وراء أم مجرد آلتفاف في لحظة ما أو لحظات متسظية أو شيء آخر؛ لأن مفردات اللغة التي نتداولُها بيننا جُعِلَتْ لتوصيف فيزيائية نعيشها في حياتنا الآن، لكن ما يحصل هناك أثناء تلك الرحلة المقبلة وبعدها، فأبعاد عوالمها لا نعلمها لا نَعيها لا ندركها بعقولنا وحلومنا، لأننا لم نعشها بعدُ، وحدهم المُتوفون يُمكنهم الكلامُ عنِ الموضوع، وما مَنْ ماتَ يوما عاد ليطلعنا عن سَفْرَتِهِ العجيبة هذه..إِنَّهَا رحلة فريدة يخوضها المرء بشكل مفرد، وقد واكَبَتْها منذ القديم مخاوف كثيرة جعلتها رحلةً مَحفوفةً بالغيبيات والهواجس والتوجسات والرفض والريبة وكثير من الخوف…

الانطباعات التي تشكلتْ إِزاء هذه الرحلة المَصيرية

إن الانطباعات التي تشكلتْ إِزاء هذه الرحلة المَصيرية أغلبُها مُكتسَبٌ من الثقافة التي تَتوارثُ تَمَثُّلاَتٍ وغرائزَ الخوف من المجهول.. إنها رحلة من عالم مَعْلوم أو نخاله معلوما الى عالم مجهول أو نخالهُ مجهولا..وحدها التجربة التي سنخوضها ذات يوم{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ}هي التي بإِمكانها الإِجابة عن كثير من أسئلتنا الوجودية الغيبية بخصوص هذا السفر الدنيوي الأخير في حياتنا على هذه البسيطة المعقدة، ليكملَ الإنسانُ رحلتَه إلى محطات أخرَ لمْ تَكُنِ الدنيا فيها إلا محطة من المحطات فقط..

بنو إسرائيل مَكَثُوا مع موسى ردها من الزمن مُنَعَّمين في مَلكوت الله، لكنهم أصيبوا بالبَرم إصابة آدم من قبل فطفقوا يطلبون مُلْهيات أخرَ تنجيهم من السأم:﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يعتدون(٤)

إلى ماذا تشير كلمة الرحلة؟

فكلمة الرحلة تشيرُ إلى معنى الانتقال من مكان لآخر والنزول بأمكنة دون أخرى..إنها حياة اللاستقرار إذن تلك التي بدأت مع تاريخ الانسانية.انها رحلة الى الطعام الى المأوى الى الأمان إِلى راحة البال و أين الانسان من راحة البال..؟؟..تاريخ الأمم عبارة عن رَحلات هنا هناك في أصقاع الأرضين..فهؤلاء الفنيقيون لم يتركوا مَجالا جغرافيا في عالمهم المعروف آنذاك إِلا زاروه بسفنهم وكذلك فعلتِ الحضاراتُ الرومانيةُ واليونانية في أنحائهما.

الملاحم التي وثقها الشعراء

وما الملاحم التي وثقها الشعراء اليونان أمثال هوميروس وفيرجيل في الأوديسا والالياذا الا أمثلة من كثير عن تلك المُغامرات التي كان يخوضها نبلاء العصر في رحلاتهم البحرية هربا من حياة راهنة يحسون فيها بطوق أسر وجود يخنق توقهم إلى الحركة والانطلاق في عوالم الأرض دون قيود أو حدود،

رغم كل التعلات التي تُلْقَى على الْمَلإِ أثناء لحظات الوداع، ف”عوليس”في الملحمة طاف البحار والمهامه سنوات عديدة تاركا الزوجة بينيلوب والولد تيليماك وحيدين بدعوى المحبة..!!..و”جلجاميش”ترك ما ترك باحثا عن المدعو(خلود)دون أمل في الخلود، و”زرادشت”نيتشه صعد شعاب فجاج الجبال ليرتقي بعيدا عن منغصات الأنام.. ومثل ذلك فعل العرب في البر قصد التجارة والمُقايضة إلى درجة أن كَنّى القرآن عن عرب”الجاهلية” بألفة الرحلات:(لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)..

متى بدأت الرحلة؟

الرحلة كانت موجودة دائما مع هذا الإنسان، حتى العربي الذي حَكَمَتْ عليه بيئتُه الصحراوية باللاستقرار كان إنسانا رحّالةً بآمتياز طفق ينتقل من مكان لآخر بحثا عن رُواء مُحْتَمَل.. وإطلالة مختصرَة لشعرهم تعطينا نظرة واضحة عن طبيعة الرحلة العربية سواء عند الكائن الفرد أو القبيلة الى درجة أضحتْ فيه البنية الشعرية الطللية التي تقف وتستوقف وتبكي وتستبكي حذاء طلل الماضين الراحلين معطى مَصيريا في القصيدة العربية القديمة، فهي الافتتاحية التي لابُد منها..إنها وقفة عربي راحل أمام أطلال رَحَلَ أصحابُها وتركوها دَوارسَ..

الارتحال عند البدو

إننا أمام هاجس الارتحال الحاضر في طبيعة تكوين الإنسان البدوي الصحراوي.. فالصحراء ليست مقام أحد في نهاية المطاف..ورغم أن النزوع نحو الاستقرار أخذ يفرض نفسه مع التطورات التاريخية، فان الحَنين الى الرحلة والمجازفة ظل هاجسا يحضر في الحَيوات العربية الشيء الذي عكسته انتاجاتهم التخيلية من رحلات سيف بن ذي يزن عبر الأرضين والبحار وسَفَرات سبع لسندباد بحري ومعانقة أطياف مُدن عجيبة كمدينة النحاس وجزائرَ نائية كجزيرة الوقواق وجزيرة النساء والحوريات السابحات في بحار بلا ضفاف والسفر في الزمن والمكان بشكل عجائبي فنطاستيكي..لمَ لا وهذا الرسول نفسه الإنسان النبي يعطي المثالَ المُعجِزَ في الرحلة المعجزة:الإسراء والمعراج…

الرحلة عند العرب

لقد شغلتِ الرحلةُ ووسائلُها العربيّ حتى غَدَتْ هذه الوسائلُ معيارًا ومقياسا يقيسُ بها الحَيوات التي يعيشها، من هنا ذاكَ التكريم الذي حَضِيَتْ به سفينة الصحراء”الجَمَل”والخيل الصافنات السابحات الضابحات في الوغى وفي السلام..إنهارحلة في السلم والحرب..حتى وسيلة المعراج النبوية صُوِّرَتْ في هيئة بُراقٍ طائر يَعْرُجُ السموات في لمح خاطف أو أسرع من ذلك..حتى مقاييس الجمال الأنثوي كانت مصادرها ومراجعها والأسس التي آعتمدتها في تشبيهات الشعراء واستعاراتهم تعود وتؤوبُ الى الخيل المُسَوّمَة والإِبل التي تقطع الكثبان والصحاري والواحات في صبر وأناة…

لقد سافر النصُّ الأدبيُّ العربيُّ عبر الخيال الشعري والنثري الى آفاق غير محدودة بالمادة وبجاذبية البسيطة..لقد انطلق العقل من عِقالِهِ وَوَصَلَ الى ما بعد الموت الى البرزخ الى الجحيم الى الجِنان في”رسالة الغفران”قبل أنْ يصلها خيال”دانتي”بشكل يظهر تَنَاصَّا إِنسانيا جميلا تتعالقُ فيه عَوالم هاديس اليونان بخرافات الهند والسند والفُرس والرومان وسعالي التلث الخالي وغيلان الفيافي وهوام صحراء النّقَب وجزيرة العرب، انه خروجُ الروح الشفافة من جسدها، سَفَرٌ دون موعد دون وسائط دون استدعاء دون راحلة دون عناء، رحْلةٌ تُكَسِّرُ وتخرق الحصارَ، تحققُ المُحَالَ وتبرئ الذوات من لواعجها الثقال…

لقد تعَوَّدَ النص العربيُّ آمتطاءَ بساط الريح أو حصان طائر يُراودُ بهما الفضاءَ ليُشاهدَ المَحجوبَ ويكشفَ المَستورَ ويَرْنُوَ منْ فوق الى تحت بعد تاريخ مَديد من الامتثال للجاذبية.. لقد ألفَ أنْ يَتعالقَ في الحُلْم بفضاءات بأبعاد متعددة لا تتجلى إلا للعارفين الواصلين من المتصوفة والزاهدين المُحبين لله وملكوت الله..وكَمْ كَثُرَ هذا النوع من الرحلة في آدابنا حتى غدتْ المسألةُ أمرا عاديا لا غرابة في حضورها في الشعر والقصة والرواية الحديثة…

أقدم رحلة عربية

إِن أقدم رحلة عربية إلي الآفاق الرحيبة كانت عن طريق البحر، عن طريق الماء، حتى أثناء سفره عبر الصحراء كان العربيُّ يتمثلُ فَيافيَها القفار بحارا من سَرابٍ مُطْلِقا عدة تشبيهات واستعارات تعكس هذا الاستحضار المائي في اليابسة الصحراوية، فوسيلة السفر الأساسية سَماها”سفينة الصحراء”وحركة الإِبل تتماوجُ في الفَلوات تتبعها تناوشها طيورٌ جارحةٌ تَخالُ هَوادجَها دماءً ترُومُ اقتياتها، تماما كما تفعل طيورُ الألبتروس وهي تَحُومُ حول السفن المائيةُ..

فرغم أن هذا العربي كان يَهابُ البِحَارَ ويخاف آرتيادها الى درجة أضحى لونُ هذا البحر مُقترنا عنده بالرّهبة والتوجس والريبة والوَجَل، رغم ذلك، ظل هذا المجهولُ مرغوبا وحُلْما يرواد الخيالَ الجماعي والفرديَّ، خصوصا وأنَّ الجغرافيةَ العربيةَ مُحاطةٌ بالبحار من ثلاث جهات، فلا بُدَّ مما ليس له بد..لقد وجدوا أنفسَهم مُجْبَرينَ للمُجازفة جهة الشرق والغرب بآمتطاء صهوة جواد جديد آسمه:البحر بألواح مرتوقة بدسر..إنها رَحلاتٌ من أجل التجارة وإشفاء غليل المُغامرة الكامنة في النفس ومحاربة”فوبيا”بحار الظلمات، والخروج مِنَ البَرَمِ الوجودي الأسطوري الذي أضحى خَصيصةً إِنسانية لا تبرحه ولا يبرحها..

و هذه الرحلات وإن لم يَكُنْ لها أي سجلات موثوق بها سُجّلتْ في زمانها إلا أن لها دلائل كثيرة في كتب الرحلة المختلفة وفي سير الملوك وأخبار القبائل وفهرست الأعلام، والروايات الشفهية المتوارثة؛ بل هناك كتابات متفرقة تُوثقها، نجدها تارة ضمن كتب متفرقة، وتارة في تصنيفات مستقلة لهذا الغرض بالأساس..

كيف نشأ أدب الرحلة؟

من هنا يمكن وضع بعض التساؤلات إذَا نحن أردنا الترحال في مَغاورِ رَحَلاتنا المُدَوَّنة وغير المُدونة..فهل هناك فعلا تدوين وتوثيق عربي للرحلات التي تََمّتْ تاريخيا؟؟واذا كان هذا التوثيق موجود فعلا هل راكَمَ لُغةً ومضامينَ وصورا خاصة به، أي هل يمكننا التحدث عن خطاب عربي خاص بالرحلة؟؟واذا كان الأمر كذلك، مَنْ هم رُواد هذا الخطاب؟؟وما تجلياته المختلفة؟؟وما علاقته بواقعه؟؟وكيف نشأ هذا الأدب وظهر وتطور؟؟وما هي أهم الكتب التي دُوِّنَتْ في حقل أدب الرحلة العربية طوال القرون المُمتدة بين الثالث الهجري الى السابع الهجري، بل الى العصور المتأخرة خاصة ما يطلق عليه ب”عصور الانحطاط”وعصر النهضة والعصر الحديث؟؟

رحلات المغاربة

هل رحلات المغاربة كآبن بطوطة وآلعبدري ومن لف لفهما يمكن آعتبارها تراكما كميا ونوعيا يمكن معه التحدث عن رحلة ببصمة عربية لها خُصوصيتها التي تميزها عن باقي أنواع وأجناس الرحلات العالمية المعروفة؟؟وإذا كانت هذه الأسئلة وغيرها يطرحها المتخصص في أدب الرحلات وشؤونها التاريخية والجغرافية، فأين أمُودُو(٥) شعوب الأمازيغ مثلا من ذلك كله؟؟أين رحلاتهم؟؟كيف كانت؟؟ومن أين إِلى أين؟؟وما نتائج تنقلاتهم في ربوع الأرض؟؟

وكيف تَمّ لهم”الاستقرار”في الجبال دون غيرها من سهول وسفوح؟ما سر هذا التوزيع الأمازيغي الذي نلحظه في خريطة شمال إفريقيا والصحراء الكبرى؟ما الأصول؟ما الفروع؟ما الكتابة؟ما الحضارة؟لِمَ هذا الوضع المَعيش الآن هنا؟كيف كانت هذه الشعوب سائدةً ذات تاريخ وكيف أمستْ تحت سيادة؟؟هل رحلة الأمازيغي كانت فعلا من الشرق الى مغرب الشمس كما كانوا يُدرِّسوننا في بدايات دراستنا أم أن آتجاه الرحلة وظروفها وحيثياتها كان شيئا مغايرا تماما؟؟

الرحلة الفردية الخاصة بكل إنسان

وأمام هذا التنوع الوجودي في الرحلات والأسفار، تبقى رحلتنا الفردية الخاصة بكل واحد منا، من الذات الى الذات، من الأنا الى الآخر، من الذات الى الكون إلى الكائنات عبر مراحل متعددة إحداها تفضي إلى الأخرى، تظل المحك الأساس في وجودنا في الوجود..سَفَرُنا الخاص هو المُحصلة النهائية لِمَا وصلنا اليه من نتائج بعد عُمْر يَزيدُ أو ينقص، فما الخلاصات التي يمكن آستخلاصها من مشوارنا الحياتي هذا؟؟أهناك خلاصات ونتائج؟؟أهناك عِبر؟؟أهناك حكمة؟؟أهناك سِرّ ما يجب على كل واحد منا كشفه لنفسه، كل بطريقته الخاصة، إذا كان الأمر كذلك، فلنفعلْ ما يستلزم فعله ونحن نكمل الطريق دون جلبة دون صداع الرأس هههه تماما كدود سكة الحديد (٦)…

المراجع

  1. الشاعر أبو الحسن التهامي
  2. آل عمران : 59
  3. المؤمنون : 12- 14..
  4. البقرة :61
  5. أمُودُو :كلمة أمازيغية تعني(الرحلة)

نص منظوم عن رحلة الإنسان

دود سكة الحديد نص منظوم كتبتُه كاستعارة لرحلة الإنسان الحائر في وجود مبهم بسفره في قطار الحياة لكل وجهة ومحطة لا يدرك عنها شيئا يشيرون إليه بالصعود فيصعد ويأمرونه بالنزول فينزل ومما جاء فيها:
… وضَمّـهُ آلْخَريفُ وآلْخُسُوفُ في خَفَـرْ
لَمْ يَعُدْ يَذْكُرُِ آلآنَ إِلاَّ آلسُّقُوطَ
يسَافِرُ فِي بَــرَمِ
تَعُبُّــهُ الْمَشيئةُ
يَلُوكُهُ آلضُّمورُ في مَحَاقِهِ الكَسيفِ يَجْأَرُ
يُسَـــافِرُ عَبْرَ خُطُوطِ سِكَّةِ الحَـديدِ دُودْ،
تَلْفِظُهُ آلْمَوانِـــئُ ،
تَبْصُقُ في أطْمَــارِهِ
مَخَــاضَهَــا آلأَخِيــرْ…
يَـرْنُو إِلى آلْوُجُـودِ يَحْلِقُ آلرُّؤوسَ تَحْتَهُ،
يُسَــوِّدُ آنْعِكَاسُهُ آلزَّنَــابِقَ آلْمُنْتَكِسَـــهْ
يُطَـمِّـسُ زِنْجَـارُهُ آلشَّقَائِقَ آلْمُكَـدّسَــهْ
يُفَـتِّـقُ آلْخُصُــورَ في حَسيسٍ يَهْمِـسُ .
يُتَـابِعُ آلْمَسيرَ لا يَحـِـيدُ يُسرع آلخطى
………..لِــــــوَحْدِهِ………………….
معَ الوُجُــــومِ
يَ
غْ
رَ
قُ

تُــرَفْرِفُ النَّـــوَارسُ،
تَــلُــوكُهَا القصَـــائِدُ العِجَـــافُ..
تُــحْــرَقُ آلــظلالُ .. تَـنْـتَـحِـرْ…
وَيُـكْمِــلُ آلطَّـريقَ تاركا بَلاشِنَ الْبِحارْ
وَحِـــيـــدَةً تَــخُبُّ في عِـــثَـــارْ
أقْــدامُهُ تُصَــفِّـــرُ
وَقْعـــا رَتِـيـبا أَرْعَـــنَ…
وَيَنْـزِلُونَ مُرْهَقِينْ…
لا يَشْبَعُــــونْ..
تَبْلَعُهُمْ أَرْصِفَةُ آلْمَدَائنِ آلْمُعَفّرَهْ
وَيَـغْرَقُونْ
يُكْمِلُ آلـطَّـريقَ عُـمـرُهُ آلْقَصيــرَ…
تِيرْمينوسْ TERMINUS.
عندَ الوصُــــولِ .. لاَ يَصِـــلْ
……… ………. ……..
كانَ آلسُّــعَاةُ في عَناءٍ يَـلْجَــؤونْ…
يُــيَــاوِمُـــونْ…
يُكَـفّـنُــونَ في آلْحَديــــدِ،
لاَ يَــرَوْنَ في آلنُّــجومِ غَيْرَهُــمْ
مُصَفَّـدِيــنَ مُنْتَــــشِيــنَ يََضْحَكُـــــونْ…
تَلُفُّـهُمْ أَسْيَاخُ مِنْ قُضْبَانِ سِكَّــةِ آلْحَـــديـــدِ تِيرْمينوسْ.
مِنَ آلأُفُــولِ للأُفُــولِ
في شُمُوسٍٍ مِنْ صَقِيعٍ تَنْحَنِي وَ….
يَ
هْ
بِ
طُ
و
نَ
يَصْعَدونْ …………..
ظَــلَّ هناكَ في ذُهُـــولٍ
ظِـلُّـهُ آلأَخيـــرَ يُسْــرِعُ آلْخُطَــى،
وَدَوِيُّ آلتَّكْتَكَـــاتِ يَـصْــفِـــرُ
ما مِنْ وُصُـــولٍ في آلْـــوُصُــــولْ…
إِلا حُــتُــوفٌ تُــوقِــضُ آلْمَــوَاجِعَ،
وَتَفْرِكُ آلْمَطَــامِعَ،
تُـــسَـــوِّدُ،
تُـــــذَبِّـــجُ،
تُــــذَبِّـــحُ آلْفَــرَاغَ بآلْفَــراغْ
على إيـــقَاعِ:لا لاَ لاَ نَعَمْ تُطَقْطِــقُ،
تُــيَــاوِمُ،
تُــوَاصِـلُ،
تُعَــرْقِلُ،،
وَ تَعْلُــكُ آلسَّنَــابِلَ،
تَــقْــطُــرُ آلْـمَـرافِئُ آلْعِجَـــافْ …
يُــواصِلُ آلْمَسيرَ لاَ يَحيــدُ.. لا ..
يُــدَاومُ آلسُّقُوطَ في آلْــحُـرُوفِ
وآلْخطوط وَآلْحُــدُورْ…
تُزَمْجرُ آلْحُتُوفُ لاَ جَديدَ في الجديدِ لا…
وَ……..
يَ
نْ
زِ
لُ
و
نَ
يَصْــعَــدُونْ
ما من وصولٍ في الوصولْ…
يُكْمِلُ آلطَّـريــقَ دُودُ سِكَّـــةِ آلْحَـديـدْ..

بقلم: عبدالله خطوري

 

أضف تعليقك هنا