قضية التحول إلى الفصحى

توزّعَ كتَابُ (قضيّةُ التحوّلِ الى الفُصْحى في العالمِ العربيِّ الحَديثِ) للدكتور نهاد الموسى، دار الفكرِ للنَّشرِ و التّوزيعِ، عمان 1987م على امتِدادِ [280] صفحة. استَهلَّ الكِتابِ بأربعةِ عناوينٍ مستقِلةٍ – عرفان و استطلاع و البيانِ الأولِ و البيانِ الثّاني – ثمّ تلاها ستّةُ أبوابٍ متسلسِلةٍ؛ يندرجُ تحت بعضها عدّة فصول مستقلّة، و انتهى الكتاب بعنوان ‘خاتمة أم فاتحة’ ثم سَرَدَ عدّةً فهارسٍ؛ و هي: فهرس المصادرِ والمراجعِ، وفهرس الأعلامِ و الجماعاتِ و الطوائفِ، وفهرس المواقعِ و الأماكنِ و البلدانِ، و فهرس اللغاتِ و اللهجاتِ، و فهرس المصطلحات، و فهرس الكِتابِ ككُل. نوجزها على النحو الأتي:

عرفان: قدَّمَ المُؤلفُ الشُّكْرَ لكُلِّ الأطْرافِ التي سَاهمتْ في اخْرَاجِ هذا الكِتابِ للنّاسِ؛ مؤسَّسَاتٍ أو باحثين. فقَدْ قرأَ و ناقَشَ أفكارَ الكِتابِ قبلَ نشْرِهِ خمْسَةُ باحثين عَرَبٍ في علْمِ اللغةِ و تفرعاتِهِ و باحثان أجنبيان بارِزانِ في التَّخْطِيطِ اللُّغَوي و باحثٌ متميّزٌ في علمِ الفلسفةِ. ما يعْني أنَّ الكِتابَ يتمتّعُ بدرجةٍ عاليةٍ مِن النُّضْجِ و الدِّقَّةِ و العِلمِيِّةِ

استِطلاع: أَبانَ المؤلفُ أنَّ  فكرة التحوّلِ من العاميّة الى الفصحى قدْ نشأَت في نفسِهِ أوّلاً كرؤيا ثمّ تعقّدت بتساؤلاتِهِ العديدةِ حول – أمكانيّة التدخُّل في عاداتِ الناس الكلاميّة، وواقع العرب قديماً بين العامية و الفصحى، و مدى أولويّة التحدّث بالفصحى، و امكانيّة  ابتداء الناشئة بالفصحى، ودور الأسرة والمحيط الاجتماعي و الأعلام و السُّلطة و الجهات التشريعية في التّحوّل الى الفصحى. ثمّ استعرضَ المؤلف سريعاً محتويات كتابهِ. اذ استجلى أولاً طبيعة القضيّة، و منهج البحث، و تاريخ القول فيها، ثمّ نظرَ تاريخياً الى النظامِ اللغويّ العربيّ، و انتظامِ اللهجاتِ، و نُزولِ القرآن على سبعةِ أحْرفٍ كعاملٍ مؤسّسٍ للعربيّةِ المُشْتركةِ الجّامعةِ، و تناولَ مدى تقاربِ اللهجاتِ العربيّة أو تباعُدِها من بعضها، و تتبّعُ عواملِ الانفصامِ الذي أنتجَ الازدواجيةَ اللغويّة، و بحث في مستويات العربيّة في العصرِ الحديثِ و مظاهرِ اقتِسَامِها للوظائفِ و المَواقعِ، تناولَ بعدها العواملِ المُتَفاعِلة بمسألةِ التحوّلِ كدورِ البحث اللغويّ عامّةً و درسِ اللهجاتِ خاصّةً، و دورِ التعليم المنهجيّ، و موقف الفنون الأدبية، و وسائلِ الاعلام. ثمّ رصدَ مدى التحوّل المتحصّل من تفاعلِ هذه العواملِ، و ناقشَ بعدها الشُبهات و التحفّظات حول هذه القضيّة محاولاً صياغةَ مرافعة كافية لتسويع التحوّل و اعتبارهِ بنداً في خطة التنمية اللغوية، و فرعاً في خظة التنمية الشاملة. و طرح أخيراً دور القرار السياسي في القضيّة حيث حشدَ أمثلةً متنوعة من التدابير الاجرائية التي يمكن أن تُتخذ في اطار ‘قرار’ التحوّل. و تمنّى أن يكون جهدَهُ مفيداً في تحقيقِ غايةِ الوحدةِ اللغويّةِ

البيانُ الأوّلِ: طبيعةُ القضيّة و منهجُ البحث

أَبانَ المُؤلفُ أن قارىءَ عنوانَ الكتابِ قدْ ينصَرفُ ذهنُه الى ثلاثِ دلالاتٍ، هي: [1] التحوّل الى العربيّة الفصحى من لغاتٍ أجنبيّةٍ، و هذا ليس غرضه. [2] التحوّل الى الفصحى في لغةِ الكِتابة بحيث نلتزِمُ بالوجه الأفصحِ و ترك وجوه الرّخص و التّوسعة، و هذا أيضاً ليس غرَضه. [3] التحوّل من العاميّة الى الفصحى في مواقف التّخاطب الخاصّة و العامّة بحيث تنتفي الازدواجيّة، و هذا بالضّبطِ هو غرضُه. اذْ أنّ السؤالَ الرئيسي للكِتاب هو: هل يمكننا جعل العربيّة الفصحى لغة الخطاب الشفويّ و المُحادثة اليوميّة؟ فهَل يُمكننا احلالَ الفصحى محلّ العاميّة و محلِّ العربيّة الوسطى؟ أشارَ بعدئذٍ الى “ظاهِرةِ المُستويات اللغويّةِ” حيث نستخدِمُ الفصحى في المواقِف الرسميّة، و نستخدمُ عربيّة وسطى في مواقفٍ شبه رسميّةٍ و ننتقلُ الى العاميّةِ في المواقِفِ الغيرِ رسميّة، ثمّ تطرَّقَ الى “ظاهِرةِ ثنائيّةِ المفقودِ و الموجود” في معرِضِ تّأكيدِهِ قيمةِ اللغةِ حيث يُحَسُّ سواء فرديّاً أو جماعيّاً بقيمةِ اللغةِ و ضرورتِها الحيويّةِ في حَالِ فقدَانِها بسببِ الأستعمارِ أو السَّفَرِ الى مجتَمعٍ أجنبيّ أو التّأخُّرِ في اكتسَابِ اللغة القوميّةِ بينما تخْتفي الدّهشةُ و القضيةُ الشّاغلةُ حالَ وجودِ اللغةِ القوميّةِ و اسْتعمالها بنحوٍ طبيعيٍّ. و سرَدَ مظاهِرِاً على فَقْدِ اللغةِ القوميّةِ التي تُوقظُ فينا حِسَّ تلمُّسِ الهُويّةِ و حمايةِ مقوماتِ الشَّخصيّةِ مثلَ، تعليم العلومِ بغيرِ العربيّة، و المُداخلةِ بين العربيّة و الأنجليزيّة مثلاً في الحديث و تسميةِ المحلاّت التجاريّة بأسماءٍ أجنبيّةٍ. و لكِنّ تُدخِلنا مَسألة التحوّلِ الى الفُصحى في التّخَاطُبِ حدّ المُفارقةِ؛ فهي خروجٌ على عُرْفِ الازدواجيّةِ أو الثلاثيّةِ اللغويّةِ في حيَاتِنا. ثمّ عرضَ المُؤلّفُ بصِيغَةِ النّقدِ الموقفَ السّلبي لأتباعِ المنهجِ الوَصفيّ و التّاريخيّ و البنيويّ – و منهُم خاصّةً د. علي عبد الواحد وافي-  تجاهِ التّخطيطِ اللغويِّ. اذ يرْفَعونَ شعارَ “دَعْ لُغَتكَ و شأنَها” على أَساس أنّ اللغةَ نظامٌ ذاتيُّ المَسارِ؛ و لهِذا مِنَ المُحَالِ توحِيدِ اللغةِ و انشاءِ لغة عالميّة رغْمَاً عن سُننِ التطوّرِ التي تخُطُّها قوانينُ علمِ اللغةِ. و يسْتَدِلُّ المؤلّفُ في الهَامِشِ بتجربَةِ احياءِ العِبريّةِ – رغم شعورِهِ بغصَّتِها- على أهميّةِ التخطيطِ اللغويّ و نجَاحِ مَساعِيهِ. و يلتَقِطُ أيضاً من نصُوصِ د. علي وافي – رغم قولِهِ بخَطَأ محاولةِ انشاءِ لغةٍ عالميّةٍ – اقرارَهُ بامكانيّةِ قيام بحوثٍ فنيّةٍ على قواعدِ علم اللغةِ تُرشدنا الى تجاوزِ ما هو كائنٌ لغويٍاً الى ما ينبغي أن يكون؛ فنتدَخَّلُ بذلك في سياقِ التطوّرِ اللغويّ أو نحاولِ أن نغيّر مجراه. قدْ علّلَ ذلِك التّناقضِ بتأكِيدِهِ على تعاصُرِ مُنحَى رفْضِ قيامِ لغةٍ عالميّةٍ واحِدةٍ و مُنحَى العَملِ على بحوثٍ فنيّةٍ تُرْشدُ لهذهِ اللغةِ حتّى في ظلِّ سيادَةِ المنهجِ البنيوي. ثُمَّ أَبانَ أنَّ الأتجاهَ السلبيّ نحوَ التَّخطِيطِ اللغويِّ تأتي مِن ظُنُونٍ بأنَّ اللغاتِ جميعاً خيرٌ و بَرَكةٌ، و أنَّ اللغةَ نفسَها ذو حدود ثابتة و علاقات ثابتة. و لكنّهُ أَشارَ بمُقابِلِ ذلكَ أنّ بعضَ اللغويين قدْ اسْتَشرَفُوا بُعدَاً اضافيّاً خلاّقاً في وظيفةِ علمِ اللِّسانِ و هو تعميم الحَسَنِ و ايجادُ الأحسَنِ في اللغةِ. و استَطرَدَ المؤلفُ الى رفْضِ الرّأيِّ القائِلِ بأنَّ اللغةَ آلةٌ مثل المنشارِ و المِطرقةِ مَا يعْني أنّها ذاتَ قيمةٍ كُبرى للشّخصِ و الأُمّةِ؛ ثمّ أَعطَى مثلاً على صَلاحيّةِ التّخطيطِ اللغويِّ تمثّلَ في تطبيقِهِ بنحوٍ بشريٍّ مقصودٍ على لُغاتٍ شتى كالهنغاريةِ و النرويجيةِ و الأستونيّةِ ما يَعني امكانيّةِ تطبيقِهِ أيضاً على واقِعِ العربيّةِ.

رأى المُؤلّفُ التطوّرَ قسيماً للتطويرِ؛ فلا يُجدرُ أنْ نكتفي في مُجرّدِ الوصْفِ الآنيّ للغةِ دونَ تدخُّلٍ بشريٍّ في تطوِيرها كالتحوّل الى الفُصحى في مواقفِ الخِطابِ الشَّفويّ؛ و هذا صنيعٌ طبيعيٌّ اذ نرصُدُ علميّاً عمومَ الظواهرِ و نفسِّرُها و ننتفعُ بها و نُوجِّهُهَا لمِا نرْغَبُ فيهِ منها. لقدْ أبدَى المؤلّفُ موقفاً مَرناً من الرّأيِ المُقابلِ؛ اذ أقَرّ بتطوّرِ اللغةِ وفقاً لنوامِيِسِها الدّاخليّةِ و علاقاتِها بالنُّظمِ الأجتماعيّةِ، و لكن هذا لا يعني بِرَأيِهِ أنْ نُعَطّلَ دورَ الوَعي اللغويّ في تَوجِيهِ الظَّاهِرةِ اللُّغويّةِ. و دعا اللغويّ الى ضَرورةِ الوعيِّ بالنّظرةِ التِّلقائيةِ و الخاصّةِ للأنسَانِ العَاديّ نحو لغتِهِ، و ضَرورةِ اقناعِهِ بالتّضْحيةِ بل و بِالمُجَاهَدةِ.

ثمَّ أشارَ الى تناقُضِ دعاةِ التّغييرِ؛ فهُمْ ينادونُ باستِعمالِ الفُصحى و هُمْ يستعملونَ العاميّةِ في الحَديثِ التِّلقائيِّ. لكنّه رأى في ذلِكَ مرحلةً انتقاليّةً ضروريّةً تؤَكِدُ على تَفَاعُلِ الفِكرِ و اللغةِ حيث ترفُضُ اللغةُ واقعَها و تحملُ فكراً مسْتقبلاً له صيغةٍ أخرى. اعتَبرَ قضيّةَ التحوّلِ الى الفُصحى رغبةً في تَجاوزِ الوَضْعِ اللغويِّ الكائنِ و احدَاثِ تغييرٍ في الحاضرِ اللغويِّ مُسْتَقبلاً. و يسترشِدُ على ذلك من الجُهدِ اللغويّ الماضي اذ أنَّ وصفَ العربيّة على أساسٍ ائتلافيٍّ جامعٍ هو تعبيرٌ عن جهودٍ لبناءٍ سياسيٍّ واحدٍ، و أنَّ تتبُّعَ اللّحنِ هو للحِفاظِ على صورةِ العربيّةِ الأُولى التي نزَلَ بها القرآنُ الكريمُ لتمتدَّ الى الأجيالِ المُتعاقِبَةِ. و من ذلك، توجيهات الرسول عليه السّلام في ظَلال اللّحن حيث قال: أرشدوا أخاكم فانّه قد ضلّ، و قد قرأ العرب القران على ما استحكم فيهم من عادةٍ لغويّةٍ على سبعةِ أحرفٍ، و حين اختلفوا ردَّهم الخليفةُ الى نسخةِ المُصَحفِ الأمامِ و أحرَقَ ما عَداها ترجيحاً للوِحدةِ الجَّامعةِ. فنحنُ نقرأ القران و الاشعار الجاهلية و الكتابات في العصور الاسلامية المتعاقبة ما يشيرُ الى تخطيطٍ لغويٍّ ضمنيٍّ. كما يُمثّلُ التحوّل الى الفصحى نقيضاً مباشراً لدعوةِ التحوّل الى العاميّةِ التي انحسرتْ بسببِ ضيقِ العاميّة و غيابِ نظام رسْمِها و نحْوها و انقطاعِ الأَسباب بينها و بين تجربةِ التعبيرِ الأدبيّ و العلميّ و اقتران الفصحى بالقرآن و تراثٍ غنيّ ضخم ما يُشكّلُ انتصاراً للفصحى. ثمَّ أنَّ فكرةَ دعوة دعاة التغيير للفصحى و استعمالهم العامية في أحاديثهم تُشبهُ دعوتنا للتّقدّم من موقعٍ مُتخَلِّفٍ على عكسِ أولئك الذين يدعون لتعمِيمِ العاميّة و هم يستعمِلون الفُصحى في الكِتابةِ. ثمّ أنّ التحوّل الى الفصحى لا يختلف عن التحوّل من مستوى لغويّ الى مستوى لغوي آخر في اطارِ اللغةِ الواحدةِ، و لا يختلف كذلِك عن الانتقالِ من لجهةٍ الى أُخرى في اطارِ العربيّةِ. ثمّ تطرّقَ المُؤلّفُ الى عمليّةِ احياءِ العبريّة في فلسطين المحتلّةِ رغمَ الأستخفافِ بها في بداياتِ تجْرُبتِها. و هذا شاهدٌ على امكانيّةِ نجاحِ مشروعِ التحوّلِ الى الفصحى في وجهِ الدّعوات التي تشكّكُ بنجاحِ المشروع، و الدعواتِ التي تراهُ مطلباً أضافيّاً مع أنَّ الفارقَ واضِحاً اذ لم تكُنْ العبريّة لغة أُمّاً لأحد و لم يكُن أحدٌ يتكلّمُ بلهجةٍ وثيقةِ الصِّلةِ بها، و هذا عكسُ حال العربيّةِ و أهلها اليوم. و نبّهَ الى معاناةِ الواقع من الأزدواجيّةِ حيث نتعلّم الفصحى و نُهدرها بالشّارع، و نتعلَّمُها في حصّةِ العربيّ و نهدِرُها في الحِصصِ الأُخر و هذا الحَالُ يُورثنا خللاً لغويّاً؛ اذ نكتسبُ العاميّةَ دون وعيٍ بقواعِدها، و نعي قواعدَ الفصحى و لا نستَعمِلها. وهذا الحالُ هو جرثومةُ الانفصَالِ عند الكاتبِ المُلتزمِ، و هو الجدارُ الحَائلُ بيننا و بين نشْرِ العربيّةِ حيثُ يَدخُلُ الرّاغبُ في تعلّمِ العربيّةِ بين دوامةِ الفصحى و العاميّةِ.

ثمَّ يوضّحُ في نهايةِ البابِ أنَّه يقصِدُ “بالفُصحى” ما نتّفقُ على أنّ صحيحٌ فصيحٌ، و ما قد نختَلفُ فيه على وجهين أو أكثر. و يأتي مُصطلَحُ “المستوى” للأشارة على النُّظمِ الفرعيةِ للغة  level كالمستوى الصوتيّ و المستوى الصرفيّ، و يأتي للدّلالةِ على المَظهر اللغوي و التّجليات في الاستعمالِ اللغويّ variety مثل المستوى الفصيح في الكتابة، و المستوى العاميّ في بيوتنا. و يدلُّ مصطلحُ “الازدواجيّة” على أنّ في اللغةِ مستويان: مستوى الكتابة، و مستوى الخطاب الشفوي في الشؤون اليومية. أما دلالةُ “الثنائية” فتُشير عندَهُ الى استعمالِ المجتمعِ الواحدِ لغتين مختلفتين. و يدلُّ “التّعلُّمُ” على تحصِيلِ المعَرفةِ باللغةِ من خلالِ المؤسَّسَةِ التربويةِ أو الأُطرِ الثَّقافيِّةِ بوسَائِلِها المعهودة، و يدلُّ “الاكتساب” على تحقُّقِ المعرفة باللغة من خلالِ النشأةِ في المحيطِ الأجتماعيِّ النَّاطقِ بها. و التخطيط اللغوي هو عملٌ منهجيٌّ ينتظمُ مجموعةً من الجهودِ المقصودةِ المُصمَّمةِ بصورةٍ متَّسقةٍ، لاحداثِ تغييرٍ في النّظام اللغويّ أو الاستعمالِ اللغويّ، أو لاحداثِ نظامٍ لغويّ عالميّ أو قوميّ أو وطنيٍّ مشترك. و حَرصَ المؤلّفُ على العلميّةِ الصّارِمةِ بحيث يتثبّتُ من كلِّ معلومةٍ، و يرُدُّها الى مصادِرِها بأمانةٍ

البيانُ الثّاني: تاريخُ القولِ في القضيّةِ و موقفُ القومِ منها

انشغَلَ العربُ بقضايا لغويّةٍ عدّةٍ مثل دفْعِ قيامِ اللغةِ التركيّةِ أو الفرنسيّةِ أو اللهجةِ العاميّةِ أو الحَرف اللاتيني مقامِ اللغةِ العربيّة و حرْفِها، و جعل العربيّةِ وافيةً بمطالبِ العلومِ، تعريبِ العلومِ و معالجةِ الضّعفِ في العربيّةِ. و هذا كلُّهُ يصُبُّ في صَالحِ انتِشارِ الفُصحى. أبانَ المؤلّفُ أنّ ظروفَ الدّعوةِ الى الفُصحى قد وقَعَت في سياقين، هما: (أ) سياق العملِ السِّياسيّ و جوِّ الثّورةِ حيث تصبحُ اللغةُ رمزاً و شعاراً قوميّاً في الصّراعِ، و يصبحُ التحوّلُ الى الفصحى ردُّ فعلٍ مباشراً. و من أمثِلتِه؛ ١- خطّة جمعيّة النهضة العربيّة لمواجهةِ التّتريكِ حيث التزمَ أعضَاءُها بالعربيّة الفُصحى و سَعوا الى تعميمِها ٢- تأسيسِ عزّالدين التنوخي “جمعيّة الافصاح” و جعلَ قانُونَها بالفصحى من أجلِ مواجهة التتريك. ٣- برنامج التعريبِ الشّامل الجزائرِي حيث تكونُ العربيّة لغةَ التدريسِ و التحدُّث (ب) سياق النظر الأصلاحي حيث تصبحُ اللغةُ قضيّةً تربويّةً أو اجتماعيّةً… الخ. و قدْ أتى هذا السياق على وجهين، هما: (١) المعالجة المباشرة التي تتناولُ القضيّةَ تناولاً قاصداً بالتفصيلِ و التّحليلِ. و من أمثِلتِها؛ طلب رياسةِ المعارفِ في الشَّام من المجمع العلمي العربي بدمشق عن طُرقِ نشرِ الفصحى الذي ردَّ عليه بشكلٍ مفصّلٍ عبد القادر المغربي، و سؤالِ علي حسن عودة في مجلّةِ مجمعِ دمشق عن قضيّةِ التحوّلِ الى الفُصحى الذي بَسَطَ رأيَهُ فيه بتفصيلٍ، و كلمة محمد خلف الله أحمد في الدّورة ٢٦ لمجمعِ القاهرة التي تناولَ فيها بالتّفصيلِ قضيّةَ التحوّلِ الى الفصحى. (٢) المعالجة العابرة التي تتناولُ القضيّةَ تتاولاً عارضِاً. و هذه تؤولُ الى ثلاثةِ مواقفٍ، و تتردّدُ بين ثلاثِ منازلٍ: أبسَطُها منزلة التسليمِ بالازدواجيّة، و أوسَطُها منزلة التقريبِ بين العاميّة و الفصحى، و أَضبَطُها منزلة التوحيدِ بجعلِ الفصحى لغةَ التخاطبِ العامّةِ. و من أمثِلتِها؛ طلبُ محمد الخضري عام ١٩٠٨ الى استعمال العربيّة الفصحى في كل مجالات الحياة، و استفتاء مجلة الهلال عام ١٩١٩م بطرحِ ستةِ أسئلةٍ على مشاهيرِ العلماءِ و الأدباءِ الذي تضمّنتْ رُدُودُهُم أراءً قيّمةً حول مستقبلِ اللغةِ العربيّةِ و مدى تغلُّبِ الفصحى على اللهجاتِ. و استمرّ تناولُ هذه القضيّةِ على أنّ الموقفَ الغالبَ هو الموقفُ الذي يلوذُ بالحجّةِ المُريحةِ، حجّةُ أنَّ الازدواجيةَ ليست مقصورة على اللغةِ العربيّةِ، فلا بأس اذن من تجاور المظهرين: العاميّة للحديث و الفصحى للكتابة. ثمّ عرضَ أراء عدداً من الباحثين في المسألةِ مثل محمود تيمور، ابراهيم السامرائي، حسام الخطيب، عبد الرحمن ياغي، محمود محمد شاكر، عبد الجبار القزاز، اميل يعقوب. و يُقرِّ أخيراً بأنّها قضيّة خلافيّة تتطلبُ بحثاً مفصّلاً يحاولُ بناءَ أطروحةٍ للتحوّلِ من مستوى ‘النظر’ و ‘مشروعٍ’ للتحوّل على مستوى ‘العمل.’

البابُ الأوّل: مَرْجِعُ القضيّة: الدليل التاريخيّ

الفصل الأوّل: وَصْف العربيّة و بناؤها الأئتلافيّ

أُقيمت العربيّة حسْب المؤلّفِ على ائتلافٍ عريضٍ يجمعُ الملامِحَ المتباينة و المسالِكَ المتغايرة و المناهجَ المختلِفة. اذ انتظمتْ في بنائِها لهجاتُ القبائلِ خاصّةً قبائلِ البراري بحيث شكّلت هذه اللهجات حُجّةً في العربيّةِ؛ فمِنها أُخِذَ الصحيحُ الفصيح. و نشأَ من ذلِك مظاهرُ اختلافٍ و تداخلٍ  في العربيّة. اذ امتدّ الوَصفُ مِن حياة العربيّة قرناً و نصفاً قبل الاسلامِ و قرناً و نصفاً بعد الاسلام على التقريب، و هذه مدّةٌ طويلةٌ كافيّةٌ لأحكامِ بناء العربيّةِ. و هذا الوجهُ الزّماني قد سجّل للظاهرةِ الواحدةِ وجهين عربيين منضبِطين؛ مثّلَ الأوّل طورَ العربيّة السابقِ و الثاني طورَ اللاحقِ ما أدّى الى التشعيب في قواعِدِها، و لهذا نجِد أقوالاً متعدّدةً في الموضعِ الواحدِ، و هكذا استوعَب هذا المنهج الأئتلافي لهجات القبائل و ألّفها معاً في نظامٍ لغويٍّ عربيٍّ مع هامِشٍ للاختلافِ و التّباين مِثلما استوعبَ الأسلامُ جهود هذه القبائل و أَلّفها معاً في بناءٍ سياسيٍّ واحدٍ.

وقد تهيأت لتشكيلِ هذا النموذج اللغويّ الجامع عواملٌ عدّةٌ مثل استقطاب أم القرى للعربِ لمكانتِها الدينية و الاقتصاديّة و الثقافيّة، و حياة العرب نفسها التي تمتاز بالرحلةِ و التّنقلِ، و فصاحَة قريش التي منها رسول الله عليه السّلام لِما تهيّأ لها من أسبابِ استقطابِ العربِ و الفرزِ اللغويّ و بناءِ لغةٍ مشتركة. و بذَلك، شكّلت لغةُ قريش الصُّورةَ الأَصفى للعربيّة الفُصحى. ثمّ نزلَ القرآن الكريمُ على سبعةِ أحرفٍ للتيسيرِ قراءتِهِ؛ فقرءهُ العربُ وفقَ ما استحكَم من عاداتهم الكلاميّةِ. و قد شكّلت القراءاتُ القرآنيّة، فيما بعد، مرآه للهجاتِ العربيّةِ حيثُ تدلُّ وجوهِ القراءاتِ على السّماتِ اللهجيّة الخاصّةِ. و بِهذا، اجتَمعَ للعربِ حُجّتانِ لبناءِ العربيّة و ضبطِ التّباينِ؛ الحُجّةُ الأوّلى هي القرآن الكريم بِقراءاتهِ، و الحُجّةُ الثّانية هي لهجاتُ القبائِلِ التي شكّلت أصْلاً للتباين راسخاً في صفةِ العربيّة. ثمّ جَمِعَ زيدٌ بن ثابت القرآنُ الكريمُ بأمرٍ من أبي بكرٍ لكثرَةِ موتِ قُرّاءِهِ. ولمّا انتشرَ المسلمون و ظهرت بوادِرُ الأختلافِ الشّديدِ فر قراءتهِ، شكّلَ عثمان بن عفّان لجنةً؛ نسَختْ المصحَفَ ‘الامام’ سبعَ نسخٍ وزِّعت ستةٌ منها على الأمصارِ، و أُحرِقت كل النُّسخِ الأُخرى.

وهذا الائتلاف ضمِنَ للعربيّة أصلاً جامعاً، و مَرجِعاً للصوابِ عريضاً، ترك للتبايُن الحتميّ و التباين الذي لا يحيلُ المقاصد عن مقاصدها سبيلهما الطبيعية في التوسعة على الناس. و بهذا، اتخذَ النظام اللغوي العربي سَمتَه بانسجامٍ اذ يتواءم التنزيلُ العزيزُ بقراءاتهِ و كلام العرب بلهجاته؛ فقد نزل القرآن بلسان العربِ. تطرّق المؤلّف لدعوة فولرز بأنّ القرآن كان بادىء الأمر غيرَ معربٍ لأَنه بلهجةِ قريش الدّارجة غير المُعربة، ودعواهُ الأُخرى أن النّحاة المتأخرين هم صاغوه في لغةِ البدو المُعربة. دفعَ نولدكه دعواه الأولى بالأستدلال السّاميّ المقارن على أصالةِ الأعرابِ في العربيّة، و استدلالِ ‘يوهان فك’ على أنّ مواقع كلام القرآن الاختياريّة لا تترك أثراً للشكّ في اعرابِهِ. و دَفَعَ دعواهُ الأًخرى استدلالُ ‘بلاشير’ على رفْضِ فرضيّة خلقِ لغةٍ اصطناعيّةٍ بل الحَالُ أنّ لهجةً محليّةً رُفِعت الى منزلة لغةٍ أدبيّةٍ. و أشارَ المؤلّف الى أنّ الشعرَ الجاهليّ الذي حَملَ ملامحَ تباين السّماتِ اللهجيّة قد شكّلَ أيضاً حُجّةً على العربيّة بحيث مثّل المظهرَ الأدبي الرئيسي للغة العربية المشتركة. و ائتَلفت كذلك في اللغة ألفاظ من الغرائب و النوادر اختصّت بها بعض القبائل؛ استثمرها اللغويون في تشكيل المادّة اللغوية الجامعة. و انتظم في بناء العربية الائتلافي قواعد المنطوق و قواعد المكتوب حيث تنبّهَ النحويّون الى دورِ السياق و حالِ المحيط الاجتماعي في مواطن الجواز النحويّ. و بهذا، انّ الفصحى في بنائها اللغويّ الخالص نظامُ أنظمةٍ، تنتظمُ لهجات قبائلٍ عدّةٍ، تجدُ كلُّ عاميّةٍ حديثةٍ لها منها موقعاً، فلا تكون العودة اليها دعوة قبليّة ضيقةٍ

الفصل الثاني: التحقيقُ في نشأةِ الازدواجيّة

تُعَدُّ الازدواجيّة ظاهرةً لغويّةً طبيعيّةً. أشارَ بعضُ الباحثين الى الازدواجيّة في العربيّة على الزمان الجاهليّ حيث استعملَ العربيّ مستوىً فصيحاً في المواقِف الأدبيةِ و نحوها و استعملَ لهجتَهُ الخاصّةَ في القبيلةِ و البيتِ. لكنّ المؤلّفَ يرفُضُ أن يكونَ هذا الحال المُزدَوج في الجاهليّة. و يُحَاجِجُ على ذلكَ بالأتي:  (أ) اللهجات المختلطة (غير النقيّة) التي لم يُؤخَذُ منها في بناءِ العربيّةِ لم تبتعدُ سماتُها ابتِعاداً أُصوليّاً عن الائتلافِ الفصِيحِ يرقَى الى حدِّ الازدواجِ. (ب) أنّ اللهجات النقيّة هي التي عليها اعتُمِدَ في بناءِ العربيّةِ. و هذهِ [العربيّة] أوسَعُ من كلِّ لهجةٍ على حدة. بمعنى أنَّ العربيَّ من القبائلِ ‘نقيّة العربيّة’ قدْ استعملَ في الأصلِ لهجةً فصيحَةً؛ دخَلتْ جُزءاً مِن كُلِّ العربيّةِ الفُصحى. (ج) و قد استوعبَ ائتلافُ العربيّةِ السّماتَ الخاصّةَ المُستكرهة المنسوبة لبعضِ القبائل؛ فكأنّه سوَّغَهَا. و هي تُناظِر السمات الخاصّة في اللهجاتِ المعاصرة. ح) ثمّ أنّنا نَستأنِسُ بهذا المُستوى من الخطابِ الشفويّ، اذ نجد تواصل العرب في العمل التلفزيوني الذي يلقيهِ عدّةُ أشخاصٍ يستعملُ كلٌّ منهُمْ لهجتَهُ الخاصّةَ، و يتحقّقُ بينهم تفاعلٌ و تفاهمٌ دونَ عائقٍ

خ) كان المجتمع الجاهلي بالمجملِ أُميّاً لذلك فهو يأخُذ ما يَأخُذ بالاكتساب الذي يصعُب التحوّل عنه. فاذا كان ينتقل انتقالاًجزئياً محدوداً لمقتضيات مواقف التواصل و ما يتطلَّبُ من فروقٍ، فهو انتقالٌ توسُّعِيٌّ و ليس بين مستويين لغويين. (د) أمّا الاحتِجاج بأنَّ اللغةَ الأدبيةَ أعلى مستوىً من العبارةِ اليوميّةِ، فهذا حالُ مجتمعِ المُشافهةِ الأمّي حيث يتفوّقُ فيه الشاعرُ في تعبيره بمقاييس ‘الأسلوبية’ على خطابِ العامّةِ و ليس في هذا ازدواجاً؛ و مَرَدُّ ذلكَ قدرَتُه على التقاطِ اللفظةِ الموفّقةِ و الصورةِ الموافقةِ و اجتيازِ السهل المُمتَنع. (ذ) ثُمَّ أنّ دعوى انتفاءِ الاعرابِ عن لغةِ العرب في الجاهليّةِ فهو مردود. اذ يكتَسِبُ النّاسُ جميعاً لغاتَهم بنُظُمِها جميعاً و منها الأعراب. و هذا ما نستَبينُهُ حينما نُحلّلُ قواعدَ لهجَاتِنا الأُم. (ر) توَجَّهَ التصحِيحُ اللغويُّ -الذي يُمثّلُ ظاهِرَةً مُلازِمةً للعربيّةِ- الى لغةِ الحَديثِ اليَوميّ و الكَشْفَ عن وجْهِ اللّحْنِ فيها و نبّهَ على صَوابِهِ. و هذا يعني أنَّ اللغويين لم يُسَلِّموا بالفَرْقِ الذي تُقِيمُه الازدواجيةُ بين لغةِ الحَديثِ و لغةِ الكِتابةِ حتى في العصورِ التاليةِ لعصرِ الاحتِجاجِ و وَضْعِ العربيّة. اذنً، استُخْرِجَت ‘صفةُ’ الفصحى من القرآن والشعرِ الجاهليّ والاسلاميّ والأمويّ و كلامِ الفصحاءِ والخُطبِ والأمثالِ. واقتَرنتْ مباشَراً بالقرآنِ؛ فصارتْ معياراً للصَوابِ والخَطأ. ثمَّ مع الزمنِ ولأسبابٍ لغويّةٍ ذاتيّةٍ و عواملٍ اجتماعيةٍ خارجيّةٍ، تطوّرَتّ لهجاتُ من العربية الفصحى التي تعاظم الفرق بينها بعد خروج العرب من الأمصارِ، فنشأت الازدواجيّة.

كانت لهجاتُ العربية على شكلين؛ شكل نقي لم يخالط الأمم الأخرى، و شكل غير نقي فيه من لهجات الأمم الأخرى بسبب المجاورة والاختلاط. و قد تحقّق فُتح البلاد في العهد الاسلامي من أهل كلا الشكلين، فخالطوا أهلَ البلادِ المفتوحةِ و تأثَّرَ كلاهُما بلهجاتهم. تعمّقَ الاختلاطُ بين العربِ الفاتحين و أهلَ الأمصارِ بالتزاوجِ و غيرهِ ما أَدّى الى تطوّرٍ أكثر للعاميّات. تعاظمَ الفرق بين العاميات بسبب التطور الذاتي الجاري على العربية ما أدّى الى انحسارِ الاعراب عنها، و هذا شَكَّلَ أقوى عامل على ظهورِ الازدواجية. و هكذا، يزداد انحسارُ الاعرابِ في الخطابِ اليوميّ حتى نشهد اخلالاً في نظام الاعراب في كلام أهل الحضر في القرن الرابع. و لكنّ ظلّت اللهجات ‘عربيّة النظام اللغويّ’ جُملَةً في أصواتها و أبنيتها و معجمها و تراكيبها. اذ حملت كلُّ لهجةٍ ناشئةٍ من اللهجةِ الأمِّ ملامِحَها الخاصّةِ، و امتدتْ هذه الملامح في عربيّةِ كلِّ مَصْر

البابُ الثّاني: عَرْضُ الحَال  المستويات اللغويّة في العربيّة

“ما هو كائنٌ”

اتّخذتْ اللغةُ العربيّةُ وضعاً ازدواجيّاً، و هذا ما سبَقَ اليه ابن خلدون حيث تمثّل الوضْعُ في مستويين متباينين هما: (1) مستوى اللهجة العاميّة: و هي لغتُنا الأُم التي نكتَسِبُها من خلال بضع السنوات الأولى، و هي التي تحدّدُ “تشكيلَ” البرنامج اللغوي الأوّل في الدماغ. و العاميّة عاميّات تتمايزُ بين الأقطار بفروقٍ و خصائصٍ لكنّها تلتقي على مقاديرٍ مشتركةٍ باعتبارِ أُصُولها التاريخيّة، ثمّ باعتبار مجاورتها للفُصحى، ثمّ باعتبار ما يَعْرِضُ بينها من الاحتكاكِ المُباشِرِ. (2) مستوى الفُصحى، و هي اللغةُ الائتلافيّةُ التاريخيّةُ الجامعةُ التي نتعلّمُها أو نَجْهَدُ في أنْ نتعلّمُ منها مقداراً كافياً. و هي تُوَسِّعُ علينا في الاختيارِ لتعدُّدِ موارد ائتلافِها؛ فاختار المغرب العربي للأشارةِ “هاته” و هو وَجه عربيٌّ، و اختارَ المشرقُ العربيُّ ‘هذه’ و هو وجهٌ آخر. و تحدّث بعضُ الباحثين العربِ عن مستوى ثالث (3) أَسْمَوهُ ‘العربيّة الوسطى’ و هي عربيّة المتعلِّمين المحكيّة. رأى في هذا المُستوى ثمرةَ التّفاعلِ بين العاميّةِ المُكْتَسَبَةِ و الفُصْحى المُتَعَلَّمَةِ.

يعدُّ المؤلف العربيّةَ الوسْطَى أقربَ الى العاميّةِ لأنّها تُكْتَسبُ اكتِسَاباً مثل العاميّةِ، و لأنّهُا غير مُعرَب. و قدْ رأى قيمةَ العربيّةِ الوسْطى قيْمَةً آنيّةً لأنّها مَوَّارة بعواملِ التغيُّرِ غيرُ مستقرّةٍ؛ فتعلّمها ان تمّ تقعيدُها قَدْ يكونُ أعسر من تعلُّمِ الفُصْحى، ثمّ هذه العربيّة مُفَارِقَةٌ للغةِ التُّراثِ و لا تراثَ لها؛ فهي بذلك غير مؤهلة لأن تكون بديلة للفصحى. يرى المؤلّف رغمَ ذلك أنّها مظهراً لغوياً “مَقبولاً” على مستوى المحادثةِ اذ هو مَعْلَمٌ على طريقِ التحوُّلِ المَنشودِ. تعرّضَ المؤلّف بعدئذٍ لمَوضُوعِ الثُّنائيّةِ أو الثلاثيِّةِ؛استِعمالُ المُتَكلّمُ في حدِيثِهِ مفردات أو تعابيراً أو تراكيباً من لغةٍ أجنبيةٍ أو أكثر. و يأتي ذلِك حيناً من تَنازُعِ اللغتَين و ضَعْفِ مَلَكةِ العَربيّةِ في نفسِ صاحِبِها و حيناً بقصْدِ التَّباهي بمعرفةِ لغةٍ أُخرى و حيناً تأتي تظرُّفاً – فرديٌّ قليلٌ – في موقفٍ جلُّهُ جِدٌّ.

تُشكّلُ الثُنائيِّةُ ظاهرةً غريبةً عندنا اذ نمِيلُ الى استعمالِ اللغة الأجنبية دون حاجةٍ على عكسِ المجتمعات الأُخرى التي تتمَسَّكُ بلغاتِهَا و دورَها في المجتمع حتى تكاد تُغلقُ تماماً على كلِّ مَنْ لا يستعمِلُ لغاتها مثل المجتمع الفرنسيّ. و للأستعمار أثرٌ واضِحٌ في الثنائيّة ما يظهرُ في استعمالِ المُستعمَرُ لغةَ مُستعمِرَهُ. في حين نجحَت عدّةُ مجتمعاتٍ كالمجتمعِ الياباني برنامجها في التحديثِ و العصْرنةِ بلغاتها القوميّة لأنها بشكلٍ أساسيّ لم تُستعمَر. وَصَلَ المؤلفُ أخيراً الى مواقِع هذه المستويات الثلاثةِ في الحياةِ العربيّةِ التي حدَّدَها في:  [أ] مظهر الكتابة؛ و هذا ما تختصُّ به الفُصحى سواء الشَّخصِي أو العَام. [ب] مظهر المشافهة؛ و هذا تكاد تستولي عليها العَاميّةُ و الوُسْطَى. و قدْ أَلمَحَ الى حُضُورِ الفُصْحَى في مواقِعِ المُشَافَهةِ حيناً و حُضُورِ العاميّةِ حيناً في بعضِ مواقِعِ الكِتَابةِ مع تأكيدِهِ على بوادِرٍ لتقدّمِ الفُصْحى التي تحْتَاجُ منّا الى التَّخْطِيطِ و التَّوجِيهِ

البابُ الثالث: عواملُ التحوّل

الفصل الأوّل: البحث اللغوي

(درس اللهجات)

يُشيرُ المؤلف الى شُبْهةِ دراسةِ اللهجاتِ على أيدٍ أجنبيّةٍ تهدفُ الى تغليبِ العاميّة في ظلّ التّفرقةِ و الاستعمارِ، و يشيرُ بالمقابل الى وجهٍ آخر من دراسةِ اللهجات خاصّةً على أيدٍ عربيّةٍ تتحرّقُ الى بلوغ الفُصحى من خلال فَهْم مظهرٍ لغويٍّ واقعيٍّ هو العاميّة. أَقرّ المؤلفُ بتخوّفِ علماءُ اللغةِ في البدايةِ من دراسةِ اللهجاتِ خشيةَ تثبيتها و تغليبها لكنّهم عموماً أيقَنُوا بجدوى دراستِها و رأوا في ذلك خطوةً منهجيةً ضروريةً في سبيل التحوّل الى الفُصحى. و هكذا، انطلقتْ تحقيقاتٌ لغويّةٌ من هدفِ براغماتيٍّ: استكشافِ الفصيح في العاميّةِ و توجيْهِ غير الفصيحِ و الدّخيلِ أو العملِ على تفصيحِ العاميّةِ بحجّةِ أنّ ليسَ كلّ ما في العاميّة خطأ.

و ذكرَ المؤلفُ عدداً من هذه التحقيقاتِ مثل: ١. تحقيق مجمع اللغة العربية في القاهرة عام ١٩٣٢، ٢. تحقيق عارف النكدي في العربية بين الفصحى و العامية، ٣. تحقيق عبد القادر المغربي في دراسة في اللهجة المصرية، ٤. تحقيق ابراهيم السامرائي في العربية الدارجة في القطر الجزائري، ٥. تحقيق حسين علي محفوظ في تقريب العامية من الفصحى، ٦. تحقيق محمود تيمور في العامية الفصحى، ٧. تحقيق عباس العقاد في أمال من اللهجات العامية، ٨. تحقيق ابراهيم أنيس في كتاب في اللهجات العربية، ٩. تحقيق عون الشريف قاسم في العامية في السودان، ١٠. تحقيق وفا أفندي محمد الذي أنتج معجماً للألفاظ العامية الفصيحة، ١١. تحقيق امين الخولي في لسان العرب اليوم، ١٢. تحقيق احمد رصا في العامي و الفصيح، ١٣. تحقيق محمد كرد علي، ١٤. تحقيق سليمان محمد سليمان في العامية في ثياب الفصحى، ١٥. تحقيق عبد العزيز بن عبد الله في العامية و الفصحى في القاهرة و الرباط.

وقد وَجَدت كلّها الفاظاً و اوزاناً صرفيةً و اساليباً نحويةً مستعملةً في العاميّات لها أُصولاً عربيةً فصيحةً. و هذا ما يؤكدُ على أهمية اللهجاتِ العربيّة الحديثةِ و ضرورةِ دراستها و بحثها باعتبارها مخزْنٌ حافظٌ للفُصحى. أكدَ المؤلفُ على أنَّ هذهِ التحقيقات ظلّت شتى و لم تُفرَزُ في عملٍ مُستوعبٍ شاملٍ. و اقترحَ استقصَاءَ جميع هذه التحقيقات، و عرْضُها من خلالِ برنامجٍ محكمٍ يضبِطهُ الحاسوبُ بحيث تُستَثمرُ تلكَ الجهودِ في تبيين الأصلِ الفصيحِ لكلِّ لفظةٍ أو ظاهرةٍ صوتيّةٍ أو صرفيّةٍ أو نحويّةٍ أو غيرها، و تبيين مَرتبَتها في الفَصَاحةِ من البناءِ الائتلافيّ التاريخيّ للعربيّةِ، و نسبتها اللهجيّةِ الأُولى ثمّ انتقالها في الأمصَارِ المختلفةِ، و استعمالها في الأعصَارِ المُتلاحِقةِ، و نسبتها في اللهجاتِ الحَديثةِ، و مدى عمومها و ما طَرأَ عليها من تغيّرٍ. و أَشارَ أخيراً الى بُعدِ التباينِ في اللهجاتِ الحديثةِ؛ و أوّلها التباين في ‘نطْقِ بعضِ الأصواتِ’ و هذا ما اعتبرهُ ظاهرةً لغويّةً طبيعيةً موجودةً في اللغات الأُخرى كالأنجليزية. و نبَّهَ الى مظهَرِ تباينٍ آخر و هو التباين في دلالاتِ الألفاظِ الذي قد يبلغُ حدّاً يُفسِدُ على اللغةِ رسالتَها في التَّواصُلِ بينَ أبنَاءِ العَربيّةِ

الفصلُ الثاني: التّعليم

يرى جمهورُ الباحثين أنّ الغَلبةَ ستتمُ للفُصْحى بفَضلِ انتشارِ التّعليم و الثقافةِ و لكن يُشيرُ المؤلفُ الى وجودِ عواملٍ أخرى بين الطرفين اذ هُما ضمن سياقهما الشّامل. ثّم يذكُر حِرص البّاحثين على استعمالِ العربيّة الفصحى في حصصِ اللغةِ العربية و اعتِبارِ كلَّ معلِّمٍ في المؤسسةِ التعليمية هو معلّم لغة عربية. و لكنْ يبقى ذلك قاصراً لأنه جهدهُ فرديّ ثم أنّهُ ليس بمعزلٍ عن المحيطِ الذي لا يساعدُهُ. و يُشيرُ الى دعوات اصلاحِ المناهجِ و الكتابِ المدرسيّ و طريقةِ التّعليم و لغةِ المعلّمِ و خطّةِ الموجِّهِ و طريقةِ التّقويم و استثمارِ الوسائلِ التّعليمية الحديثةِ و اصلاحِ لغة الصحافة و غيرها. بحيث يرونَ استعمالَ- الفُصحى و لو بشكل تدريجيّ- السَّبيلَ الأسلم للتحوّلِ عن العاميِّةِ؛ خاصّةً انَّ استعمالَ الفُصحى في غرفةِ الصّفِ أمر مقبول عند الطلاب و المسؤولين و اولياء الأمور. ثمّ يتطرّق المؤلفُ للتّعبيرِ الشفويّ في المدارسِ الذي يكون عادةً قائمة من الموضوعات المتنوعةِ لكنَّه لا يتجاوزُ الفقرة العامة العائمة. كما لا يوجد له برنامج مرسوم تُحَدَّدُ فيه القضايا متدرجةً متناميةً و تُحْسَبُ فيه لكلِّ قضيةٍ لوازمها من المفرداتِ و العباراتِ. و لم تعمل المؤسسةُ التّعليميةُ على فَحْصِ قواعد الخِطابِ المكتوبِ و قواعدِ الخِطابِ الشفويّ اذ أن قواعد العربية بُنِيَتْ من المستويين.

ويؤكدُ على أن التّعثرَ في التعبيرِ الشفويّ – بل في تحصيلِ العربية جميعاً- يعودُ في أهمِّ أسبابهِ الى تأثيرِ العاميِّةِ السلبيِّ خاصّةً أنها مكتسبةً ما يجعَلُها راسخةً على عكسِ الفُصحى المُتَعلّمة التي لا تُستعمل في الحياةِ العامّةِ. و  يتمثّلُ الحلُّ الأبرز عندَ أَهل تدريسِ العربيّةِ المشكلةِ تأثيرِ العاميّةِ السّلبي في اجْراءِ موازنةٍ بين الأَلفاظِ العاميّةِ المصحّفةِ و بين أُصولها الصَّحيحةِ في اللغة الفُصحى و تكليف التلاميذِ حِفْظ الصوابِ و النُّطق به، و هَجْر المُحرّف و تدريبهم على ذلك و مراقبتهم مراقبةً دقيقةً. و أشارَ المؤلّفُ الى مقترحاتِ محمد فريد أبو حديد و المُستشرق ماسينيون من أجلِ ترسِيخِ الفُصْحى و هَجْر العامية. و أكدَ على خُطُورةِ مسْألةِ “الاعراب” التي سقَطَتْ من اللّهْجَاتِ العاميِّةِ عامّةً، و دعَا الى أخْذِ الاعرابِ في الفُصْحى على أنّه نظام. و جعَلَ الحلَّ الأمثلَ لمشكلةِ الاعْرابِ في تَخَطّي التعليمِ الى “الاكتِسَاب”. اذ ان الاعراب المُلتَحم بالنَّص المُتَّصِلِ باهتِمَامِ المُتعلِّمِ المُؤدّى أداءً حارّاً معبِّراً أو أداءً مسْرَحيّاً مُشَخَّصَاً يتسَرَّبُ الى المُتعلّمِ عفواً و يصْبحُ فيه، بعد حين، كالسَّليقةِ. و أَكَّدَ أَخيراً في ظلِّ فشَلِ تحَقِيقِ ثورةٍ شاملةٍ الى الدّعوةِ بأنْ تَصُوغَ المدرسةُ في داخِلها نموذجاً مصغَّراً للحياةِ الاجتماعيّةِ و أن تضَعَ اللغةَ الفُصحى مَوضِعِها الطَّبيعي

الفصل الثالث: الفنون الأدبيّة

أكد المؤلف على كفاية الفصحى التلقائية لأغراض النشاط اللغوي المكتوب. و أكدّ على الاتفاق بأنْ تكون الفصحى هي لغة السّرد في القصة التّاريخية و المُترجمة و المسرحيّة التاريخية و المترجمة و لكن الخلاف حول عنصر الحوار في القصة غير التاريخية أو المُترجمة؛ أيكون بالفصحى أم بالعاميّة بحيث تتناسب مع لغة الشخوص في الواقع. و أبانّ المؤلف أن الميل للعامية في الحوار سببه الرئيسي هي الازدواجية ثمّ امتلاك العاميّة بعضَ التعابير ذات الطاقة التعبيريّة أو ربما تكون أدلُّ و أقوى من الفصحى أو ليس لها مقابل في الفصحى أو بدعوى أن كثيراً من ألفاظ العاميّة ذات أصلٍ فصيحٍ و لكنّنا نجهله. و قد ذكر المؤلف على استعمال الفاظ عامية في كتابة فصيحة مثل استعمال محمود محمد شاكر لفظة ‘اللغوصة’، واستعمال النشاشيبي لفظة ‘المتبحبحة’ و ‘ماشية’ و استعمال بدر عبد الحق لفظة ‘كوربة’. لكنّه أكد على وجود معادلٍ فصيحٍ لها ثم أنّها ألفاظ ليست من اللغة العامة المشتركة بل هي مخصوصة ببيئة محدودة و لهذا تحتاج الى بيان دلالاتها في الهوامش. و ألمح في معرض تمييز الفصيح من العاميّ بأنه لا يقوم على أساس’ الصواب النظري’ الذي يسمح به البناء الائتلافي. و ذكر ظاهرة لفظين فصيحين أحدهما شائع والأخر محدود، فكلمة “خشّ” أصيلة محدودة الاستعمال بينما “دخل” كلمة شائعة فيمكن ان نقيم الائتلاف اللغوي بجعل خشّ فرع من لفظة ‘دخل’. و أورد ظاهرة وجود ألفاظ مختلفة تدل على معنى واحد في الأقطار العربية حيث تمثل كل منها “مرجعاً” الى خبرة خاصة بالناطقين بها. و أشار بأن على برنامج التحوّل أن يطرح بدائلَهُ و نظائره في اطارٍ أوسع و أغنى. ثم عاد الى قضية التردّد بين الفصحى و العاميّة في الفنون الأدبية.

بيّنَ أن محمود تيمور يؤيد العامية في المسرحيّة و في الحوار استجابةً للواقع و يؤيد الفصحى في القصة. لكنّ تيمور أشار ثانيةً الى أن المسرحية باللغة العامية ليست من أدبنا الكتابي لأن العامية لا تملك تقاليد كتابية و رسوم املائية و تظل ضمن بيئة محليّة و لا تمتد زمنياً كالكتابة بالفصحى. و اعتبر توفيق الحكيم بأنه لا توجد لغة فصحى نهائية و لا عامية نهائية، فكتب مسرحية ‘الزمار’ بالعامبة و مسرحية ‘أغنية الموت’ بالفصحى ثمّ طور لاحقاً لغةً “بين بين” لا تجافي قواعد الفصحى و لا تنافي لغة الأشخاص و طبائعهم. لكن اعتبر المؤلف هذا النّهج أشدّ تسليماً للعاميّة و أصرح اغراءً بالافلات من حدود الفصحى. يرى المازني الفصحى أداةً ثابتةً و يدفع حجة الواقعية للعاميّة باعتبار الواقعية ليست محاكاة حرفيّة للواقع و لأن الأدب فنّ و ليس نقل أو محاكاة. و تردّد يوسف السباعي بين الفصحى و العاميّة في القصة مثل تردّد الحكيم في المسرحيّة. اذ بدأ السباعي  بالأسلوب الفصيح الجزل ثم استعمل الفصيح في السّرد و و العاميّ في الحوار، و وصل الى لغة “بين بين” على السواء.

يبني المعتقدون بمبدأ الحوار بالعاميّة حججهم على أنّ مظاهر التنوع اللهجي شيئاً مستطرف يجسّد خصوصية مستحبة، و هذا ما يمكن الأخذُ به للتلوين و اغناءِ أصل المتن. و يرون أيضاً ان الحوار بالعاميّة يعطي بُعداً عن الشخصيّة اذ نعرف الشخصية عن طريق تصرفاتها و اللغة من بين هذه التّصرفات كما تعطي العاميّة بعداً مكانيّاً ذا نعرف بيئة الشخصِ من لهجتِهِ. عارض المؤلف هذه الحِجج بأنّها تقوم على فَرَضٍ لا يتحقّق الا لعارفٍ باللهجات أو ناقدٍ متخصّصٍ. وعرض نقد العقاد للحجج من خلال قوله بتبديل الممثل ملابسه و عاداته و تصرفاته و بيئته من أجل ‘التهيؤ’ الذي هو ركن أساسي في اشاعة جو الفنّ و البيئة البلاغيّة، وهذا حق اللغة أيضاً أن تشترك في التهيؤ. و رأى محمد مندور أنه لا يمكن أن نتحرك للشخصية لغتها بل نترك لها ‘حقيقتهل الأنسانية’، فواقعية اللغة ليس بأن تتكلم كل شخصية لهجتها و الا جاءت المسرحية خليطاً بل واقعية اللغة هي ملاءمتها لشخصيات الرواية فهي واقعية نفسية عقلية عاطفية. اذ الواقعية الحقيقية تستنطق لسان الحال لا لسان المقال. ودلّل المؤلف على رجحان الفصحى في الأدب بهبوط المسرح العربي حين استعمال العامية بكثرة و صعود الرواية التي تستعمل الفصحى.

ووجّه المؤلف نقده الى مَن يقولون بتعبيريّة العاميّة حيث رأى أن التصوير السينمائي والتلفزيوني يستوفي كل الشروط اللازمة لخلق سياق حيوي كامل تتخذ فيه الفصحى مدارها الطبيعي ثم أن استعمال الفصحى غير متكلّف لأن الانتقال من لهجة لأخر أبعد من الانتقال الى الفصحى لأنه انتقال من معلوم بالسليقة  الى معلوم بالتّعلم و ذكر بأنّ على المُمثل أن يكون مسؤولاً عن تحقيق الدّور في بعده اللغوي مثلما يجتهد في تقمّص دوره الذي قد يكون مغايراً تماماً لحياته الطبيعية. و ذكر في سياق معالجة واقعية اللغة معالجةً مباشرةً الى أنّ علماء العربية قد استوعبوا في ائتلافها قواعد الصيغة المنطوقة و الصيغة المكتوبة. و لذا، يَجدر بنا استخراج قواعد المنطوق و ربطها بسياقاتها لتكون نماذجاً على لغة محكية قائمة على رخص الجواز بالحذف و الاجتزاء اعتماداً على الحال المُشاهَد. و دلّل على حجيّة استعمال الفصحى في الحوار القصصي أن التنزيل المعجز استعمالها في الحوار على ألسنة المؤمنين و الكافرين و الأولين و السابقين. و جرى هذا الحوار في الشعر عند امرىء القيس و عمر بن أبي ربيعة و كذلك في كتابات الجاحظ. ختم بأن التردّد بين الفصحى و العامية و الوسطى ما زال قائماً في الفنون الأدبية، و اقترح للتدبير اللغوي ١. حصر المفردات الدالة في اللهجات العربية الحديثة و شرحها و بيان أصولها و مقاصدها ٢. بناء الحوار القصصي و المسرحي على وفق قواعد ‘الفصحى المنطوقة’ لا قواعد الفصحى المكتوبة.

الفصل الرابع: الأعلام

أكد على استحواذ التلفزة على طائفة كبرى من الناس و أكد على تأثيرها غير المباشر في صياغة لغة الناس و لكنّه اعتبر تأثير الاعلام غير منتظم بينما برامج التعليم منتظمة لأنها تفرض التزام زمني محدّد و منهاج مقنّن. وأكدَ على الاتفاق بأن وسائل الأعلام المسموعة و المرئية أُطراً و مواقعاً مرشّحة للفصحى لأنها تتجاوز حدود الدولة و تتخطى الواقع الضيق الذي يكون للهجة. و بيّنَ أن لغة الأعلام تتراوح بين الفصحى و العاميّة والوسطى. يكون المكتوب المقروء بالفصحى، وجُلّ برامج الأطفال بالفصحى، و تحاول البرامج التعليمية الالتزام بالفصحى، و تتقاسم لغة الاعلان التجاري بين الفصحى و العامية و لكن أصبحت فيها الفصحى أكثر تقبّلاً، و تتناوب لغة الاعلام بين الفصحى و العامية حسب الموضوع و وفق المتحدّثين، و تُترجَم البرامج الأجنبية غالباً حرفيّا و بلغةٍ ركيكةٍ. و يتمثّل خطر العامية في الاعلام في أنها تكرّس التجزئة.

تتردّد نشرات الأخبار بين الامتثال التصحيح اللغوي و التّشبُّث بالفصيح و بين الأخذ بالوجوه الشائعة من الخطأ. اذ قد يعترض محاولات استعمال الفصحى مآخذ مثل ١. بروز السمات اللهجيّة الخاصة في نطق الأصوات ٢. الأُنس بالتسكين ٣. وصل همزة القطع ٤.مخالفة أحكام القطع. وقد تختلط العامية بالفصحى بحيث تكون بين بين، وربما تسرب تأثير العامية الى اعلانات جامعية مكتوبة. وتقحمُ وسائل الاعلام اتجاهات لغوية هي آثار للترجمة الحرفيّة وتنعكس في بعض المقابلات آثار الثنائية حيث تتسرب لها العبارة الانجليزية. تطرح التلفزة فيضاً من مصطلحات الفن معرّبةً على حالها في تراخٍ ظاهرٍ. وذكر بأن التواصل بين اللهجات بفضل وسائل الاعلام أدى الى تقويم بعض مواضغ التباين، وأشار الى أن التقاء العربية من أقاليم مختلفة يساهم في اتخاذ الفصحى. و أبانَ بأنّ المسلسل التاريخي يتردد بين مستويات متفاوته وهو في الأصل مرشّح للفصحى. وتستسلم المسلسلات التي تتناول الحياة إلى العامية ايثاراً لأقل التكاليف وتعلّقاً بالواقعية التسجيليّة السلبية. يؤكد على أن هذه المسلسلات مجال حيوي للتحوّل إلى الفصحى في الخطاب اليومي إذ استعمالها مستوى لغوي معين أو الفاظ محددة يؤدي الى تداولها الواسع عند المشاهدين كما نشاهد مثلاً تأثر الناس بألفاظٍ من اللهجة المصرية و الشامية نتيجة المسلسلات. و افترض أنه لو أحصى أحدٌ ما أدخلته الصحافة في لغة الناس من المفردات بشكل غير مباشر لوجدها تفوق دور المجامع اللغوية جميعاً. و يُنهي بذكر ثلاثة مستويات للتعبير اللغوي يتوسل بها الأعلام هي ١. المستوى التذوقي الجمال ‘الأدب’ ٢. المستوى العلمي النظري ‘العلوم’ ٣. المستوى الاجتماعي الوظيفي ‘الاعلام’. و ذكر بأنّ تقارب هذه المستويات دليل صحة المجتمع و توازن طبقاته و حيوية ثقافته و تكامله و سلامته العقلية

الفصل الخامس: العقائد الفكرية

أبان المؤلفُ بأنّ العقائدَ الفكرية تتّخذُ من اللغة مواقف عامة، و أشار الى أنّ الكلام عن العلاقة بين اللغة و الأمة، و بين اللغة و الدين، و بين اللغة و مجموع جهود الطبقات و نشاط الأجيال لا يتوجّه الى موضوع التحدّث بالفصحى و محو الازدواجية. و لكنّه أكدَ اقترانَ التحدّث بالفصحى اقتراناً مباشراً بالمَوقف الفكري اذ التمسّك بها دالاً على الالتزام العقديّ أو القومي. يصنّفُ الناسُ مَنْ يتكلمُ بالفصحى تصنيفَ ‘السّلفي’ اذ تلْقَى الفصحى استحساناً عند مَنْ سِمَتهُم دينية. و تنتصر المذاهب الفكرية على المستوى النظري للفصحى. فهي شعار العروبةِ و أُسُّ الأساسِ في القوميّة العربيّة؛ اذ اللغة و القوميّة أمران متلازمان، فوحدة اللغة تجعل المجتمع متماسكاً. و هي لغة القرآن، فمن الواجب من منظورٍ دينيٍّ سلفيٍّ كما يرى النّبهاني أن تجعلَ كلّ دولة اسلامية العربية فقط لغتها. وقدْ حثّ الأخوان المسلمين على التكلّم بالفصحى وجعلوا الالتزام بها قدرَ الاستطاعةِ شرْطَ العضو العامل. وأبانَ المؤلفُ أنَّ شرطَ الفصحى عندهم فيه سعة و مراوحة، فقد استعمال مؤسسُ الجّماعةِ حسن البنا ألفاظاً عاميةً بل و دخيلةً أيضاً.

وأشار المؤلفُ أنَّ سنةَ النبي عليه السّلام قائمةٌ على السعة و المراوحة، اذ راعى النبي الفروقَ اللهجيّة في سبيلِ نشر الدعوة و تأليفِ القلوب، لكنّه اذا سمعَ اللّحن و رأَهُ نذيراً خطيراً عَدَّهُ ضلالاً كما وردَ في الحديثِ. و أبانَ أنّ موقفَ الاسلام من العربيّة موقفاً مُحايداً، فقد كانت العربيّة لغة الجاهلية، استعملها الاسلام بنظامِها لكنّه فقط عدِّل فيها بعض الألفاظ، و سمح الأسلام بتعدُّدِ القراءة حسب لهجاتها. و لكن حين انتشرَ اللّحن، نُسِخَ المصحفُ الأمامُ و صارت لغةُ قريش هي الفيصل عند الاختلاف. و يبدو أن هذه العلاقة المحايدة قد رافقت العقائد الأُخرى، فقد سمحتْ الماركسية في بداياتها باللغات القومية و تعلّمها و لكنّها مالتْ الى التضييق لاحقاً واتجهتْ الى الرابطة اللغويّة الجامعةِ [حسّ الأمة الجامعة هو السبب برأيي]. ومن هذا استنتج أنّ التغيير الكامل في المجتمع لا يستلزمُ بالضرورةِ تغييراً في بنيةِ اللغة. و قد رأى الماركسيون أنّ اللغة لا تعتبرُ في مجموعها من البنيةِ العُليا تحدِّدُها في مجموعها البنيةُ السُّفلى الاقتصادية و الاجتماعية. ثمّ ذكر أنَّ العقيدة الثقافيّة العربيّة ترى العربيّة الرابطةَ الأولى في حياةِ العرب حيث شكّلتْ جسراً لهم على امتداد قرونٍ طوالٍ.

وبهذا، تقترنُ وحدةُ العرب حسب هذه العقيدة بالفُصحى وحدها فكلّما قضينا على اللهجاتِ، تقدَّمنا نحو الوطنِ العربيّ الواحد. فاللغةُ ليست أداة بل تعني وحدةً ذهنيةً أو شخصيةً واحدةً. وذكر بأنّ العربيّة هي اللغة الوحيدة التي استمرت دون تبديلٍ أو تغييرٍ جوهريّ في بنيتها طوالَ قرونٍ الا في حدودِ ظهورِ ألفاظ جديدة أو تطوّر معاني كلمات معينة. ما يعني أن العربيّة تربطُ بين حاضرِها و ماضيها، فيمُكِن أنْ يقرأ المرءُ بها ثمرةَ أقلامِها منذ ستة عشر قرناً. و ألمحَ  الى استهواءِ الأميون الاستماع الى أدَبِ الفصحى مع أنّهم لا يَفْهمونَ بعضَه على الاستماعِ الى الأدبِ بالعاميّة رغم أنّهم يَفهمونَهُ كلَّه. ما يُفْهَمُ من هذا بأنْ ليسَ للعاميّةِ نظام لغويّ و هي بذلك حالة مرضيّة و انحراف و فساد. ثمّ أبان بأنّ العربيّة تشكّلُ امتداداً أفقياً عريضاً غير مختلف. و تعرّض أخيراً لثنائيةِ المفقودِ و الموجودِ حيث يصعُبُ على الأمةِ تجاوزُ ما ألِفَتْ عليهِ من اللهجاتِ و لكنّه تتنبَّهُ الى مزايا الفُصحى عندما تتعرّضُ لخطرٍ أو عدوانٍ أو احتلالٍ. و نَفَى أن ينشدَ البلاءَ العام من أجلِ العافية اللغويّة و دعا الى النّظر الى المستقبلِ نحو مزايا استعمال الفصحى و ألمحَ الى أنّ العقائدَ الفكريّة تمثّلُ رصيداً للاستثمارِ في اطارِ مشروعِ التحوّلِ الى الفُصْحى.

البابُ الرابع

التقويم: مَدَى التحوّل و مظاهره

يقرُّ المؤلفُ بعلوِ صوتِ الفُصحى على العاميّات، و يؤكدُ انتصارها في ميادين الكتابة حيث تبيّنَ للكثيرٍ من الكتّابِ انّ العاميّة تقع في اسارٍ ضيقٍ و تسْلبُ العملَ الأدبيّ قدرتَهُ على الامتداءِ وراء حدودِ الاقليميّة. و ضرَبَ أمثلةً على انتصارِ الفصحى في الكتابة، منها: استعملَ محمد حسين هيكل ألفاظاً و عبارات عاميّةً في قصّتِه ‘زينب’ ثم كتَبَ بعدها بالفُصحى فقط. و استخدمَ توفيق الحكيم في ‘عودة الروح’ الفاظاً عاميةً كثيرةً لكنّهُ أكمَلَها بقصّةِ ‘عصفور من الشرق’ بالفصحى، و قد جرّبَ في مسرحيةِ ‘الصّفقة’ انْ يكتُبها بلغة بين بين. و يؤكدُ المؤلفُ كذلك انتصار الفصحى في لغة التحريرِ الصحفيّ و الاداريّ على ركاكةِ العاميّة مقارنةً بالفترة السّابقة بل ساهمتْ لغتُها في تشكيلِ العربيّة المُشتركةِ المرشَّحةِ لأنْ تكونَ فُصْحى العَصْرِ، اذ أهميةُ هذين المجالين يهيىء لها تجربة عملية في التعبيرِ عن موضوعاتٍ يوميةٍ. كما تبرزُ على مستوى المشافهة العربية الوسطى التي تقع ‘بين بين’ حيث ترقى على العامية لكنّها لا تزال تغايرُ الفصحى خاصةً في نظامِ الأعراب. ثمّ عرضَ المؤلفُ رأياً مشتركاً بين عدةِ باحثين محدثين مثل سعيد الأفغاني و شوقي ضيف و أحمد أبو ملحم و محمد الحبيب بن الخوجه مفادهُ: اقتربت عامياتُ اليوم من الفصحى بسبب انتشار التعليم و الثقافة و النشر و تأثير وسائل الاعلام بحيث أصبح البونُ شاسعاً بينها و بين عاميات العهد العثماني أو غيره. و يلمِحُ المؤلف الى أنَّ هذه انطباعات – لكنّها متفائلة- حيث لا تقوم على مقاييسٍ محدودةٍ أو معاييرٍ مضبوطةٍ.

ويرى أنَّ أبرزَ مظاهرِ التحوّلِ هو في مستوى المفردات اذ دخلتْ ألفاظاً عربيّةَ الوَضْع أو الأصْلِ الى لغةِ الناس، و هذا ما أقرَّهُ ابراهيم السامرائي و غيره. و تكْمُنُ أهميةُ عنصر المفردات في أنّه يمثّلُ مادّةً في معجمِ النّاس جميعاً. لكنّ المؤلفُ يقرّ باستمرارِ حالةِ التّردّدِ على مستوى المفردات بين تيارِ التنقية و تيارِ الأمرِ الواقع الأٓخذِ بالألفاظ الدّخيلة، و يقرّ بأعراض الثنائية اذ ما زالت تُستعملُ ألفاظاً دخيلةً مثل الهاتف و التيلفون و الفندق و غيرها، و يقرُّ باستمرارِ الصِّراعِ بين ألفاظٍ دخيلةٍ و ألفاظٍ عربيّةٍ، و يعيبُ على المجامعِ اللغويّة تَأخُّرِها في ايجادِ ألفاظٍ عربيّةٍ عبر الوسائلِ اللغويّةِ بعدما تَجْري الألفاظُ الدخيلةُ على ألسنةِ النّاس بشكلٍ واسعٍ ما يُصعّبُ استبدالها بالألفاظِ العربيّةِ. و يقرُّ بوجودِ وعي لغويّ قويّ يجري تيّارهُ بين المثقفين جميعاً، يراه، يتّجهُ نحو التنقيةِ؛ أي احلالِ الفصيحِ محلّ الدَّخيلِ. و يُنهي هذا البابَ بعَرْضِ مجاهيلٍ عديدةٍ، هي أنّنا: نجهلُ مَدى تغلغلِ المعجم الفصيحِ في اللهجات و لا توجد خطة محكمة لذلك، و نجهلُ نسبة تحوّل التركيب العاميّ الى تركيبِ الفصحى، و نجهلُ نسبة انحسارِ استعمالِ العاميّات في حياتنا، و نجهلُ نسبةَ تقبّلِ الناس الفُصحى في مواقفِ الحديثِ دون غمزٍ أو لمزٍ. و ينشُدُ خِتاماً الخروجَ من الانطباعِ الى التَّحقِيقِ و النَّفاذِ من الحُلمِ الى العَملِ في هذهِ المَسَائلِ و نَظَائِرِها

البابُ الخامس

المُرافعة- مشروع التحوّل

ناقش المؤلفُ عدّة تحفظاتٍ على التحوّل الى الفُصحى، و هي:

(1) هل التحوّل قضية ذات أولوية؟ يقرُّ بنجاح العربيّة في دفع العاميّة أن تحلّ محل الفصحى لكن ما تزال للعاميّة جيوب باقية في الفنون الأدبية، و نجحت العربية في دفع الحرف اللاتيني أن يكون بديلاً للحرف العربي في الكتابة و لكن لم تنتهِ الى اصلاح الرّسم العربي و ما يزال الرسم يخلو من الحركات التي تمنع اللبس. و نجحت العربيّة في أن تكون لغة التعليم و لكن لم يتحقق لها ذلك على الشمول. و نجحت في وضع مكتبة ضخمةٍ من المصطلحات في جلّ العلوم و الفنون و لكنّها لم تأخذ طريقها الى التأليف و التدريس و البحث العلمي بما يكفل لها التوالد في الاستعمال الحي. و نجحت في ترسيخ معيار الصواب و لكن أثر التصحيح ما يزال ضعيفاً. و لهذا، يرى بعضُ الباحثين بأنّ الدعوة الى الفصحى في ضوء ما تقدّم قفزاً عن معطيات الواقع اللغوي الذي ما تزال جلّ قضاياه معلّقة لم تُحسم، و هي دعوة للهجوم و نحن لما نستكمل عدّتنا للدفاع. و لكن يرى د. نهاد الموسى أنّ الهجوم خير وسيلة للدفاع. و يرى وجهاً آخر اذ ليس التحوّل الى الفصحى مشروطاً بحلّ المشكلات المتقدّمة. و يرى ان قضايا اللغة متراسلة يؤثر بعضها ببعض و لا ريب أن التخطيط اللغوي ينبغي أن يكون شاملاً لها في آنٍ معاً لأن التقدم في واحد منها دون سائرها يُفضي الى حلقة مفرغةٍ. و هكذا فانّ التحوّل الى الفصحى يختصر علينا الطريق في حلّ جُلّ المشكلات المتقدمة لأن وضع الفصحى في مدار الحياة اليوميّة حتى يعتادها النّاس و حل مشكلة الازدواجيّة سيحل مشكلة الكتابة تلقائياً

(2) هل هو ضروري؟ يُطرح تساؤلاً عن ما يدعونا للتحوّل و ترك لهجاتنا الخاصة. يرى المؤلف أن فتور الدعوة للفصحى مردّه ادراك الناس بحاجتهم الى جهدٍ اضافيّ غير ضروريٍّ و هم بحكم عاداتهم يستعملون لهجاتهم استعمالاً عفوياً. ثمّ انّ جمهورة أبناء العربيّة لا يتحققون بأعراض الانفصام الذي تصيبهم به الازدواجيّة. اننا غير مطمئنين الى لهجاتنا فهي ضيقة لا تتسع لقضاء حاجاتنا في هذا العالم الممتد المتواصل، و لسنا مطمئنين الى الفصحى اذ نأخذها أخذَ المهابة فلا نتحدث بها تحدّثاً طبيعياً معبّراً مقنعاً. تكلفنا الازدواجية بضع سنين من أعمار أبنائنا، فهم يتعلمون العامية خلال السنوات الأولى من عمرهم ثم ينفقون عشر سنوات أو أكثر في تعلّم الفصحى. و الازدواجية سببُ حيرة أبنائنا في المدارس التي تفضي بهم الى لجلجةٍ لغويةٍ تُهدر شطر طاقاتهم الفكرية، و هي رأس المشكلة في تعليم العربية لأبنائنا لأنهم يتعلمون لغةً في البيت و الشارع غير اللغة التي يتعلّمونها في المدرسة. و لعل ضعف الطلبة في اللغة العربية في حوهرها أثراً من آثار الازدواجيّة حيث يُلحظُ اضطراب الطلبة في قراءة الرسم العربي خاصةً حينما يخلو من الحركات.

كما يصدع الازدواج اللغوي الوحدة الاجتماعية للمجتمعات العربية و يفرقها طبقاتٍ ثقافية و علمية و غيرها. و يقسّم اتساع الفرق بين لغة الحياة و لغة الفكر الأمة الى أ. قلّة مثقفة تتعامل بالفصحى پ. عامة الامة التي تتعامل بالعاميّة. فمن الخير أن يُرفعَ الحاجزُ الذي يفصلُ بين القلّة الشاعرة المفكّرة و الكثرة العاملة المنتجة. و لم يعد الواقع المزدوج يناسبُ التطور القومي الذي تعمل أمة العرب جاهدةً على تحقيقهِ حيث حقّق التطور السياسي و الاجتماعي في المحتمع العربي قدراً من تذويب الفوارق بين الطبقات؛ ففي دور النيابة و مجالس البلدية و غيرها أعضاء من الشعب الفلاحين و العمال و أصحاب الحِرف الى جانب العلماء و رجاب الثقافة، فما عاد مستساغاً في نظام الوحدة الوطنية أن يختلف التعبير من طائفةٍ لأخرى. و تقوم الازدواجية في وجه الرغبة في نشر اللغة العربية في بعدها الاسلامي أو نشرها في العالمين لأن الدّارس من غير أبنائها تعترضه الحيرة لأنه يتطلع الى لغة تمكنه من القراءة و الكتابة و الحديث. اذ يجد الدّارس أن أهل العربيّة يعزفون عن مجاراته أو يعجزون عن محاورته فينقطع الأتصال بينهم. و قد عرض المؤلف رأياً لباحث أجنبي ‘نيوستوبني’ لا يرى تعارضاً بين الازدواجية و التحديث لكنّه يناقض نفسه فيقرُّ بانّ الازدواجية وضع لغوي وظيفي تخلصت منه الشعوب في المرحلة المبكرة من عملية تحديثها. و يرى المؤلف من دواعي التخوّل أن أهل العربية يرون الفصحى أرقى من العاميّة بل يعتبرونها أحياناً اللغة الحقيقية الوحيدة، فاذا سألهم أجنبي حاولوا عادةً مساعدته بالفصحى

(3)هل هو ممكن؟ و هل الفصحى كافية مكافئة لمطالب الحياة اليومية؟ قد يظن بعض الباحثين انّ التحوّل مستحيل لكنه عند المؤلف أمراً مختلفاً. فالفصحى نظام لغوي شأنه شأن الروسية و الصينية و الفرنسية و غيرها، له صفة معلومة و قواعد موضوعة، و قد كانت الفصحى في صورتها الائتلافية لغة الحديث. كلُّ نظام لغويّ قابل للتعبير المتجدّد الخلاق عن مطالب الحياة الانسانية، و يملك النظام اللغوي، أي نظام، طاقة خلاّقة على استحداث الجمل و توليدها و ليست الفصحى الا نظاماً لغوياً كسائر الأنظمة. و تقوم الفصحى بهذا الدور في مجال الكتابة جميعاً، و هي لم تنقطع عن أن تكون لغة حديث حتى بعد أن استقرت الازدواجية، فلا موضع لقائل ان الفصحى غير قادرة على التعبير عن مطالب الحياة و لا موضع لقائل ان العربية غير قادرة على الوفاء بمطالب العلوم المُستحدثة فقد اثبتت العربية اتساعها و قدرتها على هضم علوم الأوئل و تطويرها. لقد كانت الانجليزية تفتقر للمصطلحات العلمية حتى القرن السادس عشر، و كانت الفرنسية فجّة فضّة اذا قورنت باليونانية و هما الان غاية مَنْ ينشد الكمال في المحادثة، تفي اليابانية بمطالب العصر الحديث، و هذا كلّه دليل على قدرة الفصحى لأن تفضي بمطالب العلوم و الحياة مثلها. يظن الناس ان اللغة قادرة على حَمل فكر الأمر الواقع فقد و لكن لم تكن الألمانية حتى القرن الثامن عشر لغة أدبية فظن أهلها عدم قدرتها على ذلك لكنّها اليوم أحدى اللغات الأدبية المتفوقة. فكل لغة قادرة على التعبير عن الواقع الانساني و كل ما يمكن أن يكون واقعا في العالم الانساني. يحتاج التحول الى الفصحى الى ترفق و تبيّن. اكتساب الفصحى غير متعذر حين تتوفر شروطه و هي توافر المحيط الاجتماعي لاستعمال الفصحى و التعرض لها في مواقف الاستعمال. نجد مثلاً أفرادا يعزفون عن العامية و يتحدثون بالفصحى، فاذا نجحت على مستوى الفرد فان نحاحها ممكناً على مستوى المجتمع. و توجد شواهد على نجاح التحول مثل تحوّل برنارد شو في بيجماليون و أقرب الشواهد تحوّل الممثل العربي من لهجةٍ لأخرى بغير كثيرِ دربةٍ و كذلك نجاح تجربة احياء العبرية و جعلها لغة الخطاب. فالازدواجية غير ضرورية بالمرّة، و لا حتمية مساوقة لازدواج الحسّ و الشعور اذ الازدواجية اختلال أعقب التطور بين سنن اللغة المكتوبة المنزوع بها نحو الثبات و سنن اللغة المنطوقة المرسلة.

(4) أليس التحوّل شكلياً؟ يرى بعض الناس التحوّل غايةً شكليةً و ان العامية وافيةً بمقاصدهم. و لكن استعمال العامية يكشف عن قصور عاجز اذا حاول ان يتجاوز بيئته الى بيئة عربية أخرى. يعني التحوّل للفصحى التحول الى صيغة جامعة تقرّب المسافات بين العرب على اختلاف أقطارهم، و تختصر المسافات الزمنية بين الحاضر و الماضي و تجعل العمل للمستقبل في اطار منظور واحد مشترك و وجدان جماعي مشترك. فما يبدو الان انتقالاً الى صيغة شكليّة سيصبح وعاء تتشكّل به الفِطن و الاختبارات الحضارية و الابداعات العلمية و تمتد به جسور التواصل المتبادل المشترك و يفضي الى حياة متوازنة متسقة. و لكن تمثل المحصلة النهائية للتحول تحرّكاً نحو حالة مثالية تتخذ اللغة فيها نموذجاً واحداً مقبولاً على نطاقٍ واسعٍ مناسباً، مع اعتبار التباينات الطفيفة، لجميع الأغراض التي تنهض بها اللغة في الحياة

(5) ألا يكلفنا التحوّل جهداً اضافيّاً؟ انّ مقياس الصعوبة نسبيّ بدليل أن مَن يتعلم غير لجته يتعثر بها استصعاباً، فالصعوبة التي قد نحسها من تعلّم الفصحى مردّها أننا نتعلمها تعلّماً و ليس اكتساباً. و لا يخال المؤلف العامية أوجز و أكثر اختصاراً للوقت في كل وقت، و أعطى أمثلة منها: لا تخف – الفصحى يقابلها لا تخاف – العامية. يرى بأنّ التشكيل اللغوي العامي يجري على ألسنتنا سليقةً و عفواً يشتمل على سلاسلا صوتية ثقيلة مستقبحة لو أننا أبصرناه. و يرى بأن التحوّل يخفف عنا و يرفع أصر الازدواجية التي هي وضع فيه اسراف تحمل على أبناء اللغة عبئاً اضافياً ينافي مبدأ الاقتصاد و التيسير. اذ كل صور الازدواجية في العربية و اليونانية و النرويجية و الألبانية فيها اسراف ينبغي أن يكون هدف السياسة اللغوية ازالتها. و هذا يكون حسب ‘تول’ أما بجعل أحد المستويين هو اللغة الوحيدة و اطّراح استعمال المستوى الأخر أو محاولة توحيد المستويين بتقريب أحدهما من الآخر

(6) هل يمكننا التحول بتفصيح العامية؟ يرى ان هذا الحل يحتاج الى استطلاع و تجريب و يوضح أن المقصود بالتفصيح هنا أن تؤخذ العامية كما هي و أن تحوّل الى مقابلها الفصيح بتحقيق أصواتها و تعديل أبنية الكَلم و تصحيح تركيب الجملة لأن مثل هذا التحويل يقوم على أساس العامية و ينقلها الى الفصحى مستفيداً في ذلك من العلاقة القياسية بينهما. و يرى أن المسافة بين الفصحى و العامية بعيدة بحيث يتعذر الجمع بينهما اذ يندر استعمال كلمة عامية لا يكون لها أصل في الفصحى. يتحفظ بعض الناس على هذه التجربة و يرونها تفضي الى مفارقة مضحكة في الاختلاف اذ فيها اتتقال من السهل الى الصعب و لكن المؤلف يرى التحريب أمراً مشروعاً و قصد بالتحريب اختيار استعمال نماذج فصحى مقابل نماذج عامية مثل: كيفك، بقديش الرطل – – كيف أنت، بكم الرطل. و يقترح اعداد استبانة أو استطلاع بعناية و استيعاب، و النزول بها الى السوق و الشارع، و ضبط ردود الفعل نحوها ما يعطي تقريراً مباشراً عن استجابات الناس. و يرى بأن هذه التجربة الاصلاحيّة ستقوم على ما هو كائن اي على العامية و تستثمر امكاناتها و تحولها الى نطام الفصحى و بذلك تصبح الاشكال اللهجيّة المتنوعة المستعملة في كب بيئة عربية متوحّجة في أصول النظام اللغوي متفقة في العناصر التي تحقق لأصحابها التفاهم المتبادل

(7) أليس يمكننا حل مشكلة الازدواجية بالتحول الى العامية؟ يستأنس في الاجابة من تجربة اليابان حيث جعلت اليابان اللغة المحكية هي لغة الكتابة لكن عادت الشقة تتسع بين اللغة المكتوبة و اللغة المحكية ما دفع التربويين للدعوة الى توحيدٍ جديدٍ من خلال اعتماد اللغة المنطوقة لغةً للكتابة و التعليم. و بهذا، تظل الازدواجية تنشأ، و سيفضي التسليم للعامية الى الاسترسال معها في أطوارها المتلاحقة المتغيرة و تصبح كل عامية من العاميات المتفرقة عاميات متغايرة مع الزمن. ان جعل الفصحى لغة الحياة أيسر من جعل العامية اليومية لغةً للكتابة و الفكر و الثقافة و العلم جميعاً اذ تبيّن ان العامية عملة يومية محدودة و قدرتها التعبيرية تعود الى ألفاظ منها اكتسبت بالاستعمال هذه الطاقة الدلالية لدى اصحاب اللهجات. و تتعدد العاميات حتى لا تكاد تنحصر و هي تمثل خصوصية عشائرية او اقليمية قد تدعو الى التدابر و الفتنة، و هي وليدة الأمية التي ما تزال طاغية و هي تؤدي الى وضع مزدوج يقود للى تعثر ابنائنا في تعلّم العربية و تحول دون امتداد العربية و انتشارها في الناطقين باللغات الأخرى.

(8) هل نتحول الى نهاية لغوية مغلقة و نسعى الى ثباتٍ مصيره التحوّل؟ يصور المؤلف الفصحى التي ستغدو لغة الحديث على أنها تقوم على قواعد نحوية أساسها العربية الائتلافية التي تفسح لمقتضيات التباين، و تعتمد هذه الفصحى على استخراج قواعد المنطوق من صفة العربية الائتلافية دون ان تقتصر عليها حتى تحقق واقعية الأداء و مرونته. و هي معربة و خاصة في المواضع التي يكون فيها الاعراب دالاً على معنى اساسياً في الافادة و تلتزم بالنظام الصرفي و الصوتي للعربية و تفسح المجال للاختلافات الفسيولوجية و الخَلقية التي لا تفضي الى تباين مخلّ بالمعنى. فهي اذن عربية مشتركة جامعة مستمدة من الفصحى لكن تجلياتها في الاستعمال على الألسنة قد تحمل خصائص الناطقين بها في عاداتهم النطقية و هيئات أدائهم الكلامية الخاصة بلسان عربي مبيّن يجري على سبعة أحرف. و لا يشترط ان تكون الفصحى المنشودة كاللغة المشتركة في حدّ بعضهم لها بحيث لا يميز المرء من أي قبيلة ينتسب المتكلم. و يقوم المعجم على الرصيد اللغوي الذي تتواتر به لغة التعليم و الاعلام و العلم و العمل بين الفصحى و اللهجات المأنوس على نطاق واسع، و يقترن تفاوت الأساليب بالمتغيرات و هو مطلب لحياة اللغة. و هكذا، تصبح بعض الغرابة في الالفاظ التي يضيق بها من ينشدون العربية الفصيحة الواضحة ظاهرةً مفهومةً، فهي مقترنة بالمستويين الدلالي و الاسلوبي، متعلقة بالتطور الحتمي حسب الزمان و المكان. و بذا، تكون العربية الفصحى المنطوقة جارية على العربية الفصحى في حضورها اليومي المكتوب فهي تكون في الصيغة التي ننشدها قائمة على الاطراد و الثبات على الأصول دون تعطيل للتباين الضروري. فلا تكون الفصحى قالباً واحداً مغلقاً بل تتحقق على ألسنة الناس بصيغة جامعة مشتركة دون ترك خصوصياتهم كمثل حديث العلماء و المذيعين بالفصحى مع تحقيقهم لخصائصهم الصوتية و الصرفيّة. و يرى أن لا وجه للمبالغة في أن تؤول اللغة الموحدة المنطوقة الى الانفراط في لهجات شتى فان هذا الناموس ليس حتمياً اذ توجد أمثلة مشهورة ثبت فيها النموذج لوظيفته الائتلافية الجامعة. و يتراءى له ان هذه اللغة الجديدة تتلافى انبثاق الازدواجية من جديد بالوسائل التي يتيحها العصر مثل وسائل الاعلام التي تجسّد الفصخى مشخّصة محكية.

(9) أليست عوامل التحول الفاعلة الان بكافية؟ تنشأ العامية في احضان الأمية فتكون لغتتا الأم التي نعتادها و تأتي المدرسة تعلّمنا الفصحى و يأتي خلال ذلك الاعلام يعرض الفصحى و العامية و الوسطى. و لكن دور هذه الوسائل يأتي بعد اكتسابنا للعامية، فقضاء العرف لها بأن تكون لغة التخاطب يظل محدود الأثر. و يرى بعض الباحثين ان المستقبل للغة الوسطى و لكنه و يراها  لا تصلح بديلاً للفصحى فهي متغيرة مثل اللغة المحكية لا تلتزم بقواعد موضوعة و لا تنضبط بانتاج مكتوب يضمن لها هوية لغوية متميزة. و يشير الى الانفصام لدى معلمي اللغة العربية و سائر المعلمين الذي يمثل شرخ بين النظرية و التطبيق حيث النحو صنعتنا و اللحن عادتنا. و رأى بان المقارنة بين الفصحى و لهجاتها اقتصرت على كشف لمحات طريفة من ذخر العامية و أصولها الفصحى لم تتجاوز في قيمتها العلمية عنصر التسلية. و يرى بضعف أثر التصحيح اللغوي رغم أن غايته اصلاحية. و يرى باستحكام الازدواجية فلم يعد التعليم قادراً على استئصالها من ألسنة التلاميذ و لا الاعلام قادراً على انتزاعها من أفواه العامة و لا الدرس اللغوي قادراً على اغراء المتعلمين باستثمار الألفاظ العامية الفصحى و لا التصحيح اللغوي قادراً على علاج الاخطاء الشائعة. و الموقف العقدي أميل الى المراوحة بين الوحدة اللغوية على أساس قدر مشترك جامع و بين التنوع الذي ينبغي التيسير على الناس. اذ ترك بعض مفكري الاسلام في العصر الحديث أمر التكلّم بالفصحى في اطار الواجب المشروط بالاستطاعة فظل التكليف قائماً مفتوحاً و ظل الموقف واقعياً مرناً لا مثالياً صارماً. و يختم المؤلف هذا الباب بالأقرار بأن التطبيقات المباشرة للعوامل المتقدمة لا تعدو أن تكون دواعي لتحقيق التعايش بين الفصحى و العامية و تيسير التفاهم المتبادل.

الباب السّادس: برنامج التحوّل

(جدلية الحوار والقرار)

يعوّل المؤلف على أساسين أوّلهُما الحوار و ثانيهما القرار اذ يرى ضرورة أن نبدأ بالحوار من أوّل؛ من بحث الازدواجية و مزايا الفصحى و نمضي فيه خطوة خطوة في بعده اللغوي الممتد من البحث اللغوي الى المؤسسات المباشرة (التعليم) و شبه المباشرة (الاعلام)، ثم يأتي القرار السياسي كتشريع شامل يتعهّد هذا التوجّه و يضع الأُطر اللازمة. و يلمح الى أن التحول للفصحى يمثّل مراهنةً على المجهول ما قد يكون سبباً في تردّد أصحاب القرار السياسي في تبني هذه المشروعات، بينما يحتاج الناس الى أن يُبيّن لهم أن رضاهم بواقعهم اللغوي كظنّهم بأنه لا أحسن ممّا كان فلا يتهيئون لتطوير واقعهم.

الفصل الأول: الحوار من أجل القرار

يتعلّق التحدث بالفصحى في حياة الناس فمن الحق اذن استطلاع آراءهم نحوها اذ ينبغي دراسة ما نظنّه به من ‘أن تباين اللهجات يخل بالانسجام الاجتماعي’ حتى يكون له سنداً موثّقاً، فلا بد ان يقترن اصدار تشريع يلزم الناس بالفصحى في المؤسسات بمسوغاتٍ كافيةٍ. اذ ان المجتمع هو المجال الحيوي لتبني الفصحى فلا سبيل لتحقيق التحوّل ألا بقبوله. يشير المؤلف الى ان قبول المجتمع العربي بالتحول للفصحى أيسر من قبوله في المجتمعات الأخرى ما يجعل ردود الفعل تجاه القرار السياسي الخاص بالتحول ايجابياً، و رغم ذلك يدعو الى ايجاد المناخ الداعي الى اختيار الفصحى، فهو يميل الى أخْذ التحوّل على وجه الاختيار و بنحوٍ تدريجيٍّ. يقرّ بأن تعديل الموقف السلبي للدراسات اللغوية و النفسية تجاه العامية باعتبارها حالة فاسدة من حالات الفصحى من كونها ترتبط بالفصحى بروابط تاريخية و تشترك معها بمظاهر عدّة لكنّه يؤكد على أن ذلك لا يمنع من أن تؤدي اللهجات الى تشقق في ملامح المجتمع العربي و تكريس الازدواجية و اعاقة التواصل التلقائي و تعقيد الوضع اللغوي بحيث يصعب توجيهه لمصلحة الأمة.

ويرى التّواصل أحدى المنطلقات المُقنعة لمشروع التحوّل الى الفصحى في مخاطبتها الناس باقناع. ثم طرح تساؤلات على هذا المستوى عن: اسهام التحول في تنمية المجتمع، و مدى خلق التحوّل فرصا متساوية للجميع، و مدى تعضيده لوحدة المجتمع، و تسهيله سُبل الاتصال بالمجتمعات الأخرى في التواصل. يلح المؤلف على ضرورة الحوار مع الناس حتى يكون التحوّل على بيّنةٍ و استشعارهم مصلحتهم منه مثل تجنيب الناس التحيز الاداري على اساس لهجيّ، و الحساسية الاقليميّة، و حلّ مشكلة ضعف تعليم الطلبة للعربية، ونفي التفاوت في التصنيف الاجتماعي، و تهيئة سبل التواصل على المدى العربي العريض، وتقريب فهم القرآن الكريم و تذوّق الشعر و الارتقاء الثقافي و غيرها. و يرى أيضاً ضرورة مناقشة بعض المواقف الايدلوجية لبعض الحركات السياسية التي تتعاطف مع اللهجات على اساس انه تعاطف مع الجماهير، و يرى لهذا التعاطف وجوهً مغايرةً اذ محو الأمية و نقل الجماهير الى مستوى لغوي ينتظم الجماعة أمثل في أزالة الفروق و عناصر الاختلاف و تحقيق المساواة و تحاوز الاكليروس اللغوي. و تسائل عن كيفية تغيير لغات الأبناء الأم أم لغات أمهاتهم التي يكتسبونها في البيت. أشار في هذا السياق إلى دور الأبناء في تحويل لغات الأباء انطلاقاً من تأثير لغة الأبناء في لغة الأباء التي أاكد على ضرورة بحثها بشكلٍ منهجيٍّ مفصّلٍ. و ذكر بأن التخطيط اللغوي يمكنه أن يسترفد معطيات اجتماعية و سكانية و يضعها في برنامج يلتزم فيه كل طالب من أجل محو أمية أهله أو أهل حيِّهِ. و اقترح في الأطار اللغوي المحض فَرز قواعد العربية المنطوقة و وضعها في كتابٍ رشيقٍ تتضح فيه صيغةٌ أكثر مرونة و أقرب للايجاز بحيث تجعل الحديث بالفصحى غير مصطنع. و اقترح في سياق ترجمتها عملياً أن: تُجسّد هذه الصيغة في برنامج تعليمي متلفز، أو جعلها في حديث الناس ضمن برنامج عن مسائلهم اليومية، أو وضع كتاب في التعبير الشفوي حولها اضافةً الى استطلاع رأي الناس بهذه الصيغة. ثم يدعو بعد عرض قضية التحوّل في اطارها اللغوي الى حوار بين المعلمين و البيت و وسائل الاعلام من أجل التعاون بينهم بهذه القضية، و حوار بين المجمع اللغوي و الصحافة و الاعلان و الاعلام حول الألفاظ الفصحى، و حوار بين الجامعة و وزارة التربية حول منهاج اللغة العربية و غيرها بما ينسجم مع نتائج دراسات الجامعة حول القضية، و عقد ندوة جامعة للمتحدثين بالفصحى بشكل فردي لمعرفة دوافعهم على ذلك و المصاعب و غيرها.

يرى المؤلف التخطيط يسير في سلسلة من الحلقات الممتدة بحيث تتدرج التدابير الاجرائية المقترحة في بناء الفصحى على الزمان من الطفولة عبر مراحل العمر و تحاول تحقيق وضعاً واقعياً متوازناً للفصحى عبر تعميمها و اتاحة المجال لتلقيها بالسّماع. و هذا كلّه يدل على أن قضية التحوّل ليست قضية اللغويين وحدهم. هي تبدأ لغوية من المؤسسات المباشرة (المدرسة و الجامعة و المجمع) و لكنّها تمتد الى الاعلام و البيت و أصحاب القرار السياسي. و يثير قضية في هذا الأطار و هي أن كل مختص يتّجه الى غاية مركزية؛ ينصرف معدُّ نشرة الأخبار مثلاً الى توجيه اعلامي معين، و يوجّه كاتب القصة القصيرة رسالةً اجتماعيةً او بلاغاً معيناً، و يستهدف صائغ البيان السياسي أثراً جماهيريا، و هكذا قد يبدو مستهجناً تحميل هولاء أيضاً عبءَ تعليم اللغة العربية الفصحى. لكنّ المؤلف ينفي القطيعة التامة بين المؤسسات المباشرة و غيرها بحجّة التمايز الذاتي أو التخصّص و الاستقلال و يدعو الى تنسيق الجهود بين كل هذه المؤسسات. و يشكو المؤلف من غياب سلطة مركزية أو سياسة موحّدة تسهمُ في تخفيف آثار الانفصام في أطار الدولة أو المستوى العربي جميعاً ما يدفع الى ضرورة البحث عن اطار تنظيمي جامع أو قرار سياسي. و يشير الى أن أصحاب القرار السياسي ربما لا يرى ما يراه المطالبون بالتحوّل مسألةً بتلك الحيوية و الخطورة. و يشدّد ختاماً على الحاجة الى طَرح موضوعي مستفيض يبدأ بالمدرسة و الجامعة و المجمع. لكنّه يشكو من دور هذه المؤسسات المتراخي في هذه القضيّة. فلا غرابة ان كانت هذه حال المؤسسات المباشرة أن لا تكون القضية مرشّحةً لأن تكون قضية حيوية لدى الرأي العام و بالتالي لا تحتل موضع اعتبلر جدّي لاتخاذ بشأنها قرار سياسيّ شامل.

الفصل الثاني: القرار السياسي و التراتيب الأداريّة

يرى المؤلف أن القضية اللغوية لا تقوم في الفراع، فليس حلّها لغوياً خالصاً بل تمتدّ الى حياة المجتمع فتؤثر فيها و تتأثر بها، و هي مرتبطة كذلك بالمؤسسات القائمة و لهكا تصبح التدابير اللغوية الخالصة جزءاً من كُل بحيث تبقى محدودة الأثر أنْ عملت فقط بقوتها الذّاتية. و لهذا، يتطلع بعض العاملين في حقل اللغة الى السّلطة التي تمتد سلطتها الى جميع المرافق و تملك القدرة على التنفيذ بزمن قصير بينما يرفض أٓخرون القرار السياسيّ في الشأن اللغوي لأن الايمان باللغة ان لم يكن نابعاً من نفوسنا يظلُّ شكليّاً. يميل المؤلف الى فكرة التنسيق مع السلطة و يستشهد بقولٍ لكونفشيوس: لو أتيح لي الحكم لبدأت باصلاح اللغة. يرى أن القرار السياسي أيضاً ليس معلقاً في فراغ بل مرتبط عضوياً بالمؤسسات التفصيلية و استعداداتها الموازية الكافية لتنفيذ القرار، و لكن يرى المحاولة أولى من تعليق القرار السياسي الى تمام استعداد القاعدة و استكمال قدرتها على الاستجابة. و يبيّن أن المقصود بالقرار السياسي هنا ليس أمراً علويّاً مجرّداً انما هو قرار المعطيات الموضوعيّة المتاحة و الشروط اللازمة التي ينبغي توافرها. لخّص المؤلف هدف الفصل في ١. تتبّع بعض أمثلة القرار السياسي و تأسيس مشروعيته ٢. تتبّع بعض المجالات التي اتخذت فهي قرارات سياسيّة. و بيّن انّ القرار السياسي في مضمونه العملي سنة مأثورة فينا يدل غلى قوته حديث “انّ الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن، و قرار جمع القرآن في عهد أبي بكر، و قرار جمع الناس على مصحفٍ أمامٍ في عهد عثمان. و ذكر مثلاً على قرار سياسيّ قديم يخصّ اللغة هو قول عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري في كاتبهِ الذي لَحَنَ في بعض كتابه: قنّع كاتِبكَ سوطاً. و ذكر أمثلةً على قرارات سياسيّة حديثة بشأن اللغة مثل أ. تغيّر لغة الدولة أيام الحكم الفيصلي من التركيّة الى العربية الفصحى ب. حملة التعريب في الجزائر في صيغة قرار جمهوري ج. قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية في العراق عام ١٩٧٧م د. مشروع قانون اللغة العربية في مجمع اللغة العربية الأُردني عام ١٩٨١م. و ألمح الى انتقادات وُجّهت الى هذه القرارات مثل انتقاد عثمان سعيدي لحملة تعريب المحيط في الجزائر التي سمحت للعمال و الباعة أنفسهم بتعريب محلاتهم وفق ما يشاءون ما أدى الى اخطاء جسيمة بالعربية. و لكن رأى المؤلف امكانية تدارك المآخذ في تدابير اصلاحية جزئية التي لا يضيق بها البرنامج الثوري الشامل. و رأى أنّ القرار قد يكون مرحلياً جزئياً غير مستغرق لجميع الشروط، فهو يحتاج الى الشمول و المتابعة و ملاحقة الظروف التي ربما تفضي الى الانتكاس. و لا ريب أن المتابعة و استطلاع المعطيات ستؤدي الى تدارك الانتكاس اذ ان من طبيعة القرار ان يتفاعل مع المواقف المتباينة و الاّ لظلّ كل شيء معلقاً أو معوّقاً.

فمن الطبيعي أن تختلف الأراء حول القرار السياسي و هذا يُسهم في تطوير الحوار. و من أمثلة التباين حول القرار السياسي، تفسير لويس عوض محنة الرواية و القصة بقرار المجلس الأعلى لرعاية الفنون و الأداب في مصر الذي ينص على ضرورة استعمال اللغة العربية الفصحى فقط و تجاهل الحوار العامي في الرواية و القصة. ومن الأمثلة أيضاً على التباين حول القرار و التفاعل المستمر مع الظروف، أنه تبيّن لمجمع القاهرة أن تحقيقاته ستظلّ شبه معطّلة، فجهد في اصدار وزير التربية و التعليم الاجراءات التي تكفب تنفيذ نتائجه، و خصّص لجنة لألفاظ الحضارة تبحث في ألفاظ الحياة العامة، و قررتنبيه أصحاب الجرائد و المجلات الى استعمال الكلمات التي وضعتها لجنة كلمات الشؤون العامة حينما استشعر بالسباق بين الفصحى و العامية و أدركه لأهمية الصحافة في نشر الفصحى. و قرّر توجيه الانظار الى الأخطاء في الأذاعة و السينما بل طمِح الى الاشراف عليها. و قرر الاتصال بالوزارات و المصالح و غرف التجارة لارسال مندوب يبحث معه بشأن العبارات و الكلمات غير الصحيحة التي يستعمونها، و توجٍه الى المؤسسات التعليمية مثل جامعة الأزهر و جامعة القاهرة و غيرها في شأن اللغة الفصحى. و يعود المؤلف ثانيةً الى التأكيد على  أنّ قضية العربية ليست مسؤولية لغوية خالصة و ان الجانب اللفوي يمثل فيها بُعداً واحداً، و انّ ضبط الأبعاد الأخرى جميعاً على مقتضى التكامل و الاتساق يتجاوز المسؤولية اللغوية الخالصى الى المسؤولية السياسيّة العامّة.

الفصل الثالث: بعض التدابير الاجرائية المقترحة

يرى المؤلف في القرار السياسي على مستوى التحوّل للفصحى تجديداً للقرار العثماني التاريخي بجمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ و يقرّ بصطدام تدابير قرار التحوّل بمعطيات الواقع كأن يُنظر اليه باستخفافٍ خاصة فكرة تعليم الأبناء لأٓبائهم مع أن لها شواهد واقعية أو يصطدم القرار بالأحساس بالعجز عن تحقيق الشروط اللغوية اللازمة او اعتباره غير ضروري. و لكنه يرى بأن الغاية العليا ستكون دائماً دليلاً في فتح قنوات الحوار و تذليل الصعوبات. و يرى من الخير ان ينتظم القرار التدابير التي يقترحها على مستوى جمعي و يقر بامكان تطبيقها على مستوى قطري ضمن التنمية الوطنية بحيث يتم تعميم الفصحى من خلال وضع الناس في الظروف الطبيعية ابتي تفضي الى ذلك و يعتادوه و بهذا يتشربون الفصحى. و هذا يتطلب تهيئة الظروف و استكمال المؤسسات و تيسير السبل لاكتساب الفصحى ما يختصر حل جُلّ مشكلات التنمية الشاملة. و يشير الى أن شجرة العاميات تنبت و تستغلظ في تربة الأمية و لهذا يحض على القضاء عليها حتى تنجح التدابير المقترحة، و هذا يُحتمُ البدء بالأم و الطفل.

بعض التدابير المقترحة

  • في الدرس اللغوي (الفصحى و لهجاتها) : ١. اعداد فهرس للسمات الصوتية و الصرفية و النحوية و المعجمية الخاصة في اللهجات العربية القديمة و الحديثة ٢. تعميم سلسلة من البحوث و الندوات بالفصخى تناقش مظاهر التباين بين اللهجات ٣. اعداد دليل شامل للمقارنة بين كل لهجة و بين الفصحى و وضع أسس قياسية توضح العلاقة بينهما ٤. اجراء دراسات مقارنة بين العامية و العربية الوسطى، و بين العربية الوسطى و الفصحى لتحديد العلاقة بين هذه المستويات
  • في التعليم: ١. وضع تأليف في قواعد العربية المنطوقة يُراعى فيه الرُّخص في مواقف الخطاب الشفوي ٢. تعميم برنامج مسلسل في المحادثة بالفصحى يقوم على قواعد العربية المنطوقة ٣. انتاج سلسلة من البرامج التلفزيونية و الاذاعية لتعليم الفصحى للمبتدئين ٤. ربط كل كتاب مدرسي مقرّر في المرحلة الابتدائية الاولى بأشرطة مسجلة لنصوص الدروس ٥. تحرير الكتب المقررة تحريرياً لغوياً من كل خطأ ٦. جعل الفصحى لغة التعليم العام و لغة التعليم الجامعي و جعل اتقان الفصحى شرط تعيين بالجامعة.
  • في أدب الطفولة: ١. انتاج زُمر من الأغاني و الأناشيد الرشيقة للطفولة بالفصحى ٢. فرز قصص الطفولة المترجم و الموضوع و استبعاد العامي ٣. انشاء مؤسسة لأدب الطفولة تهيء المواد المناسبة منه بالفصحى.
  • في محو الأمة: برنامج شامل لمحو الأمية
  • في الحياة العامة: ١. برنامج اذاعي تلفزيوني مسلسل تقدمه أم لطفل في بدء الكلام و تناغيه و تدربه بأداء صحيح عذب. ٢. برامج مماثلة فيها محادثات اولية بالفصحى على مستوى الطفولة ٣. برامج مصوّرة تتناول حياة الأولاد في الحي على شكل حكايات و مواقف مذاعة و متلفزة ٤. برنامج يتناول حياة الأسرة في بيتها و يستغرق في قصة مسلسلة وجوه استعمال الفصحى ٥. انتاج سلسلة من البرامج التلفزيونية و الاذاعية عن الحياة اليومية تتناول مثلاً حياة الفلاح او الراعي او الموظف او البائع باللغة الفصحى ٦. تعريب اللافتات و أسماء المحال و كل وجوه الأعلان و كل مظهر مكتوب ٧. نشر معجم مصوّر بألفاظ الحياة العامة يعتمد على الشائع ما كان له صلة بالفصحى أو معرّب قياسياً او مستخرج من المعجم القديم ٨. تعيين هيئة دائمة من المجمع اللغوي لوضع مقابلات عربية لكل مستجد.
  • في الادارة: جعل اتقان الفصحى شرطاً في كل تعيين لوظيفة ادارية أو كتابية
  • في الفنون: اقتصار المسرح و صناعة الأفلام و نصوص الأغاني على الفصحى
  • في لغة الكتابة: ١. تعيين محررين لغويين لتصحيح لغة الصحافة. ٢. منع المطابع من طبع كتب أو رسائل جامعية بالعامية
  • في وسائل الأعلام المسموعة و المرئية: 1. عدم بث أية مادة اذاعية او تلفزيونية الا بالفصحى ٢. قَصر البث من القمر الصناعي العربي على الفصحى ٣. اعداد العاملين في التلفزة و الاذاعة اعداداً صوتياً لغوياً
  • في نقل التحدث بالفصحى من الاطار الفردي الى المجال الاجتماعي: انشاء نادٍ للتحدّث بالفصحى في كلّ مدرسةٍ و كلية و حيّ و قريةٍ و مصنعٍ و مزرعةٍ

خاتمة أم فاتحة

انحسرت الدعوة إلى العامية بسبب مواجهة الفصحى وأضرارها ولكنها ما تزال تنبت فينا وما يزال دور المؤسسات إصلاحياً محدود الأثر. ويتمنى المؤلف أنه تمكّن من تبيين قضية التحول من كل أبعادها وأنه حفّز همم الناظرين في هذه القضية الى مزيدٍ من الحوار حتى تصير قضية رأي عام وتحفز القائمين بالأمور على اتخاذ القرارات وتنفيذها، ويتمنى أن تتهيأ الظروف جميعاً للتحوّل إلى الفُصحى لغةً للحديثِ في العالم العربي الحديث.

فيديو مقال قضية التحول إلى الفصحى

 

أضف تعليقك هنا